الكتابة عن تاريخ دروز فلسطين وما حل بهم منذ الانتداب البريطاني حتى الآن مهمة شائكة وشاقة، لحساسية الموضوع ولما اعتراه من غموض وما حواه من مغالطات ولتأثره الشديد بالموقفين السياسي والمذهبي، ولا مبالغة إن قلنا بأن تناوله أكاديمياً ليس سهلاً، فهو بحاجة إلى قدر عالٍ من الشجاعة الشخصية، والثقافة العالية، وامتلاك لأدوات البحث التاريخي، والنزوع نحو الموضوعية والصرامة العلمية.
أهمية الكتاب
لا شك في أن تناول المؤرخ الفلسطيني الراحل قيس فِرّو لهذا العنوان "دروز في زمن الغفلة من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية" منحه زخماً كبيراً خصوصاً وأن تاريخ دروز فلسطين هو في صلب مشروعه التأريخي منذ أن نصحه به الراحل ألبرت حوراني، وقد زاد من أهمية الكتاب أنه نحته من منظور معرفي ونظري متجاوز للرواية الصهيونية التي نسجها المؤرخون الصهاينة بناءً على الأرشيفات الصهيونية وعكسوا فيها رؤية كوادر الحركة الصهيونية في عهد الانتداب وبنوا سردية تاريخية للعلاقة "طبقاً لحاضرها المتصور عندهم"( ص1)، وظلت روايتهم مهيمنة حتى وقت قريب.
وهذا المنظور هو جزء من حالة وعي فلسطينية شقت طريقها رغم النكبات وراكمت معرفة تاريخية أهَّلتها لفهم أعمق للقضية الفلسطينية وللمساهمة في بناء سردية تاريخية مغايرة، وقد بدا هذا واضحاً في خلاصات الكتاب، سواءً في استنتاجه بأن الدروز وقعوا ضحية سياسات الحركة الصهيونية التي نجحت نسبياً في "ترويض وتهجين القيادات الدرزية وشرائح من الطائفة" (ص 366)، مستغلة عزلتهم في قرى جبلية، وضحالة تصوراتهم للمشروع الصهيوني، وغفلتهم وشعورهم بالخوف من المستقبل، أو في إثباته أنه لم يكن هنالك في الواقع "حلف دم" بين الدروز ودولة الاحتلال، وأن هذا الشعار ما هو إلا أداة في يد المؤسسة الرسمية الإسرائيلية تدفع بها الدروز للتشبث بالولاء لها، ويستخدمها بعض الدروز لحثها على "رد الجميل لهم" (ص 5)، أو تأكيده بأن دولة الاحتلال تعاملت مع الدروز في الشأن الاقتصادي بالطريقة نفسها التي تعاملت بها مع باقي الفلسطينيين في الداخل المحتل، وأن دمج الدروز في الجيش والمؤسسة الأمنية لم يحمهم من سياسات مصادرة أراضيهم، وتهميش بلداتهم، وأن المجهود الصهيوني لم يمنع من ظهور حالة رفض درزية لحمل البندقية الإسرائيلية وتهجين الهوية.
في المنهج التاريخي والتعامل مع المصادر
حوى الكتاب بعضاً من خلاصات فِرّو حول منهجية الكتابة التاريخية، منها أن المؤرخ ليس بمقدوره أن يعيد كتابة الماضي ولا "كشف الماضي من خلال مصادره، بل يستطيع كشف المصادر فحسب"، ومع ذلك فهو لا يكتب سردية أدبية متخيلة، لأنَّه يعتمد أساساً "على مصادر تحمل في طياتها قرائن تدل على حدوث أحداث قام بها أناس حقيقيون، عاشوا في الماضي" (ص 192)، وهذه القرائن التاريخية" لا يصبح لها معنى في الكتابة التاريخية إلا بعد تدخل المؤرخين وتفعيلهم منهجيات معينة في تأويلها" ( ص1)، كما حوى تصوراته حول الأرشفة عموماً والأرشيفات الصهيونية بشكل خاص، فالأرشفة عنده "عملية انتقائية محكومة باهتمامات ورغبات فريق مشتغل فيها، وهي، بالتالي، لا تنقل الأحداث كما جرت في الماضي، بل تنقل أوصاف أحداث" (ص 1)، والأرشيفات الإسرائيلية "أوصاف أحداث، تمتزج فيها نوازع واهتمامات واصفيها المتأثرين بالسياقات السياسية والثقافية التي عملت فيها الحركة الصهيونية على تحقيق أهدافها الاستيطانية" (ص 2).
في نقد الخطاب الصهيوني حول الدروز
عدَّ فِرّو يتسحاق بن تسفي، أول من صاغ الخطاب الصهيوني الإعلامي والأكاديمي حول الدروز، ناحتاً مقولاته التأسيسية: أن الدروز تاريخياً "يحبون اليهود" وأنهم جماعة تشبه "الأمة اليهودية" في كونهم أقلية وعانوا من الاضطهاد، وأن لديهم قدرة على التكيف باستخدام التقية التي يعتبرها الصهاينة "الأداة المعرفية التي تفسر قدرتهم على التكيف في الدولة الصهيونية وإظهار ولائهم لها" ( ص 11)، وقد ناقش فرّو هذه المقولات بالرجوع إلى النصوص التي اعتمدت عليها، وأثبت هشاشة هذه المقولات، وانتقائيتها، وعجزها عن تفسير تاريخ الدروز وعلاقاتهم بمحيطهم، في المقابل أكد بأن تاريخ الدروز المعاصر شهد بروز نخب تبنت هويات جماعية عابرة للطوائف، ونادت بإسلامية المذهب الدرزي وأصل الدروز العربي وانتمائهم إلى الوطنية السورية، أمَّا دروز فلسطين فظلوا، برأي فِرّو، ملتصقين بهويتهم الطائفية قبل نكبة سنة 1948 وبعدها، وذلك لأن القرى الدرزية في فلسطين كانت معزولة في الجبال، ولم تشهد "تغيرات اقتصادية واجتماعية تساعد على ظهور شريحة متعلمة قادرة على استيعاب مفاهيم وطنية وقومية" وبسبب جهود الحركة الصهيونية في أوساطها.
الدروز في أجندة الحركة الصهيونية.. التاريخ العملي
قامت الاستراتيجية الصهيونية تجاه الدروز على عقد اتفاق صهيوني درزي، يتضمن مساعدة دروز فلسطين ضد أي اعتداء عليهم، وتحييدهم في الصراع على فلسطين، وإنشاء علاقات مع قياداتهم في حوران ولبنان، وكسب ود دروز الجبل من أجل فتح أسواق جديدة للبضائع الصهيونية والاستيلاء على أراضي دروز فلسطين وطردهم من فلسطين. وبحسب فرو فإنَّ يتسحاق بن تسفي كان له الدور الرئيس في صياغة هذه الاستراتيجية، وكان لبعض كوادر الحركة الصهيونية دور في تنفيذها مثل آبا حوشي سكرتير نقابة الهستدروت في حيفا، ويوسف نحماني مدير مكتب الصندوق القومي اليهودي (هكيرن هكييمت) في طبريا، إضافة لبعض المتعاونين الدروز مثل يوسف العيسمي وحسن أبو ركن ولبيب أبو ركن وصالح خنيفيس وغيرهم.
توقف فِرّو عند بعض التفاصيل العملية للجهد الصهيوني، فشكك فيما جاء في الأرشيفات الصهيونية حول علاقات الصهاينة بسلطان باشا الأطرش، إذ رجَّح عدم دراية الأطرش بحقيقة آبا حوشي وتحركات العيسمي، وأظهر كيفية استغلال الصهاينة بعض الأحداث ذات الطابع الطائفي لجر الدروز إلى مربعهم، بتهويلها وتسويق أنفسهم باعتبارهم مساعدين للطائفة الدرزية، وأَثَر الوجود الصهيوني في خلق تجاذبات بين العائلات الدرزية، ومحاولات الحركة الصهيونية تحييد الدروز عن المشاركة في ثورة 1936. وبيّن ظروف تبلور خطة ترحيل دروز فلسطين، والقائمين عليها، والمراحل التي مرت بها، وأكد ظهورها سنة 1937، وأنها من بنات أفكار الحركة الصهيونية ولم يكن سلطان باشا الأطرش على علم بها ولا وافق عليها، كما زعم تقرير لآبا حوشي، وقد استدل على ذلك بموقف سلطان باشا الأطرش المساند للقضية الفلسطينية، وبكون التقرير رواية يتيمة لا يوجد ما يسندها واختلقها صاحبها لإقناع قادة الحركة الصهيونية بجدوى تحركاته، ورأى بأن الحرب العالمية الثانية وتداعياتها كانت سبباً رئيساً في تعطيل الخطة، بالإضافة إلى معارضة وجهاء الدروز لها، فتحولت أولويات الصهاينة إلى تشجيع الانتماء الطائفي عند الدروز وفصلهم عن المسلمين، وربط مصالحهم الاقتصادية بالاقتصاد الصهيوني، مع الاستمرار في الاستيلاء على أراضيهم.
الدروز وحرب سنة 1948... التأريخ الاسترجاعي
عاين فِرّو الدور الدرزي في حرب عام 48، ولاحظ الجهد الصهيوني في تحييد الدروز واستمالتهم، ومحاولات الحركة الوطنية استقطابهم ودفعهم للمشاركة في الحرب، ثم توسع في نقاش دور فوج جبل العرب في الحرب وبعض المجموعات الدرزية الأخرى، مع التركيز على معركة هوشة والكساير وسقوط شفاعمرو، وصحح بعض المعلومات الواردة في كتابات بعض المؤرخين، وقدم تفسيراً للتحولات التي حدثت في الموقف الدرزي نهاية الحرب باتجاه مساندة المجهود الصهيوني.
وخلُص إلى أن بعض الكتابات التاريخية حول دور الدروز في الحرب تأثرت برؤية تاريخية استرجاعية محكومة بمآلات الأحداث وبغفلة عن المصادر، ومأخوذة بالدعاية الصهيونية التي أظهرت الدروز في صف الصهاينة في الحرب، كما في كتابات عارف العارف الذي أهمل مشاركة فوج جبل العرب في معركة هوشة والكساير، وغالب أبو مصلح الذي قلل من مشاركة الشيخ جبر داهش معدي فيها، وإيلان بابيه الذي اعتبرها معركة وهمية وأكد انضمام جميع فوج جبل العرب للجيش الإسرائيلي.
أما الأسباب الرئيسة للانقلاب في الموقف الدرزي، فيعيدها فِرّو إلى نتائج المعارك والخسارة الفادحة التي مني بها العرب والفلسطينيون، ولعامل اقتصادي تمثل في "قلق دروز دالية الكرمل وعسفيا وشفاعمرو ويركا على مصير محاصيلهم من القمح والشعير في السهول الواقعة بين جبل الكرمل والجليل الأسفل، فبدأوا بالضغط على وهاب كي ينزل عن شجرة كبريائه ويسعى للتفاهم مع القوات الصهيونية" (ص 168).
دروز ما بعد النكبة
رأى فرو أن السياسة الصهيونية تجاه الدروز في مرحلة ما بعد النكبة قامت على التعامل معهم بقانون العصا لمن عصى والجزرة لمن أطاع، والاستغلال السياسي لحاجاتهم، والتلاعب بحقوقهم، والعبث بالتوازنات العائلية، وقد اعتمد ساسة الاحتلال في حزب العمل "على الطريقة الزبائنية، منحت أصحاب القرار في الحزب، باعتبارهم رعاة ( patrons)، القدرة على تجنيد رؤساء العائلات في القرى باعتبارهم زبائن ( clients)، همهم الأول الاستفادة من جزرات السلطة" ص (255-256)، واتخذت العلاقة الزبائنية شكلاً هرمياً، يترأسه أصحاب القرار في حزب العمل، ووسطه زبائنهم من القيادات الدرزية التقليدية، وقاعدته قرويون (ص 258)، وقد استفاد قسم من هؤلاء الوسطاء من التطور الاقتصادي ومن الامتيازات الممنوحة لهم بوصفهم وسطاء. ويخلص فرو إلى أن غياب دور المعلمين أو النخب المثقفة في الوسط الدرزي ساهم في تكريس هذه السياسة.
أشار فرو إلى نماذج من هذه السياسة، منها ما جرى في قرية عسفيا من مصادرة ممتلكات البعض، في تعبير عن سياسة العصا، ومنح آخرين امتيازات، في تعبير عن سياسة الجزرة، ومنها ما تعلق بالموقف من بعض الرموز الدينية الدرزية، مثل محاولة بعض أصحاب القرار في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية سحب شرعية الزعامة الروحية من الشيخ أمين طريف" وإقامة "هيئة عامة، تكون بمثابة قيادة جماعية تحل محل الرئاسة الروحية التقليدية" (ص 249).
وركزت السياسة الصهيونية على صهر الدروز في المؤسسة العسكرية الصهيونية، من خلال تجنيدهم في وحدة الأقليات في الجيش الإسرائيلي منذ سنة 1948، ثم إدخالهم في الأجهزة الأمنية من شرطة ومصلحة سجون وغيرها. وقد توصل فرو إلى أن فرض التجنيد الإجباري على الدروز كان قراراً صهيونياً ولم يكن بطلب من الدروز أنفسهم، وبأن القرار جوبه بمعارضة واسعة كان في مقدمتها الشيخ أمين طريف الذي هدد المنضمين للجيش الإسرائيلي بالحرمان الديني، والامتناع عن المصادقة على الزواج وقد استخدم الرافضون للتجنيد عدة وسائل منها الاجتماعات العامة، وتقديم العرائض، ورفع دعاوى قانونية وغيرها.
وقد أظهر بأن نجاح عمليات التجنيد في الوسط الدرزي لم تؤدِ إلى حماية أراضي الدروز فقد خسروا ما نسبته 68% من الأراضي، وهي "أعلى من نسبة مجمل خسارة القرى العربية الأخرى من الأرض والتي وصلت إلى نحو 60% حتى بداية القرن الحالي" (ص 319).
خاتمة
لم يتعامل فِرّو مع دروز فلسطين باعتبارهم أبطالاً ولا خونة، وإنما حاول فهم ما جرى لهم، واضعاً تصوره عن تاريخهم في إطار الصراع في فلسطين ومحطاته المتعددة. لقد أزال كثيراً من الغموض حول مشاركتهم في النضال ضد المشروع الصهيوني منذ ثورة سنة 1936، واعترف بانكساراتهم وخيباتهم، وركن في كل ذلك إلى تاريخه الطويل في العمل الأكاديمي المتخصص، وخبرته الواسعة في التعامل مع المصادر، ولا نبالغ إن قلنا أنه قدم مساهمة رصينة على طريق تحرير تاريخ الدروز من هيمنة الأكاديمية الصهيونية.