كما الحياة، يدور مصعد "الباترونستر" ويدور، ولا يتوقف للراكب أبداً، فحجراته المفتوحة دائمة التحرك كدوران المسبحة في اليد، بالكاد تتيح للمرء إمكانية القفز منه أو إليه في الوقت المناسب للانتقال من طابق إلى آخر، وكأنه الانتقال من تجربة إلى أخرى في الحياة. وبطبيعة الحال، فإن أي خطأ في تقدير الوقت الملائم، للدخول إلى المصعد أو الخروج، منه قد يعرض الراكب لبتر في أطرافه أو لإصابة قاتلة.
في منتصف السبعينيات، توقف تصنيع مصعد "الباترونستر"، الذي كان شائع الاستخدام في النصف الأول من القرن العشرين في أوروبا، وذلك بقرارات حكومية بعد أن تسبب في عدد من الوفيات والإصابات معظمها من الكهول والأطفال. واليوم يوجد حوالي ثلاثمائة مصعد فقط في ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا، وثلاثة فقط خارج أوروبا في البيرو وسيرلانكا والفلبين.
"باترونستر" هو اسم المجموعة التي تشكِّل الجزء الأكبر من أعمال الفنانة الفلسطينية سوزان حجاب ضمن معرضها الاستعادي المقام في مؤسسة عبد المحسن القطان في رام الله بتنظيم من مؤسسة المعمل للفن المعاصر. المجموعة التي أنجزت ما بين سنتَي ١٩٨٦ و١٩٩٥ وتشبه في شكلها الخارجي مسلات بكتابات هيروغليفية، لا تخلِّد قصص حروب وانتصارات ولا تسن قوانين وتشريعات، وإنما تدوِّن فيها الفنانة تفاصيل من حياتها الشخصية في الشتات، وتتناول تجربتها في الرحيل والتنقل من محطة إلى أخرى في الحياة. الرحيل، موضوع محوري في أعمال حجاب سواء بمعناه المادي، أي الانتقال من مكان إلى آخر، أو بمعنى الارتحالات والتحولات العاطفية والنفسية.
ولدت حجاب في يافا فلسطين في سنة ١٩٤٢، وانتقلت مع عائلتها إلى الإسكندرية إثر النكبة، وفي التاسعة عشر من العمر غادرت مصر إلى ألمانيا من أجل الدراسة في الأكاديمية العليا للفنون في أوفينباخ. وباستثناء قضائها بضعة أعوام في بيروت في السبعينيات، تعيش حجاب في فرانكفورت منذ ذلك الحين.
لم يسمع الكثيرون عن حجاب، ولا حتى زملاؤها من الفنانين الفلسطينيين الرواد. وكان المعرض الأول لها في فلسطين قد أقيم في القدس في سنة ١٩٩٧، وجاء بعد أن سمع جاك برسكيان مدير غاليري "أناديل" من ممثل معهد غوتة بوجود فنانة فلسطينية ناشطة في المشهد الفني في فرانكفورت، فعقد العزم أن يقابلها، وأن يطلع على أعمالها، ومن ثم نظَّم لها معرضاً تحت عنوان "باترونستر".
ويأتي المعرض الاستعادي هذا، للتعريف بمجمل أعمال سوزان حجاب، وتقديراً واعترافاً بمسيرتها الفنية التي لا يعرف عنها الكثيرون، وقد نظم المعرض في القدس في العام الفائت، وشمل أكثر من ٥٠ عملاً قبل انتقاله إلى رام الله اليوم للمرة الأولى، موفراً فرصة نادرة أمام الجمهور الفلسطيني للتعرف على أعمال فنانة فلسطينية من الرواد، لم تحظ بعرض لائق لأعمالها في وطنها فلسطين من قبل.
أنجزت حجاب معظم أعمالها في مرسمها وهو عبارة عن غرفة صغيرة في بيتها في فرانكفورت، ويفسر ذلك حقيقة كون أعمالها الكبيرة مقسمة إلى عدد من الأجزاء، نظراً لعدم إمكانية إنجاز أعمال كبيرة في تلك المساحة الضيقة.
تعتبر حجاب مصعد "الباترنوستر" آليَّةً للرحيل، تسمح بالتغيير المستمر ولكن بمصاحبة خطر دائم وخوف داهم. فالخوف المصاحب للانتقال عبر المصعد عند القفز من الحافة إلى المصعد، ومن المصعد إلى الحافة في كل مرة، يشبه الانتقال من مرحلة وجودية إلى أخرى في الحياة، أو من تجربة إلى أخرى. ونرى "الباترونستر" عمودياً متكرراً في كافة أعمالها، وتبرزه حجاب طولياً من خلال اللونين الأبيض والأسود خلافاً للألوان المستخدمة في الأجزاء الأخرى من اللوحة. وفي المصعد، ترسم أشخاصاً بظلال سوداء يقومون بحركات مختلفة، بعضهم يحاول القفز، وبعضهم الآخر يرفع يديه إلى الأعلى في محاولة لمنع انزلاق حجرة المصعد فوق الجسد، والبعض الآخر يتمدد بشكل أفقي وكأن أمامه بضع لحظات فقط قبل أن تسحقه حجرة المصعد وتنزلق فوقه. وترسم حجاب داخل اللوحات خطوطاً أفقية وعمودية تحصر في كل منها جزءاً من عالمها الداخلي. وتبدو وكأن بعضها ينزلق داخل الآخر، في حركة دورانية بلا بداية أو نهاية. إنها فوضى منظمة داخل الإطارات المربعة تشمل شخوصاً مبهمة، نساءً ورجالاً، وحكايات كثيرة غير واضحة، تعمها فوضى من الخطوط. فيظهر في بعض المربعات أشخاص عبارة عن شموع ذائبة، ومآدب طعام، ومناسبات اجتماعية وشخصية، وحميمة، تلفها حالة من الندوب والألم. تقول حجاب: "أحب الفوضى التي نعيشها في العالم العربي، وأنا لا أقلد الفوضى، ولا أسعى إلى تغييرها."
ترسم حجاب نساء ثائرات على ظلم المجتمع واضطهاده، وتتخلل لوحاتها كثيراً من الأجساد، أحياناً بندوب وجروح ظاهرة، وعندما يتعلق الموضوع بالمرأة، تقول "العالم العربي بحاجة إلى التغيير". من خلال أعمالها تبرز حياة الفنانة المحفوفة بالصعاب، والندوب النفسية والعاطفية التي أحدثها العيش في المنفى، وما ترتب عليه من شق طريق صعب كفنانة فلسطينية، وكامرأة في الغربة. ولعله من غير المستغرب أن الرحيل يشكل موضوعاً محورياً في أعمالها الفنية، فهي تجربة تجسد حالة دائمة من عدم الاستقرار، أو المغادرة المستمرة من مكان إلى آخر، ليس جغرافياً فحسب وإنما نفسياً وعاطفياً أيضاً. تنظر حجاب إلى حياتها عند الحديث عن تجربتها الفنية وتقول "حقوقي لم يتم احترامها يوماً. يصدمني المجتمع والعائلة وكل شخص باستمرار، لذا أحب أن أستفز". أما الحافز الذي دفعها للرسم، فتقول: "إنه صراعها الداخلي الذي لازمها خلال حياتها الشخصية والفنية، وكفاحها كامرأة، كفلسطينية، وكمهاجرة في بلد غربي، وكذات معقدة، متعددة."
تتجزأ تشكيلات حجاب وتتفتت في شتى أنحاء اللوحة، وتستخدم الظلال وتباينها، والألوان، والضوء لتبرز هذا التذرر، وتركز أعمالها على الرحيل الجسدي والنفسي، والتأثير الذي أحدثه فيها، فتتحوّل جميع ندوبها النفسية إلى ندوب جسدية تظهر أمام المشاهد بوضوح معبرة عن ألم داخلي. في إحدى اللوحات، يظهر كرسي أمامه طاولة يتمدد عليه جسد، وكأنه في مشرحة. وتبرز شخوص وأجساد مشوهة ومشرحة بجروح كبيرة غائرة أو مرممة على عجل في معظم لوحاتها. وتبدو شخوصها بدائية محصورة في مربعات لوحات رسمت بنمط فطري. وتقول: "استمديت قوتي للرسم من القراءة"، مضيفة أن "البدائية مهمة في عملي، يجب ألا ننمق كثيراً. فلدى الإنسان بعض العناصر الأساسية والضرورية التي أحاول أن أعبر عنها من خلال أعمالي".
ترسم حجاب "ألف ليلة وليلة"، وبينما تتصدر امرأة اللوحة، تظهر على رف جانبي رؤوس مقطوعة لنساء أخريات معبرة عن مصير نساء شهريار في كل مرة تظهر امرأة جديدة. مجموعة من اللوحات الأخرى من القطع الصغير تحت عنوان "أفغانستان" تتصدرها أجساد دون رؤوس، وتعكس نظرة المجتمع للمرأة كجسد.
وتستخدم حجاب ألوان أرضية في معظم أعمالها، ولكنها ترسم عهد التميمي، الفتاة الفلسطينية الناشطة التي أسرها الاحتلال الاسرائيلي سنة ٢٠١٨ ثم أطلق سراحها، في إحدى لوحاتها الأخيرة، على شكل شجرة حمراء تبدو وكأنها نار منبعثة تضيء ما حولها. يحتوي المعرض على بوستر نادر لتل الزعتر ينتمي إلى سنة ١٩٧٧، تبدو فيه امرأة تحمل بندقية وترفعها عالياً بحركة ثائرة.
يستمر "الباترونستر" في الدوران، وكذلك حياة الفنانة سوزان حجاب في المنفى، بعد أن تم القفز بنجاح من حجرة المصعد لتوثيق جزء من أعمالها وإتاحتها أمام الجمهور الفلسطيني في الوطن بفضل جهود فردية.
(يستمر المعرض الاستعادي لسوزان حجاب من ١٨ كانون الثاني/ يناير حتى ٢ نيسان/ أبريل، مؤسسة عبد المحسن القطان/رام الله).