مدارس التربية البديلة في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل: آفاق وفرص
نبذة مختصرة: 

تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على ظاهرة التربية البديلة في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، والتي تنطوي على تحدٍّ للواقع القائم بشأن التربية في هذا المجتمع، وسنتناول فيها موضوع التربية البديلة في مدرستين بارزتين لهذا النوع من التربية، فنسبر خصائصهما وتحدياتهما.

النص الكامل: 

 تملك مدارس التربية البديلة خصائص مميزة من حيث الجو التعليمي - التربوي الذي يجذب الطلاب إلى التعلم، وإلى الذهاب إلى المدرسة، ولديها منظومة العلاقات الودية بين المعلمين والطلاب، وتعمل على بلورة الهوية الوطنية، وتسعى لصقل شخصية بديلة، من خلال الأساليب التعليمية والممارسات التربوية البديلة.

إن القيمة التي تميز التعليم البديل لا تقتصر على الأساليب التعليمية فحسب، بل إنها، وهو الأكثر أهمية، تعتمد الممارسات التربوية المتنوعة التي تهدف إلى تكوين جيل واثق بنفسه وبهويته، ومفكر ومثقف وصانع للتغيير الاجتماعي.

وفي الوقت ذاته، هنالك تحديات كبيرة تواجه هذا النوع من التربية، ذلك بأن مدارس التربية البديلة لا تزال ظاهرة جديدة نسبياً لدى المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، وقدرتها على الصمود مهددة دائماً من طرف سياسات وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية. كما أن ممارسات هذه المدارس والقيم التي تركز عليها لم تخضع لمراجعة دقيقة بعد، وربما يكون الأمر صعباً في مجتمع يربط نجاعة المدارس بالتحصيل، وهو معيار ترفضه مدارس التربية البديلة قطعياً.

I - التربية البديلة

بداية، سنقوم بتعريف ماهية التربية البديلة، يتبعه لمحة سريعة عن هذا النوع من التربية في إسرائيل، ثم سنتطرق إلى مكانتها في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل.

1 - ماهية التربية البديلة

بات مصطلح التربية البديلة يُستخدم من دون تفرقة، لوصف تنوع كبير من حيث البرامج، حتى أحاطت البلبلة بمعناه الأصلي في أوساط المعلمين والتلاميذ والجمهور العام (Kellmayer 1998). ويمكن عزو هذه البلبلة إلى طبيعة المدارس البديلة المتطورة باستمرار، وإلى تبدل القوانين التي تحكم هذه المدارس (Lange & Sletten 2002). وعلى الرغم من وجود بعض البلبلة التي تحيط بتعريف التربية البديلة، فإن ثمة اتفاقاً بين المربّين والباحثين على أن المصطلح يشير إلى توجهات تربوية تختلف عن التربية العادية السائدة التي توفرها الدولة، إذ تتميز هذه الأنظمة التربوية بمناهج دراسية خاصة، غالباً ما تنطوي على ابتكارات، وفي بعض الحالات، تتميز لكونها تعرض برنامج دراسة مرناً، يتم تطويعه وفق اهتمامات التلاميذ وحاجاتهم (Aron 2003; Carnie 2003; Foley & Pang 2006).

هناك عدد كبير من التسميات التي تُستخدم للإشارة إلى المدارس البديلة، ومنها: المدارس المفتوحة؛ المدارس الحرة؛ المدارس المتعددة الثقافات؛ المدارس الثنائية اللغة؛ المدارس الديمقراطية؛ مدارس الاختيار؛ المدارس المعاصرة؛ مدارس "مونتيسوري" والمدارس المهنية؛ مدارس "المغناطيس"؛ المدارس المجتمعية / الجماهيرية؛ المدارس البيئية؛ مدارس التقدم المستمر؛ مدارس بلا جدران؛ مدارس "العودة إلى الأصول"؛ المدارس الموسيقية / الفنية (Barr, Parrett & Colson 1977).

كثيراً ما ترتبط التربية البديلة بالابتكار، وببيئات تعلُّم أكثر حميمية وأقل رسمية، وبابتعاد عن الأنظمة والإجراءات البيروقراطية المعيارية (Raywid 1994)، كما أن النظام البديل يتميز بتعددية في التعلم، وبالتزام مراجعة ذاتية وتغير دائمَين، وبخلق هياكل وإجراءات ديمقراطية في المدارس، فضلاً عن إتاحة إجراءات تعلّم تعاونية بين الطلاب والمعلمين، ووجود هيئة تعليمية تعترف بتميز كل تلميذ، استناداً إلى النظرة القائلة إن لكل شخص الحق في التعبير عن ذاته (كيزل 2012). واستند تطور المدارس البديلة إلى فرضية فحواها أن منهاجاً واحداً وموحداً لا يمكنه أن يكون كافياً ووافياً للجميع، وأن بعض الطلاب ربما يتعلم بشكل أفضل في بيئة يختلف هيكلها عن ذلك القائم في المدارس العامة التقليدية (Conley 2002). وقد آمن مطوّرو هذه الأطر بأن على التربية أن تركز على عالم الطفل بأكمله، وأن عليها أن تكون تجريبية بطبيعتها، فأنشأوا الأطر من خلال تشجيع الإبداع والتركيز على الشخصية الفردية والحرية الشخصية (McGee 2001).

وفي نواحٍ كثيرة، كان نشوء مفهوم التربية البديلة بمثابة ردة فعل على النظام الرسمي التقليدي، ولهذا جسدت التربية البديلة الابتعاد النمطي عن الهيكل المركزي والهرمي السائد في أنظمة التربية الرسمية التقليدية، والذي يقع اللوم عليه لسلبه مديري المدارس ومعلميها القدرة على ابتكار أساليب ومناهج تدريس تلائم شخصيات تلاميذهم وحاجاتهم وقدراتهم. وبذلك، تتطابق حركة التربية البديلة مع النموذج الإنساني للتربية، كونها قدمت بديلاً من النموذج السلوكي السائد في مجال التربية (Doll 1979)، والذي يركز على معايير محددة سلفاً وموحدة لجميع الأطفال بغضّ النظر عن تنوع اهتماماتهم وخلفياتهم ومواهبهم. ويتم تقييم هذه الأهداف المحددة سلفاً بواسطة امتحانات وعلامات معيارية. ومن منظور التربية الإنسانية، فإن أساليب التقييم هذه لا تعكس النمو، وإنما الفجوة القائمة بين الأهداف المحددة سلفاً، ومواضع عجز المتعلم من ناحية أدائه كتلميذ (Doll 1993)، ولهذا، فإن تحقيق الذات هو الهدف الأساسي، لا المعرفة بحد ذاتها. ويتحقق تحقيق الذات عبر إشراك الطلاب في عمليات التخطيط واتخاذ القرارات، وتنظيم فاعليات يقودونها، ومن خلال إعادة صوغ نوعية التفاعل بين الطلاب والمعلمين، فضلاً عن استخدام التقارير الوصفية، بدلاً من تحديد علامات وتقييمات معيارية (Doll 1979).

2 - التربية البديلة في إسرائيل

أُسست المدرسة البديلة الأولى في إسرائيل، وهي المدرسة التجريبية أو "هانيسوي"، في سنة 1971، وكان ذلك في القدس، فقد أنشأها المربي وعالم النفس التربوي الإسرائيلي، موشيه كاسبي، وكانت مدرسة ريادية، إذ وضعت أسساً لبرامج بديلة متنوعة اعتُمدت بعد ذلك في إسرائيل. وبحسب تقرير صادر عن مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست، حتى سنة 2011، كان هناك 118 مدرسة بديلة مسجلة رسمياً لدى وزارة التربية والتعليم. ومع ذلك، يشدد التقرير أيضاً على أن هذه الوزارة فقدت زمام السيطرة على الظاهرة، وأنه ليس لديها علم بحجمها الحقيقي. ولذلك، جرى إنشاء طاقم خاص في سنة 2001 كي يقدم أنظمة جديدة تهدف إلى كبح هذه الظاهرة، من خلال فرض إجراءات إلزامية تُجبر جميع المدارس على تقديم طلب للحصول على رخصة من أجل أن تعترف بها وزارة المعارف. وأغلبية هذه المدارس مستوحاة من التوجهات الأوروبية، كمدارس فالدورف (Waldorf)[1] أو مدرسة سمرهيل (Summerhill School)،[2] ومع ذلك، أُنشئت مدارس كثيرة تحت مظلة المدارس الديمقراطية بصورة خاصة، فهناك شبكة من هذه المدارس تعمل في جميع أنحاء إسرائيل، وتضم 25 مدرسة (كيزل 2012). فقد أنشأ يعقوب هيخت (Yaacov Hecht) إحدى أولى المدارس الديمقراطية في الخضيرة في سنة 1987، وبموجب رؤياه ورؤيا مربّين آخرين، علاوة على أولياء الأمور، فإن على المدرسة أن تعزز حرية الاختيار - حرية الطالب في أن يختار الموضوعات، كل بناء على اهتماماته وشغفه، وكل بحسب وتيرته وإيقاعه الخاص. وهناك عدة عوامل أدت إلى ذلك النمو السريع في التربية الديمقراطية في إسرائيل، فعلى سبيل المثال، أجرت وزارة التربية والتعليم إصلاحات حولت التربية والتعليم إلى سلعة (Levy & Massalha 2012)، كما أن المجتمع الإسرائيلي بدأ يتخلى عن العقيدة الصهيونية والاشتراكية التي أسسته، ويتبنّى قيماً ذات طابع أكثر ديمقراطية وليبرالية (إنبار 1993). ورافق هذا التحول تشديد على الحرية الشخصية (Yonah 2000)، وربما يكون العامل الأهم هو أن أولياء الأمور اليهود من الطبقتين العليا والوسطى لم يكونوا راضين عن تدهور مستويات التربية العامة (Dahan & Yonah 2007)، فبدأوا يبحثون عن بدائل، ولا سيما أنهم آمنوا بأن منظومة تتيح لأولياء الأمور إمكان الاختيار ستضمن أفضل فرص تربوية لأبنائهم. ولا يزال العديد من هذه العوامل ذا صلة بأيامنا هذه لتفسير مدى شعبية نماذج التربية البديلة في وسط المجتمع اليهودي في إسرائيل.

II - التربية البديلة في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل

بداية، سنتحدث عن حالة التربية والتعليم السائدة في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، ونرسم بخطوط عريضة مواضع الفشل التي شكلت خلفية لإنشاء أطر تلك التربية البديلة، ثم نتطرق إلى أبرز مدرستين للتربية البديلة في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، وهما "مسار" و"حوار"، فنتحدث عن مميزاتهما واختلافهما عن سائر المدارس العربية، الأمر الذي يخولهما أن تكونا أطراً بديلة، وأخيراً نسلط الضوء على التحديات التي تواجه ذلك النوع من التربية في هذا المجتمع.

1 - التعليم العربي في إسرائيل

أصبح السكان الأصليون العرب الفلسطينيون جزءاً من المجتمع الإسرائيلي على الرغم منهم (Khattab 2003). وفي أعقاب حرب سنة 1948، وجرّاء الطرد والهروب الجماعيين، تقلصت المجموعة السكانية الفلسطينية في إسرائيل بحدودها الحالية من نحو 1,100,00 نسمة إلى 156,000 نسمة (Al-Haj & Rosenfeld 1990). ومنذ تأسيس دولة إسرائيل في سنة 1948، وجد الفلسطينيون أنفسهم داخل حدود إسرائيل يواجهون تمييزاً ممنهجاً في جميع مناحي الحياة والمجالات، بما فيها التربية والتعليم (حيدر 1994). ومع أن قانون التعليم الحكومي لسنة 1953 يعترف بوجود جهازَي تعليم مستقلين ومنفصلين، واحد للمدارس الحكومية العلمانية وآخر للمدارس اليهودية الدينية، إلاّ إن القانون لا يعترف رسمياً بوجود جهاز التعليم العربي الفلسطيني (Jabareen 2006)، وبالتالي، فإن العرب الفلسطينيين، على الرغم من كونهم أقلية أصلانية وقومية، لا يملكون جهازاً تعليمياً موازياً ومصمماً لتلبية الحاجات القومية والثقافية والدينية المتنوعة في مجتمعهم (Al-Haj 1995). وفي الواقع، فإن جهاز التعليم العربي الفلسطيني في إسرائيل يعمل ككيان منفصل ومطوَّع ومهمش داخل جهاز التعليم الرسمي (Agbaria 2013)، وهو خالٍ من أي سمة من سمات الحكم الذاتي، ومن أي مضامين ثقافية عربية فلسطينية (Levy & Masalha 2012). إن إنشاء جهاز تعليم منفصل للعرب يتيح لحكومة إسرائيل المركزية الحفاظ على سيطرة سياسية وثيقة على الأقلية العربية (Al Haj 1995)، تتجلى في القيود المفروضة على المناهج التي تدرَّس في المدارس العربية، وخصوصاً في مجالَي العلوم الاجتماعية والإنسانية (Al-Haj 1995; Amara & Mar’i 2002)، وبالتالي، فإن تأثير القادة التربويين العرب في سياسات وضع المناهج وتخصيص الموارد هو تأثير ضئيل ومتقطع (جبّارين وإغبارية 2010).

في سنة 2000، جرى تعديل قانون التعليم الحكومي، فبعكس الصيغة السابقة، تقضي المادة 11 / 2 في الصيغة الحالية بأن تشمل أهداف التعليم تعلّم "لغة المجموعة السكانية العربية والمجموعات السكانية الأُخرى في إسرائيل، بالإضافة إلى ثقافاتها، وتاريخها، وإرثها وعاداتها الفريدة، إلى جانب الاعتراف بالحقوق المتساوية لجميع مواطني إسرائيل." ومع ذلك، قوبل هذا التطور الإيجابي بالنقد من طرف القادة التربويين العرب لسببين رئيسيين: لم يتطرق التعديل إلى رغبتهم في الحكم الذاتي على جهاز التعليم العربي، ولم تتحدد فيه أساليب وطرائق تطبيق التعديل المذكور (هربون 2009). وفي المحصلة، يستمر الطلاب العرب الفلسطينيون في الدراسة تحت نظام يقمع هويتهم العربية وثقافتهم واهتماماتهم السياسية (Abu-Saad 2006).

تبيّن الأبحاث المتعددة أن جهاز التعليم العربي الفلسطيني كان دائماً على هامش جهاز التعليم الإسرائيلي العام، وأنه كان عرضة لسيطرة دائمة (صرصور 1999؛ Al-Haj 1995; Arar 2012)، ويعاني تمييزاً واسعاً من حيث تخصيص الموارد، بما في ذلك النقص في البنى التحتية الحديثة، وفي المنشآت والمعدات، وفي عدد ساعات التدريس (Eisikovits 1997; Arar 2012). ومع أن لغة التدريس في المدارس العربية هي اللغة العربية، ومع أن المعلمين هم عرب فلسطينيون يأتون هم وتلاميذهم في الغالب من المجتمع المحلي ذاته، أو من البلدة ذاتها (Khattab 2003)، إلّا إن لهذه المدارس قدراً ضئيلاً من الحرية في تعزيز الهوية القومية العربية، أو في إكساب طلابها القيم الثقافية العربية (Yonah 2000; Amara & Mar’i 2002). لقد مضى ما يزيد على نحو خمسة عقود على تأسيس قسم التعليم العربي في سنة 1970، لكن على الرغم من التغيرات العديدة التي طرأت، فإن الدولة لا تزال تعزف عن منح المجتمع العربي حكماً ذاتياً في مجال التعليم، وترفض إعطاءه فسحة لتغيير بُناه التحتية، أو مضامين مناهجه (Levy 2005; Abu-Saad 2006).

علاوة على ذلك، ينتشر العنف في كثير من المدارس الإسرائيلية الحكومية عامة، وتلك التي في المجتمع العربي الفلسطيني خاصة، وقد أصبح ظاهرة مثيرة للقلق كثيراً. ففي استفتاء قُطري أُجري بشأن العنف في مدارس إسرائيل (Zeira, Astor & Benbenishty 2003)، أشارت النتائج إلى أنه، في مقارنة مع الطلاب اليهود، فإن الطلاب العرب أكثر عرضة لأن يكونوا ضحايا عنف يمارسه زملاؤهم ضدهم. وبحسب ما أفاد به تلاميذ الثانوية من العرب الفلسطينيين، فإن احتمال امتناعهم من الذهاب إلى المدرسة بدافع الخوف هو أكبر بثلاثة أضعاف من الاحتمال ذاته لدى نظرائهم من التلاميذ اليهود. وتختلف أشكال العنف هي أيضاً، فبينما يجابه التلاميذ اليهود أنواع عنف منخفضة المستوى، يجابه التلاميذ العرب أشكالاً أكثر شدة من العنف، كتهديدات من طرف طلاب يحملون أسلحة. ومن الواضح أن هذا كله يولّد بيئة أكاديمية غير سليمة.

فضلاً عن ذلك، وجرّاء التوجه الصارم والفوقي الذي تتبعه وزارة التربية والتعليم، فإن الابتكار وحرية التعبير والإبداع والإصلاحات المتوافرة في جهاز التعليم العربي أضحت محدودة، بحيث إن الطلاب والمدرّسين العرب الفلسطينيين يُمنعون من تحقيق ذواتهم على الصعد الاجتماعية والإدراكية والعاطفية. ولذا، فإن واحداً من المنافذ القليلة المتبقية للجهاز هو الامتياز الأكاديمي، وبالتالي، فإن جهاز التعليم يركز بشكل مفرط على قيمة هذا الامتياز، على حساب القيم الثقافية والتربوية والقومية (Levy & Massalha 2010). وتتيح هذه الممارسة لإسرائيل أن تشدد على أنواع مختارة من السرد، وخصوصاً في موضوعات المدنيات والتاريخ والجغرافيا والأدب، وأن تطمس، أو حتى أن تغيّب أنواعاً أُخرى (Agbaria 2013). ولهذا، فإن دولة إسرائيل، ومن خلال فرض سيطرتها الكاملة على جهاز التعليم العربي الفلسطيني، تهدف إلى تأسيس جهاز تعليم عربي يُنتج مواطنين موالين للدولة، سطحيين، ومجردين من أي تاريخ، أو شخصية، أو استقلالية (Al-Haj 1995; Amara & Mar’i 2002).

لذلك، نجد أن المدارس الخاصة هي الملاذ الرئيسي أمام الأهالي غير الراضين عن المدارس التي تديرها الدولة، وهي عادة ما تكون كنسية تخدم المسيحيين والمسلمين من التلاميذ، وتعزو أهمية خاصة إلى الامتياز الأكاديمي، وتتبنّى أساليب انضباط صارمة وتقليدية نسبياً، ومع ذلك، فإن الأماكن المتاحة فيها قليلة. وردّاً على تزايد الطلب عليها، وضعت هذه المدارس معايير تعليمية واقتصادية أعلى للقبول (Levy & Massalha 2010)، تنطوي، بحسب مصالحة (مصالحة 2009)، على نخبوية وطبقية. علاوة على ذلك، يعتبر بعض أولياء الأمور أن المدارس باهظة التكلفة، بينما يرى آخرون أن أساليب التعليم فيها قديمة وصارمة وغير كافية لتلبية حاجات أطفالهم (إيشيلوف ومزاوي 1997؛ Levy & Massalha 2010).

لهذه الأسباب، بدأت مجموعات من أولياء الأمور والمربّين تسعى لإيجاد أطر بديلة جديدة توفر لأولادهم ملاذاً من المناهج المقيدة وغير المبدعة المتّبعة في المدارس الحكومية، وتقدم بديلاً ديمقراطياً وإنسانياً من أساليب التعليم المتسلطة والمتّبعة في المدارس الكنسية (Levy & Massalha 2010).

2 - مدرستا "مسار" و"حوار"

مثلما ذكرنا في القسم السابق، فإنه في إثر المعايير التربوية المتدنية، ومستويات الإنجاز المنخفضة، ومستويات العنف المرتفعة التي تميز نظام التعليم الحكومي، بدأت التربية العربية البديلة تشق طريقها كإمكان جدي، وقام أولياء أمور ومربّون وناشطون اجتماعيون بالسعي وراء مدارس تعرض أساليب ورؤى تربوية لا تكتفي بتوفير بديل من المناهج المعيارية التي تضعها وزارة المعارف الإسرائيلية، بل تمنح أولياء الأمور والمربين قدراً أكبر من القرار بشأن التربية التي يتلقاها أبناؤهم أيضاً (Levy & Masalha 2010, 2012). وكما سنرى لاحقاً، فإن بين العوامل التي توحد مثل هذه المدارس، محاولتها إيجاد بيئة ترحب بجميع التعبيرات عن الهوية التي يعيشها التلاميذ، فتجلب الرواية التاريخية والثقافية العربية الفلسطينية نحو المقدمة، إلى جانب الرواية اليهودية الموجودة أصلاً في المناهج الحكومية (مصالحة 2009؛ Amara, Azaiza, Hertz-Lazarowitz & Mor-Sommerfeld 2009).

وفي هذا السياق، يمكن تصنيف هذه المدارس بمدارس بديلة أو ديمقراطية، بسبب اختلافها مقارنة بالمدارس الحكومية. ويعمل بعض هذه المدارس كوحدات مستقلة ومكتفية ذاتياً، في حين يعمل البعض الآخر كمبادرات تجريبية داخل المدارس الحكومية، يكون الهدف منها في نهاية المطاف، جلب هذا النموذج إلى المدرسة بأكملها. وسنعرض في القسم التالي، مدرستين هما "مسار" و"حوار"، لأنهما أقيمتا أساساً على نموذج المدارس البديلة.

أ – مدرسة "مسار"

هذه المدرسة التي تأسست في الناصرة في سنة 1996، هي أولى المدارس العربية الفلسطينية الشاملة البديلة التجريبية في إسرائيل، وقد أنشأتها مجموعة من الأهالي والناشطين الاجتماعيين العرب الفلسطينيين، الذين سعوا لإقامة إطار تربوي بديل لأطفالهم. وقبل تأسيس المدرسة، أجرت المجموعة طوال عامَين بحثاً في شأن التربية البديلة، تُوّج بوضع وثيقة أساس تقدمت بها إلى بلدية الناصرة، وكان جوهرها عرض إنشاء مبادرة تربوية ابتكارية. وفي 1 أيلول / سبتمبر 1998. وبدعم من بلدية الناصرة، افتُتحت مدرسة "مسار" كأول حضانة تجريبية مع فوج ضم 11 طفلاً، وقد ضُمت هذه المجموعة في البداية، إلى كنف مدرسة حكومية قائمة أصلاً. وفي سنة 2000، اعترفت وزارة التربية والتعليم بالمدرسة كأول مدرسة بديلة عربية في إسرائيل.

ومع أن الهدف الأولي كان يقضي بتحويل مدرسة قائمة في أحد الأحياء إلى مدرسة بديلة بالكامل، إلّا إنه تبيّن أن هذه الخطة غير واقعية، ولذلك أُسقطت. وفي نهاية المطاف، انفصلت "مسار" لتؤسس مدرستها الخاصة، لأنها كانت تعمل بداية تحت كنف مدرسة في أحد الأحياء، وكانت تستقبل طلاباً من تلك المنطقة. ولهذا السبب، فإن العديد من تلاميذ المدرسة لم يختاروا التربية البديلة، وإنما اختاروا المدرسة كونها قريبة من أماكن سكناهم، وبالتالي، من المحتمل ألّا تكون أساليب التربية البديلة والفلسفة التي تعتمد عليها ملائمة لهؤلاء أو لعائلاتهم. لذلك، عندما بلغ أول فوج من التلاميذ الصف السادس، تخلّت "مسار" عن خطتها الأصلية، وتركت موقع المدرسة الحاضنة الأولية، وانتقلت إلى موقع جديد خصصته البلدية.

اليوم، باتت "مسار" مدرسة راسخة الوجود، تضم أكثر من 310 طلاب من الناصرة والقرى المجاورة، من الحضانة حتى الصف الثاني عشر. وفي سنة 2016، وبعد نضال طويل، اعترفت وزارة المعارف بالمدرسة رسمياً كمدرسة بديلة. وتستند السيرورة التربوية في "مسار" إلى العلاقة التي تنجم عن "التفاعل" بين المشاركين خلال عملية التعلم، الأمر الذي يعزز عملية التعليم بفضل قيم التأمل والحوار، وفي هذا السياق، يُعتبر التفاعل الاجتماعي والانخراط الجماعي أمرَين مصيريين للمتعلمين والمعلمين على حد سواء. وتؤمن "مسار" بأن على الرؤى التربوية أن تنشأ محلياً، وأن تنجم عن التجارب التي يخوضها المعلمون بشكل مباشر، لأن هذه التجارب تتصل بالقيم والثقافة والتحديات الخاصة بالمجتمع، ولذا، تُعتبر المدرسة مختبراً لتصميم واختبار أساليب جديدة للتعلم، ولإنتاج مناهج ابتكارية. هناك قيمتان جوهريتان للتعلم في هذه المدرسة هما التأمل والحوار. ويعتبر مؤسسو "مسار" أن عملية إنشاء المدرسة وتطويرها هي فعل يهدف إلى قلب تأثير سياسات الإقصاء التي مارستها الحكومة الإسرائيلية طوال أعوام ضد مواطنيها الفلسطينيين، وهي أيضاً محاولة واعية لأداء دور فاعل في الحوار العالمي بشأن مستقبل التعليم.

وتماشياً مع رؤية "مسار"، فإن المدرسة تتبنّى أساليب تقييم وبرامج دراسية بديلة من أجل تعزيز وعي الطلاب الذاتي، وقدرتهم على التعبير عن النقد البنّاء والنقد الذاتي وتقبّلهما. وبخلاف المدارس التقليدية حيث يعكس نظام العلامات تقدّم الطلاب بحسب معدلات رقمية محسوبة، فإن تلاميذ مدرسة "مسار" يُقيَّمون كيفياً، كل تلميذ بحسب قدراته. كذلك، تركز "مسار" على دمج الفنون الإبداعية في بيئة التعلم، بما في ذلك الموسيقى والرسم والدراما.

ب – مدرسة "حوار"

تأسست "حوار" ("الجمعية العربية للتربية البديلة") في سنة 2001 في حيفا على يد مجموعة من أولياء الأمور والمربين والناشطين الاجتماعيين الذين لم يكونوا راضين عن الخيارات التربوية المتوفرة. وعلى غرار مدرسة "مسار"، فإن فلسفة مدرسة "حوار" تستند إلى مبادىء الديمقراطية والحوار والإبداع والفكر النقدي، غير أن عملية إنشاء المدرسة وبدء تشغيلها والحصول على اعتراف بها كانت عملية طويلة. بداية، أمضى الطاقم عامَين في التفاوض مع وزارة المعارف وبلدية حيفا بشأن الاعتراف بالمدرسة، وبعد فشل هذه المحاولات، قدمت "حوار" في سنة 2003 التماساً إلى المحكمة العليا. وفي النتيجة، بدأت وزارة المعارف وبلدية حيفا بالعمل مع جمعية "حوار" لتأسيس وإنشاء هياكل إدارية في المدرسة. وفي العام الدراسي 2004 / 2005، افتُتحت المدرسة مع ثلاثة صفوف - من الحضانة حتى الصف الثاني – ضم كل صف نحو 25 طالباً.

لكن المسألة لم تنتهِ هنا. فمع اختتام العام الدراسي 2005 / 2006، أدركت "حوار" أن بلدية حيفا ووزارة المعارف تنويان استعادة السيطرة على المدرسة لتفريغها من مبادئها الأساسية، إذ سعتا لتغيير طابع المدرسة عبر إلغاء دور لجنة الأهالي، وطرد المدير، ونقل المدرسة من موقعها إلى موقع جديد لم يبدُ ملائماً لمؤسسيها.

وبهدف الحفاظ على الرؤيا الحقيقية للمشروع التربوي، قرر الطاقم الإداري في "حوار"، إلى جانب الأغلبية الساحقة من أولياء الأمور، أن عليهم تأسيس مدرسة مستقلة تماماً، كي لا تكون عرضة لإملاءات البلدية ووزارة المعارف. لكن، في سنة 2006 قررت بلدية حيفا أن تسلب المدرسة طابعها الفريد والديمقراطي، وذلك عبر استثناء أولياء الأمور وجمعية "حوار" من المشاركة في عملية اتخاذ القرارات في المدرسة. وفي المحصلة، انشطرت المدرسة إلى اثنتين: استمرت البلدية في تفعيل مدرسة عامة باسم "حوار"، في حين قرر أولياء الأمور وجمعية "حوار"، والذين رغبوا في الحفاظ على الإطار البديل الذي حاربوا من أجله، أن يقدموا طلب الحصول على ترخيص لتفعيل مدرسة خاصة، وأنشأوا مدرسة لأطفالهم في منشآت موقتة.

ومع أنه سُمح للمدرسة بالاستمرار، إلّا إنها لم تحظَ بترخيص من وزارة المعارف إلّا في شباط / فبراير 2012، فأصبحت قادرة على العمل كمدرسة خاصة وبديلة. وبخلاف مدارس خاصة أُخرى في الدولة، والتي تحصل على تمويل جزئي من مصادر حكومية / بلدية، فإن مدرسة "حوار" لا تزال محرومة من أي تمويل من هذه المصادر منذ سنة 2006.

اليوم، تضم مدرسة "حوار" نحو 130 طالباً يتعلمون من الصف الأول حتى الصف الثامن فيها، ويرتاد 60 طفلاً بين عمر الثالثة والخامسة الصفوف ما قبل المدرسية. ويتألف الطاقم من مديرة، و21 معلماً / ة، وسبعة مساعدين ومستشارين من مجالات أُخرى. وعلاوة على تدريس اللغات والرياضيات والعلوم، تركز المدرسة أيضاً على موضوعات مثل التفكير الإبداعي والموسيقى والدراما والفنون.

إن رؤيا "حوار" المعلنة هي تعزيز نموذج التربية البديلة في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، وتمكين الأطفال والفتيان من أن يصبحوا قادة مستقبليين ومبدعين في مجتمعاتهم. ولتحقيق ذلك، تتبنّى المدرسة عدداً من الاستراتيجيات، ومنها: تعزيز الممارسات الديمقراطية في الإدارة اليومية للمدرسة؛ تبنّي الحوار كوسيلة تفاعل أساسية بين الطلاب وأولياء الأمور والمعلمين؛ تعزيز دور المجتمع والقيم الإنسانية في العملية التربوية؛ تشجيع أولياء الأمور على تأدية دور مركزي في تربية أولادهم؛ إيجاد بيئة من الانتماء والتقبّل الشاملين داخل المدرسة؛ استخدام أساليب بديلة لتقييم التقدم الذي يحرزه التلاميذ.

III - مميزات التربية البديلة

في القسم السابق أعطينا نبذة تاريخية عن نشأة هاتين المدرستين وتطورهما، وفي هذا القسم سنسلط الضوء على مميزاتهما، وعلى الممارسات التربوية البديلة المشتركة بينهما. وقد جرى تحديد المميزات بناء على تحليل بيانات جُمعت من 44 مقابلة من النوعية نصف المبنية (semi-structured interviews) مع معلمين وطلاب وأهالي وخريجين من كلا المدرستين، فضلاً عن حضور 12 حلقة دراسية في موضوعات متنوعة.

وُجّهت إلى المشتركين في المقابلات أسئلة مفتوحة وموحدة أتاحت لهم إجابات شاملة وعميقة عن تجربة كل منهم مع المدرسة التي ينتسب إليها، وعن المميزات التي يرونها في المدرسة من منظورهم الخاص (كمعلمين، أو طلاب، أو خريجين، أو أهالي). أمّا بالنسبة إلى الحلقات الدراسية، فقد عُقدت 5 جلسات في مدرسة "حوار" في الموضوعات التعليمية التالية: التاريخ والجغرافيا والرياضيات والفاعلية التربوية "حديث الصباح"، بينما عُقدت في مدرسة "مسار" 7 جلسات دراسية في الموضوعات التعليمية التالية: الرياضيات واللغة العربية والرقص والموسيقى والفاعليتين التربويتين: منبر الطالب، والتفكير النقدي. وفي هذه الحلقات جرى التركيز على الجو التعليمي في الصف، والتفاعل بين المعلمين والطلاب، والمضامين التعليمية، وطرق التعليم.

1 - خصائص التربية البديلة

على الرغم من الاختلافات بين المدرستين من حيث الحجم والسياق وسيرورة التأسيس، فإن المعطيات التي تم جمعها من خلال المقابلات والحلقات الدراسية تشير إلى كثير من القواسم المشتركة بين المدرستين من حيث الفكر والممارسات التربوية. لهذا السبب، ولتفادي التكرار، ارتأينا عرض المميزات المشتركة للمدرستين عوضاً عن عرضها لكل مدرسة على حدة. وجدير بالذكر أن الفلسفة البديلة التي تُعتبر بمثابة البوصلة الموجهة للمدرستين ترتبط، مثلما ذكرنا سابقاً، بالخلفية النظرية من خلال فكرة تحرير الإنسان، والدفاع عن حقوقه في تقرير مصيره، وتغيير واقعه من خلال تغيير طرق تفكيره، ومراجعته المتواصلة للأوضاع الراهنة. وسنعرض فيما يلي خصائص التربية البديلة التي تتميز بها المدرستان، والتي تضمن تميزهما من المدارس العادية في النظام التعليمي السائد.

  • منظومة العلاقات

إن منظومة العلاقات القائمة بين أفراد الطاقم الإداري والتدريسي والطلاب وأهاليهم هي من سمات المدرستين البارزة. ففي هذا الجانب يسود جو آمن يتصف بالودّ، ويخلو من الرسميات والحواجز السلطوية. ومن خلال تحليل المقابلات التي أُجريت مع عدد من الأهالي في المدرستين، تبيّن أن منظومة العلاقات تُعتبر من أهم العناصر الحاسمة التي ساعدتهم في اتخاذ القرار بإلحاق أولادهم بالمدرسة، وخصوصاً منظومة العلاقات بين المعلمين والطلاب، فهي مغايرة لنمط العلاقات التقليدية في نظام التعليم السائد، وتتصف بالإنسانية والزمالة. فكثيراً ما ذُكر خلال المقابلات أن المعلمين في كلا المدرستين ينظرون إلى الطالب كإنسان أولاً قبل أن ينظروا إليه كطالب، ذلك بأن العلاقة بين الطلاب والمعلمين لا تقوم على الخوف والرهبة، وإنما على الاحترام المتبادل واحتواء المعلمين للطلاب. ومثلما أوضحت إحدى الأمهات في مدرسة "حوار"، فإن "المعلم ليس محتاجاً إلى الصراخ كي يثبت سلطته ويكسب احترامه"، كما أنه ليس من الضروري والمتوقع من الطلاب استعمال الألقاب الرسمية عند مناداة المعلمين ومخاطبتهم، بل من الطبيعي أن تسمع طلاباً يخاطبون المعلمين بأسمائهم الشخصية، ويتحادثون معهم من دون ألقاب، كأنهم زملاء لهم وليسوا معلميهم.

ومن وجهة نظر الطلاب والأهالي والمعلمين، فإن غياب الألقاب والرسميات لا يمثل ممارسات بديلة سطحية، وإنما يعكس عمق العلاقة المتأصلة بين الطلاب والمعلمين، والتي تمثل أحد أعمدة التربية البديلة. فمناداة المعلم باسمه لا تقلل من احترامهم له، بل تعكس مدى الاحترام الذي يكنّه الطالب لمعلمه، وتدل على عمق التعاون وكسر الحواجز بينهما. وقد أوضح أحد الطلاب في مدرسة "مسار" ذلك بقوله: "إن غياب الألقاب الرسمية في المدرسة يكسر حاجز السلطة بين المعلم والطالب ويعزز العلاقة بينهما، فأنا أرى في المعلم الصديق والزميل، ولهذا يتعين عليّ احترامه." إن العلاقة الوطيدة التي يبنيها المعلم مع الطلاب تخلق الشعور بالأمان لديهم، وتفسح لهم المجال للتعبير عن آرائهم بحرّية، ولمشاركة المعلم فيما يضايقهم ويزعجهم، حتى لو كان ذلك نقداً موجهاً إلى المعلم على سلوك غير ملائم صدر عنه. ولتأكيد أهمية العلاقات بين المعلمين والطلاب في المدرسة، شددت إحدى المعلمات في مدرسة "مسار" على "أهمية وجود القدرة لدى المعلم على النزول إلى مستوى الطلاب، إلى درجة أن يعيش تجربتهم ويضع نفسه مكانهم." وأضافت أنها من خلال تعاملها مع الطلاب "أشعر بأنني واحدة منهم وأتعلم معهم، إلى درجة أنني أحياناً عند تمرير درس وجاهي [صفّي]، أجد نفسي تلقائياً أجلس بين الطلاب."

إن منظومة العلاقات البديلة القائمة في المدرسة لا تقتصر على العلاقة بين المعلمين والطلاب فحسب، بل تشمل أيضاً العلاقة بين الطلاب وإدارة المدرسة، والمعلمين وإدارة المدرسة، وطاقم المدرسة بأكمله والأهالي. وفي الواقع، فإن منظومة العلاقات مع إدارة المدرسة هي ما يميز هاتين المدرستين، فمثلما أن الطلاب يخاطبون المعلمين بأسمائهم الشخصية، نراهم أيضاً يخاطبون المديرات بأسمائهن الشخصية. وقد أشاد الطلاب في المدرستين بسهولة التوجه إلى المديرات بفضل انتهاجهن سياسة الباب المفتوح، الأمر الذي يؤمّن لهم الراحة والثقة بمشاركتهن في همومهم ومشكلاتهم في المدرسة، أو لتقديم شكاوى عن أمور مدرسية، أو حتى لطرح أفكار جديدة تصبّ في مصلحة المدرسة. ووصفت إحدى الأمهات في مدرسة "حوار" الوضع بالقول: "هناك جو عائلي في المدرسة، وربما تبدو مناداة الطلاب للمديرة باسمها من الأمور البسيطة، الّا إنها تدل على الحميمية وعمق العلاقات في المدرسة بين الطلاب والمعلمين." كما وصف الأهالي والمعلمون العلاقات بينهما بالدافئة والوثيقة، وتتجلى بالتواصل المستمر فيما بينهم.

  • الجو والمناخ المدرسي

من أهم العوامل التي تميز المدرستين توفير أجواء تعليمية مريحة وإنسانية. ففي كلتا المدرستين يتكلم الطلاب على إحساسهم بالأمان والراحة والحرية، وشعورهم بأن الأجواء الودية هي السائدة في المدرسة. وأحد العوامل الذي عزز هذه الأجواء هو عدد الطلاب القليل في المدرسة، إذ وصل في حدّه الأقصى إلى 25 طالباً في الصف ينقسمون أحياناً إلى نصف هذا العدد في موضوعات معينة. وهذا العدد القليل من الطلاب يسمح للمعلم بالتواصل مع كل طالب في الصف بحيث يستطيع فهم الفروقات الفردية بين الطلاب. ومن منظور الطلاب أيضاً، فإن العدد القليل في المدرسة يسهّل عليهم معرفة الطلاب من شتى الأجيال عن كثب، وكثيرون من طلاب المدرستين، عندما سئلوا خلال المقابلات عن ميزات مدرستهم، وصفوا الجو فيها بأنه "جو عائلي". فعلى سبيل المثال، أعربت إحدى الطالبات من مدرسة "حوار" عن أن أحد الأشياء التي تميز هذه المدرسة، "هو أن الطلاب يحبونها، ولا يأتون إليها إكراهاً، بل إنهم على العكس تماماً، يشعرون بالسعادة فيها." هذا الوصف يدل كثيراً على طبيعة الجو في المدرسة، إذ ترى طلاب الحضانة يلعبون مع طلاب الصف الأول. طالبة أُخرى من مدرسة "مسار" قالت: "إن الجو العائلي في المدرسة، واختلافها عن المدارس الأُخرى، ولّدا لديّ الشعور بالانتماء إليها، وإلى طلابها ومعلميها."

وخلال المقابلات مع أهالي الطلاب في المدرستين، ذكرت إحدى الأمهات في مدرسة "مسار" أنها اختارتها مدرسة لأولادها لأنها وجدت فيها جواً ودياً وإنسانياً، وهو ما كان مهماً لها لأنها لم تكن تريد لأولادها أن يمروا بتجربتها في المدارس العادية، فهي مثلما قالت: "لم تحصل على ثقافة خلال سنوات تعليمها"، بل وصفت أجواءها بأنها "مشحونة بالتوتر والخوف من السلطة وتفتقر إلى الإنسانية." أمّ أُخرى في مدرسة "حوار" قالت أنها اختارتها "لأنها لا تمارس الضغوط على الطلاب من خلال الوظائف والامتحانات، وترفض سياسة الكبت والقوانين الجامدة مثلما هو شائع في المدارس العادية."

وقالت إحدى المعلمات في مدرسة "حوار": "إن البديل في المدرسة ليس مسألة وجود امتحانات أو عدم وجودها، بل هو أكبر من ذلك. فالعلاقة مع الطالب فيها احترام، والتعامل بين المعلمين والطلاب سويّ وإنساني. هذا لا يعني أننا لا نواجه صعوبة مع بعض التلاميذ، إلّا إننا لا نستخدم معهم لغة مهينة." معلمة أُخرى أضافت أنه "لا يوجد في المدرسة مشكلة غيابات، بل على العكس الطلاب يحبون أن يبقوا فيها، وليس من باب المصادفة أن نرى في نهاية الدوام أهالي يجدون صعوبة في إقناع أولادهم بالعودة إلى البيت حالاً بعد الدوام."

  • شراكة ومشاركة الأهل

لا وجود للجنة أولياء أمور في المدرستين (وذلك لفسح المجال أمام الجميع للمشاركة)، لأن الأهالي يؤدون دوراً مهماً في الحياة المدرسية، ذلك بأن المدرستين تشجعان الأهالي على الشراكة والمشاركة في كثير من الفاعليات المدرسية، التربوية منها واللامنهجية. فمساهمة الأهل لا تقتصر على أمور محددة كالأمور اللوجستية والمادية فحسب، مثلما هو متّبع في كثير من المدارس العادية، بل يستند دورهم أيضاً إلى شراكة فاعلة مع المدرستين، بحيث يواكبون التطورات فيهما ويتساعدون على مواجهة التحديات. فالمدرستان تريان في الأهالي شركاء أساسيين في العملية التربوية، ولذا تفتحان أبوابهما على مصراعيها لمَن يرغب منهم في المساهمة في فاعليات تربوية قائمة، أو المبادرة إلى فاعليات جديدة. وما يعزز هذه الشراكة بين المدارس والأهالي هو آذان الإدارة الصاغية إلى التحديات والصعوبات التي يواجهها الأهالي.

فعلى سبيل المثال، تشترك مدرسة "مسار" في مشروع تبادل مدرسي مع مدرسة في السويد. وعند زيارة الوفد السويدي للمدرسة يأخذ الأهالي على عاتقهم مسؤولية تأمين الباصات والرحلات وجمع الأموال اللازمة لتغطية تكاليف جميع النشاطات التي تنظم على مدار فترة الزيارة، وذلك كله بالتنسيق مع إدارة المدرسة. وفي مثال آخر، تخصص مدرسة "مسار" أسبوعاً كاملاً من الفاعليات تخليداً لذكرى يوم الأرض، ومن أبرز الفاعليات التي تقام خلال هذا الأسبوع، يوم تطوعي يقوم فيه الأهالي والطلاب وطاقم المدرسة بالإشراف على تنظيم هذا الحدث، فيرممون وينظفون ويطلون مبنى المدرسة، ويجلبون ما تحتاج إليه ساحة المدرسة من طاولات ومظلات ومقاعد للجلوس. وينتهي اليوم التطوعي بجو احتفالي يقوم فيه الأهالي بإعداد وتحضير مائدة جماعية تحتوي على مأكولات تراثية من المطبخ العربي الفلسطيني. مثال آخر يدل على الشراكة القوية بين المدرسة والأهل، عندما قام عدد من الأهالي في مدرسة "مسار" بتنظيم دورات تدريبية للطلاب لتعلّم لعبة الشطرنج. واليوم، وبعد أعوام من التدريب، يتنافس عدد من طلاب المدرسة في مسابقات شطرنج محلية وقُطرية، ومنهم مَن وصل إلى منتخب إسرائيل للشطرنج. علاوة على ذلك، يرافق بعض الأهالي في هذه المدرسة الطلاب في رحلات التخييم لمساعدة المعلمين في عملية الإشراف على الطلاب، ومنهم مَن يتطوع أيضاً للعمل مرشداً للرحلات.

وعلى غرار مدرسة "مسار"، يؤدي الأهالي في مدرسة "حوار" دوراً مهماً، ففي المقام الأول هم الذين أسسوها، وهم الذين دافعوا عنها ووقفوا إلى جانبها في المحنات والأزمات، وهم الذين يمولونها من خلال رسوم التعليم العالية والتبرعات، وفوق ذلك كله، هم الذين يديرون شؤونها، فهم أصحابها قبل أن يكونوا شركاء فيها، ودورهم لا يقتصر على الأمور التقنية فحسب، مثلما هو متّبع في المدارس العادية، بل إن هذه الشراكة تخلق جواً ودياً، وتعزز الشعور بالانتماء إلى المدرسة لدى الأهالي والطلاب، وتحفّزهم على أن يأخذوا دوراً فاعلاً في الحياة المدرسية.

  • أساليب تعليمية بديلة

من الأمور التي تميز مدرستَي "مسار" و"حوار" هو التنوع في الأساليب والممارسات التعليمية. فبناء على المقابلات وحضور الحلقات الدراسية في الصفوف يمكن الجزم بأن لا مكان لأسلوب التلقين في المدرستين، مثلما هو شائع في كثير من المدارس العادية. لكن تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد طرق موحدة يستعملها جميع المعلمين، فلكل واحد منهم أسلوبه وطريقته، وهناك مَن صرّح أنه يصمم الدروس بطريقة تتوافق مع أنماط الذكاء المتعددة، والتي تأخذ الفروقات الفردية بعين الاعتبار. فهناك كثير من النقاشات في موضوعات متنوعة كاللغة العربية والتاريخ والجغرافيا وحصص التربية، لكن تماشياً أحياناً مع رغبة الطلاب، يقوم المعلم بتغيير موضوع الدرس إلى نقاش بشأن مشكلة حدثت في المدرسة، أو موضوع طارىء لا صلة له بموضوع الدرس، أو ربط الموضوع بالسياق الذي يعيشه الطلاب، وهذا كله بهدف إضفاء الحيوية على الموضوع وجذب الطلاب.

ففي المراحل الابتدائية المبكرة ذكر الطلاب أنهم كانوا يتعلمون بطرق مشوّقة، مثلاً عن طريق نشاطات رسم، أو التعلم بين الحين والآخر خارج الصف في ساحة المدرسة. وقالت إحدى المعلمات في مدرسة "مسار" أنها "تدمج أحياناً بين هواياتها في الرسم والعزف والغناء، وبين موضوع الرياضيات والعلوم، وذلك عندما ترى أن الأدوات التعليمية التي في حيازتها لا تكفي لتوضيح موضوع معين، أو عند ابتكار فاعلية جديدة." وقالت معلمة أُخرى في المدرسة نفسها أنها "لا تعتمد التلقين في تعليمها، ونادراً ما تطلب من الطلاب تدوين المعلومات في الدفاتر"، لأنها تعتمد الملف الفردي [البورتفوليو) لكل طالب. فضلاً عن ذلك، وفي كثير من الأحيان تُدمج أفلام تاريخية أو وثائقية في المادة التعليمية.

ومن الممارسات التعليمية البديلة في المدرستين، عدم إعطاء الطلاب وظائف بيتية، وإذا أُعطيت فإنها تكون قليلة وغير مضنية مثلما هو شائع في المدارس العادية. كما أن المدرستين لا تتقيدان بمنهاج وزارة المعارف والكتب المقررة، وخصوصاً في المرحلة الابتدائية، وإلى حد ما في المرحلة الإعدادية، بل إن المعلمين عوضاً عن ذلك، يعتمدون بصورة كبيرة على أوراق عمل، وينتقون مضامين من نصوص متنوعة يرونها ملائمة للطالب. وفي هذا الصدد أعربت إحدى الخريجات من مدرسة "مسار"، عن أنه في حصة اللغة العربية "كانت المضامين التي تعلموها من اختيار المعلم نفسه وتصميمه. وهكذا كانت المضامين قريبة من واقع الطلاب، كأشعار محمود درويش وسميح القاسم."

في المرحلة الثانوية في مدرسة "مسار" هناك مرونة أقل من ناحية التقيد بالكتب، واتّباعاً أكثر لأسلوب التعليم التقليدي في الموضوعات الإلزامية، وذلك بسبب التحضير لامتحانات البغروت (لإنهاء المرحلة الثانوية). وفي هذا الشأن أوضح معلم اللغة العربية في المرحلة الثانوية، أن "المعلم يتأرجح بين النظام التقليدي والنظام البديل، بحيث يعتمد من جهة الكتب التي توصي بها وزارة المعارف ويتبع توصياتها، ومن جهة أُخرى يريد أن يحافظ على تميز المدرسة البديلة وخصوصيتها"، ومع ذلك ادعى أن الملزم له كمعلم في المرحلة الثانوية هو المنهاج وليس الكتاب، بمعنى أنه يعتمد على ذائقته الذاتية عند اختيار النصوص التعليمية من المراجع والمصادر المتنوعة. فمثلاً، عندما يقوم بتحضير الطلاب لمهارات فهم المقروء، يبحث عن نصوص تتوافق مع فكر المدرسة، وتحتوي على مضامين تعكس الجانب الأخلاقي والقيمي، والجوانب التربوية التي تدعو إلى المساواة، وتحارب ثقافة الاستهلاك والعنف والجريمة. وهكذا، فإنه يلبّي طلبات المنهاج من خلال تطوير مهارات فهم المقروء، لكنه في الوقت نفسه يبحث عن نصوص ومضامين تلائم فكره وفكر المدرسة.

  • التقييم البديل

أظهرت المقابلات أن التقييم البديل يُعتبر إحدى الممارسات التعليمية الأساسية المتبعة في المدرستين، فهما تتّبعان نظاماً بديلاً متعدد الأبعاد، يخلو من الامتحانات والعلامات، وخصوصاً في المرحلة الابتدائية، وإلى حد ما في المرحلة الإعدادية، وذلك على عكس نظام التقييم التقليدي الأحادي الأبعاد المتّبع في المدارس العادية، والذي يفرط في التركيز على التحصيل العلمي. إن التقييم في المدرستين، هو أساساً كيفي وليس رقمياً، ويشمل عدة جوانب كالأداء التعليمي، والجانبَين الشخصي والاجتماعي، فالتقارير التي يحصل عليها الطالب تحتوي على ملاحظات توضح نقاط القوة لديه، والجوانب التي تحتاج إلى تحسين، مدعومة بتوصيات عملية لتحسين أدائه التعليمي، الذاتي والاجتماعي.

ويساعد التقييم البديل المعلم في كشف قدرات ومهارات أُخرى عند الطالب التي ربما طغى عليها أداؤه التعليمي المتدني. وفي هذا الصدد، أعربت إحدى الأمهات في مدرسة "حوار" عن أن "التقييم مفصل وشامل إلى درجة أني أشعر بأن المعلمين يعرفون ابني أكثر مني." ومن ميزات التقييم البديل، من منظور إحدى المعلمات في المدرسة نفسها، أن المعلم "لا يقيّم الطالب بعلامة، ولا يحكم عليه بناء عليها"، فأينما يكن الطالب ضعيفاً، يمنحه المعلم فرصة أُخرى ليصحح خطأه ويطور ذاته. معلمة أُخرى من المدرسة نفسها أضافت أن التوصيات لتحسين أداء الطالب تُكتب بصيغة الجمع، مثلاً: "إننا في الفصل المقبل سنعمل معاً بشكل مكثف على تحسين.."، وذلك كي يشعر الطالب بأنه ليس وحده، ويطمئن إلى أن المعلم سيبقى مرافقاً ومتابعاً له.

فضلاً عن ذلك، فإن التقييم لا يعتمد على أداء الطالب وسلوكه عند نقطة زمنية واحدة خلال الفصل. فقد أوضحت إحدى المعلمات في المرحلة الابتدائية في مدرسة "مسار" أنهم "يقيّمون الطالب مرتين خلال الفصل، ويبنون ملف عمل شخصياً له (بورتفوليو) يحتوي على أعمال ومهمات فردية يقوم بها على مدار الفصل." وعلى أساس هذه التقييمات، علاوة على ملاحظات المعلم بشأن الجانبين العاطفي والاجتماعي، يتم كتابة التقرير النهائي لكل طالب، ذلك بأن التقييم العاطفي والاجتماعي، مثلما أعربت إحدى المعلمات في مدرسة "حوار"، "يعطينا صورة واضحة للطالب، ويقرّبنا منه، ويجعلنا نرى الإنسان فيه." وفي المرحلة الإعدادية في مدرسة "حوار"، وفي المرحلة الثانوية في مدرسة "مسار"، تتغير طبيعة التقييم في الموضوعات الإلزامية، بحيث تأخذ صبغة تقليدية، تحضيراً لانتقال الطلاب في "حوار" إلى مدرسة ثانوية تقليدية، وتحضيراً لامتحانات البغروت في "مسار".

  • موضوعات تعليمية غير تقليدية

على عكس المدارس العادية تولي المدرستان اهتماماً كبيراً بموضوعات غير تقليدية، كالفنون والموسيقى والدراما والرقص والتصوير. ففي مدرسة "مسار" هناك غرفة كبيرة مخصصة لموضوع الفنون مزودة بكل ما يحتاج إليه الطالب من مواد وأدوات عمل، ودروس الفنون تشمل الرسم والتلوين والنحت وبناء المجسمات. وبين الحين والآخر تقوم المدرستان بعقد منافسات رسم بين الطلاب، ثم تعلَّق هذه الرسومات على الجدران. وفي مدرسة "مسار" هناك دورس للرقص الحديث والدراما، والتي تُدمج أحياناً في درس الموسيقى الذي يتدرب الطلاب فيه على استخدام أدوات عزف موسيقية كالكمان والدف والطبلة والبيانو، وذلك مقارنة بالمدارس العادية التي تدرّس الموسيقى نظرياً، أو لا تدرّسها على الإطلاق. وفضلاً عن ذلك، أدخلت مدرسة "مسار" موضوع الشطرنج في منهاجها، والذي يدرّس كأي موضوع عادي في المرحلة الابتدائية، وبشكل اختياري في المراحل المتقدمة. ولترغيب الطلاب في لعب الشطرنج، تعقد المدرسة منافسات ومباريات داخلية، وتشجع المحترفين منهم على الاشتراك في منافسات للشطرنج محلية وقُطرية.

  • ممارسات تربوية بديلة

تجدر الإشارة إلى أن كثيراً من الممارسات التعليمية البديلة صادر عن اجتهاد المعلمين وإبداعهم، وليس بالضرورة مأخوذاً من دليل مدرسي، ولذا نجد هناك تنوعاً في طبيعة الممارسات التعليمية، وفي طرق استخدامها بين المعلمين. فالطرق التعليمية البديلة المتّبعة في موضوع الرياضيات، على سبيل المثال، قد لا تكون ملائمة في تدريس موضوع اللغة العربية، أو أي موضوع آخر، كما أن المعلم قد يغير أسلوبه في التعليم بين الفصل والآخر، أو بين العام الدراسي والآخر. ولهذا، يصعب التحديد بدقة لجميع الممارسات التعليمية في المدرستين، لأنها تتغير باستمرار بناء على نظرية المحاولة والخطأ، وقد نجد قسماً منها يمارَس أيضاً في المدارس العادية.

لذا، ليس دقيقاً النظر إلى مدرستَي "مسار" و"حوار" كمدارس ذات طرق تدريسية بديلة فقط، لأن ما تمثلانه هو شيء أعمق من ذلك كثيراً. وهنا يجب الفصل بين التعليم البديل القائم على طرق بديلة للتدريس تهدف إلى جذب الطالب إلى التعلم، وبين التربية البديلة التي تقوم على صقل شخصية تجسد القيم الإنسانية المتمثلة في تقبّل الآخر، والحوار، والتفكير النقدي، والحرية، والمساواة. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن ليس كل تعليم بديل يشمل تربية بديلة، لكن كل تربية بديلة تشمل تعليماً بديلاً. وهنا تكمن القيمة المضافة إلى التربية البديلة في المدرستين، والتي تميزهما من المدارس العادية، في طريقة دمجهما طرقاً تعليمية بديلة في ممارسات تربوية بديلة.

فعلى سبيل المثال، تكرس مدرسة "حوار" في كل صباح نصف ساعة قبل بدء التعليم لفاعلية يطلقون عليها "حديث الصباح"، ويشارك فيها أجيال المدرسة كلها. ففي هذه الفاعلية يناقش الطلاب والمعلمون عدة موضوعات وقضايا لا علاقة لها بالموضوعات التعليمية، وقد تشمل قضايا الساعة، أو أحداثاً سياسية، أو التخطيط لمناسبات معينة في المدرسة، أو مجرد إعطاء الطلاب الفرصة للتعبير عن أحاسيسهم ومشاعرهم بشأن أمور تسعدهم أو تحزنهم. وفي إحدى هذه الفاعليات في صف الحضانة في مدرسة "حوار"، طرحت المعلمات موضوع المشاعر وماذا تعني، وأُعطي كل طالب فرصة للتعبير عن مشاعره في ذلك الصباح، والأسباب التي أدت إليها، وتبع ذلك نقاش بشأن كيفية تغيير المشاعر السلبية إلى مشاعر إيجابية. وقبل انتهاء الفترة المخصصة لهذه الفاعلية، كرست المعلمات بضع دقائق للعبة مسلية مع الأطفال من أجل غرس المرح فيهم قبل بدء التعليم. والهدف من فاعلية "حديث الصباح"، مثلما قالت إحدى المعلمات، هو إخراج المشاعر لدى الطلاب، وإعطاؤهم الفرصة للتنفيس عن همومهم قبل البدء بالنشاطات التعليمية اليومية.

وفي مدرسة "مسار" هناك أيضاً فاعلية مماثلة يطلقون عليها "ربع الساعة الصباحية"، ويكرَّس لها ربع ساعة قبل بدء الدوام في الصباح، وفيها يعرض المعلم أو المربي عدة موضوعات غير تعليمية، أو يقوم بأي نشاط آخر يراه ملائماً. وعلى غرار مدرسة "حوار"، فإن هذه الفاعلية تهدف إلى إعطاء الطلاب فرصة للتنفيس عن مشاعرهم، والحرية للتعبير عن آرائهم بشأن الموضوعات التي تُطرح. كما تعقد مدرسة "مسار" في المرحلة الابتدائية لقاءين كل أسبوع مع مربي الصف، يُطلَق عليهما اسم "حوار"، وفيهما يُمنح الطلاب فرصة للتعبير عن آرائهم ومشاعرهم، والمشاركة في موضوعات تربوية واجتماعية متنوعة تهدف إلى تطوير مهارات الخطاب والحوار.

ومن أبرز الممارسات التربوية في مدرسة "مسار"، والتي تُعقد في المراحل الإعدادية والثانوية، لقاء يطلَق عليه اسم "منبر الطالب"، وفيه يأخذ الطلاب زمام الأمور بطرح موضوعات للنقاش، واقتراح مبادرات إلى مشاريع مدرسية، أو تداول مشكلات مدرسية، أو التصويت على قرارات تخص الطلاب. فالمنبر، مثلما وصفه أحد الطلاب، أشبه ببرلمان أو مجلس طلابي يشترك فيه جميع الطلاب في المراحل الإعدادية والثانوية، ويديره اثنان من المربين، وهو مفتوح أمام الجميع، ويهدف إلى كسر الهرمية، وتذويت قيم الديمقراطية، والتعبير عن الرأي، وتعزيز الثقة بالنفس لدى الطالب، وتطوير مهارات القيادة والخطاب والتكلم أمام الجمهور، كما أنه يمنح الطلاب فرصة لأن يكونوا شركاء في اتخاذ قرارات مصيرية في المدرسة. ففي أحد هذه اللقاءات، عُرض فيلم موسيقي لعازف العود العراقي سعيد محمود، دار في أعقابه نقاش بشأن كيف يقوم الفنان العراقي بالتعبير عن هويته وثقافته من خلال الموسيقى، ثم اقترحت إحدى الطالبات مبادرة مدرسية دعت الطلاب فيها إلى الإقلاع، يوماً واحداً على الأقل، عن استعمال الهواتف النقالة في المدرسة، وعدم إدخالها إلى الصفوف، من أجل استغلال الوقت بأسلوب فاعل، وزيادة التفاعل الاجتماعي بين الطلاب.

ممارسة أُخرى مماثلة لمنبر الطالب في مدرسة "مسار"، هي حصة التفكير النقدي. فعلى عكس منبر الطالب الذي يُعقد بحضور جميع طلاب المراحل الإعدادية والثانوية في آن واحد، تُعقد حصة التفكير النقدي في مجموعات صغيرة، وتُطرح فيها موضوعات عديدة للنقاش منها الفلسفية والمجتمعية والدينية. والأمر الذي يميز هذه الحصة، وكذلك منبر الطالب، هو عدم تجنّبهما موضوعات محرمة ((taboos، بحيث إن كل موضوع مفتوح للنقاش بغضّ النظر عن مدى حساسيته. والموضوعات التي طُرحت سابقاً في التفكير النقدي تشمل، حقوق المرأة، والمساواة، والهوية الوطنية والقومية، والمعتقدات الدينية، والاستشهاد. ففي إحدى حصص التفكير النقدي مع طلاب المرحلة الثانوية، طرح الطلاب موضوع الغلمانية (Pedophilia) وزواج القاصرات، ودار جدل فيما بينهم بشأن ما إذا كان الزواج من قاصر يُعتبر نوعاً من الغلمانية.

  • تعزيز الهوية الوطنية

تسعى المدرستان لتأسيس هوية فردية تستند إلى القيم الإنسانية العالمية، وتشمل بناء شخصية مفكرة، وناقدة، ومعطاءة، ومغايرة، كما أنهما تقومان بعدد من النشاطات والفاعليات التي تهدف إلى ربط الطالب بتاريخه من أجل تعزيز وتطوير الانتماءين المجتمعي والوطني. ولذا، فإن موضوع الهوية حاضر بقوة في المدرستين، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بتدريس اللغة العربية وتعلُّمها، لأنها على حد قول معلمي اللغة العربية في المدرستين، تشكل أحد مركبات الهوية القومية والهوية الوطنية، وتُعدّ من أكثر الموضوعات التعليمية التي تحمل بين طياتها مضامين الهوية، ولذا، فإن موضوع الهوية حاضر عملياً من خلال اختيار نصوص لكتّاب وشعراء عرب كبار، لهم حضورهم البارز في الشعر العربي وفي الأدب العربي، كمحمود درويش وغيره. ومثلما قال أحد معلمي اللغة العربية في مدرسة "مسار": "نحن في المدرسة ننجح في أن نغذي الهوية من خلال اللغة، وأن نغذي اللغة من خلال الهوية، ونتيجة ذلك نشعر بأن الحس الوطني لدى طلابنا هو حس عالٍ ومسؤول." والأمر هو نفسه في مدرسة "حوار"، فمثلما صرّحت إحدى معلمات اللغة العربية، فإن المعلمين يستبدلون بعض النصوص المقررة في المنهاج بنصوص أُخرى قريبة من واقع الطالب العربي (مثلاً نصوص تتعلق بموسم الزيتون أو بيوم الأرض)، وتهدف إلى تحقيق عدد من الأهداف المعلنة في الرؤية التربوية للمدرسة، كخلق شخصية وطنية ومعطاءة.

ومن ضمن النشاطات التي تقوم بها مدرسة "مسار" لتعزيز الهوية الوطنية وروح الانتماء، مشروع يوم الأرض السنوي الذي يستمر أسبوعاً، ويشمل عدداً من الفاعليات، بما فيها التعرف إلى شخصيات نضالية فلسطينية كتوفيق زيّاد، وزيارات لبيوت المسنّين للسماع منهم عمّا شهدوه خلال أحداث يوم الأرض، وما عاشوه من معاناة التهجير والتشرد في إبان أحداث النكبة في فلسطين. كما يشمل هذا الأسبوع يوماً تطوعياً للطلاب والأهالي، يتضمن تنظيف وترميم مبنى المدرسة وساحتها، وتحضير مأكولات شعبية من التراث الفلسطيني. علاوة على ذلك، يُطرح موضوع الهوية في دروس التربية، أو من خلال مداخلات قصيرة في دروس عادية، فيجري التطرق إلى قضايا الساعة، أو تثار موضوعات حساسة للنقاش كموضوع الهوية الدينية. فعلى سبيل المثال، في يوم ذكرى مجزرة كفر قاسم، يدير المعلمون نقاشاً بشأن أحداث هذا اليوم، وإذا اتخذت لجنة المتابعة العربية قراراً بالإضراب احتجاجاً على ممارسات إسرائيلية تمسّ بحقوق الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل، تدور نقاشات في دروس التربية بشأن أسباب هذه القرارات وما تعنيه لهم.

وفي مدرسة "مسار"، في إحدى حصص التربية المخصصة للتعريف بالمدن الفلسطينية قبل النكبة، عرضت مجموعة من الطلاب فيلماً وثائقياً بالأسود والأبيض عن مدينة طبرية يصور الحياة فيها في سنة 1925، وأعقب ذلك عرض فيلم وثائقي آخر يشمل لقاءات مع مسنين مهجرين من تلك المدينة، تكلموا على ذكرياتهم فيها قبل النكبة، وعلى تهويدها وآلام التهجير. والهدف من هذه الفاعلية كان البحث عن الهوية عن طريق تعريف الطلاب بالذاكرة الفلسطينية القديمة، والمدن الفلسطينية، والكتّاب والشعراء الفلسطينيين.

وتعمل مدرسة "حوار" على توعية الطلاب اجتماعياً وسياسياً، من خلال نشاطات وفاعليات ترتبط بأحداث سياسية، كإحياء ذكرى مجزرة كفر قاسم، ويوم الأرض، وانتفاضة الأقصى، إمّا من خلال تكريس يوم كامل لحدث ما، وإمّا من خلال المضامين التعليمية في حصص التربية والتاريخ وغيرها. فعلى سبيل المثال، تنظم المدرسة كل عام رحلة تخييم إلى قرية فلسطينية مهجرة، تتضمن شرحاً للطلاب عن القرى المهجرة وأسمائها. وفي هذا السياق، صرّحت إحدى المعلمات أن "المدرسة توفر لي المجال لإدخال مضامين وطنية عن الهوية الفلسطينية، والانتماء، والأرض ضمن الخطة التعليمية." وترجع أهمية الأمر بالنسبة إليها إلى كونها أمّاً لأطفال في المدرسة، وإلى رغبتها في أن يتعرف الطلاب في المدرسة إلى هذه المضامين، وأنها تحب ذلك لأولادها. وينبع ذلك من إيمانها بأنه "واجب على كل طالب فلسطيني أن يعرف تاريخه، ولا سيما أن هذا التاريخ مغيّب في منهاج النظام التعليمي السائد."

وأوضحت معلمة التاريخ والجغرافيا في المرحلة الابتدائية في مدرسة "حوار" أنها تطرح موضوع القضية الفلسطينية مع الطلاب، وهجرة اليهود إلى أرض فلسطين، والصراع العربي - الإسرائيلي، وبناء المستعمرات في الضفة الغربية، ودور روتشيلد في تأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وأشارت إلى أنها في حصة الجغرافيا تعرض قضايا معاصرة ترتبط بالأرض والمسكن في المجتمع العربي الفلسطيني، كقضية هدم البيوت في قريتَي أم الحيران وقلنسوة. فهي على حد قولها ترى في هذه المضامين "رسالة وطنية واجب عليّ تمريرها"، وهي تلاقي التشجيع والدعم من إدارة المدرسة والأهالي لتعليم هذه المضامين، حتى إنه في أحد اجتماعات الأهالي طالب بعضهم بأن تتخلى المعلمة عن كتاب التاريخ المقرر في المنهاج، وتعتمد بدلاً منه المواد التعليمية التي تتناول التاريخ الفلسطيني من وجهة نظر تاريخية فلسطينية لا إسرائيلية. وعلى خلفية هدم البيوت في قرية أم الحيران، وصفت إحدى الطالبات في مدرسة "حوار" كيف نظمت المدرسة محاضرة للطلاب تضمنت شرحاً عن الأحداث، وفاعلية قامت بها مجموعات صغيرة رسمت كل منها لوحة تعبّر فيها عن موقفها ونظرتها تجاه هدم البيوت في تلك القرية.

  • تقبّل الاختلاف وتقبّل الآخر

من أبرز القيم التي تميز مدرستَي "مسار" و"حوار"، والتي تشكل أيضاً أحد أعمدة التربية البديلة، هو تقبّل الآخر وتقبّل الاختلاف. فالمدرستان تحترمان وتقدران الاختلاف والتنوع، وتسعيان لضمان حرية الفكر واحترام فكر الآخر، وضمان حق التعبير عن الرأي لكل طالب، وحقه في الاختلاف مع آراء الآخرين. وهذا يبدأ عند المعلم مثلما أوضحت إحدى المعلمات في مدرسة "مسار"، إذ إن تذويت هذه القيمة يتطلب من المعلم أن يكون محباً ومستعداً للتعامل مع الآخر، بغضّ النظر عمّن هو الآخر وما هي ميوله وانتماؤه. فعلى الرغم من ميول المدرستين العلمانية، وامتناعهما من تدريس مادة الدين، فإنهما لا تفرضان معتقداتهما على الآخرين، بل تحتفلان بالطقوس الدينية بشتى أنواعها واختلافاتها.

ونظراً إلى أن الطلاب والمعلمين في المدرستين "ينتمون إلى طوائف دينية متعددة، وبعض معتقداتهم يمكن أن يتعارض مع الأفكار العلمانية التي تتبنّاها المدرستان"، مثلما صرّحت إحدى المعلمات في مدرسة "مسار"، إلّا إن "تقبّل الاختلاف واحترام الآخر يُعتبران جزءاً من المسلمات في المدرسة." وفي هذا الصدد، قال أحد المعلمين في مدرسة "مسار" إن "انتماءات المعلم وثقافته السياسية ونشاطه الاجتماعي لا بد من أن تترك أثراً في طريقة تعليمه، وفي خياراته التربوية، ومن هذا المنطلق لا يمكن الفصل بين هوية المعلم المهنية وهويته الذاتية." وأضاف متحدثاً عن نفسه أنه يحافظ على الموضوعية في نقاشاته مع الطلاب، ولا سيما أنه مثلما قال: "أنا أنتمي إلى أيديولوجيا يسارية اشتراكية ماركسية، لكني لا أسمح لانتمائي الأيديولوجي بأن يسيطر على هويتي المهنية التي عليها أن تتمتع بموضوعية، وأن تعرّف الطالب إلى مختلف التيارات والانتماءات." وعندما يسأله الطلاب عن موقفه من قضية معينة، فإنه يصرّح به ولا يخفيه، غير أنه يشدد على أنه لا يفرض موقفه على أحد.

إن تقبّل الاختلاف لا يقتصر على المعتقدات الفكرية والدينية فحسب، بل يشمل أيضاً تقبّل أشخاص مع إعاقات جسدية. ففي مدرسة "مسار"، تحدث أحد الآباء عن ابنته التي تعاني مشكلات صحية معينة، والتي انتسبت إلى المدرسة في سن مبكرة، قائلاً: "في المدارس الأُخرى في مجتمعنا يُنظر إلى هذه الإعاقة على أنها نقص، الأمر الذي قد يخلق مشاعر سيئة لدى الطفل، وقد يؤثر سلباً في ثقته بنفسه." وأكمل الأب أن في "مدرسة (مسار) لا يوجد نقص، وإنما شخص مختلف ذو حق في أن يكون مختلفاً، وأن على الجميع تقبّله باختلافه، ذلك بأن كونه مختلفاً لا يُنقص منه شيئاً. لقد وفرت لها المدرسة الإمكان كي تحتل مركز الصدارة على صعيد المدرسة، وأن تطور قدراتها، لكن الأهم من ذلك ألّا تخجل من إعاقتها، ولا تنزوي اجتماعياً."

  • الكشف عن قدرات إبداعية وتطويرها وصقل شخصية الطالب

من البديهي أن نجد الفروقات الفردية بين الطلاب في أي إطار تعليمي، أكان سائداً أم بديلاً، لكن الفرق بين المدارس العادية والمدارس البديلة يكمن في مصير الطلاب الضعفاء تحصيلياً، وفي الجهد الذي تبذله المدارس في الكشف عن قدرات إبداعية لدى الطلاب، وتسخير الموارد لتطوير هذه القدرات. فمثلما هو متعارف عليه في جهاز التربية والتعليم في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، فإن هناك تركيزاً مفرطاً على التحصيل العلمي، وتجاهل وإهمال ما غير ذلك من القدرات والمهارات الإبداعية لدى الطلاب. وفي هذا الجانب تحديداً، تتميز مدرستا "مسار" و"حوار" بتركيزهما على كشف قدرات إبداعية فنية وغيرها لدى الطلبة من خلال التقييم البديل، ودفعهم إلى تطوير ومتابعة اهتماماتهم الإبداعية في إطار بيئي داعم. ومثلما بيّنا في قسم التقييم البديل، فإن أداء الطالب في المدرسة لا يقاس بعلامات رقمية، وإنما بتقارير استشفافية مفصلة تبيّن جوانب القوة لديه، والجوانب التي تحتاج إلى تحسين، فضلاً عن تحديد قدرات إبداعية فنية، في الرسم والموسيقى مثلاً التي ربما يكون المعلمون قد لاحظوها من خلال تفاعلهم مع الطلاب. ومن الملاحظات التي حصلنا عليها من الطلاب والمعلمين في كلتا المدرستين، أن المدرسة تنمّي قدرات الطالب ومهاراته في مجالات أُخرى، حتى لو كان ضعيفاً أكاديمياً. ومن وجهة نظر المدرستين، لا يوجد إنسان فاشل، لأن النجاح لا يقاس بكون الخريج أصبح طبيباً أو مهندساً فقط، بل يمكن أيضاً أن يصبح فنانا ناجحاً، أو عازفاً مبدعاً وحرفياً مهنياً. والأهم من ذلك كله، أن يكون إنساناً فاعلاً ومساهماً في نمو مجتمعه وتطويره.

إن كل ما تقوم به المدرستان من ممارسات ونشاطات يصبّ في نهاية الأمر في سبيل سعيهما لصقل شخصية مبادرة ومبدعة وصانعة للتغيير. وفي هذا الصدد، يقول أحد المعلمين في مدرسة "مسار" إنهم في المدرسة "يلمسون التغيير الذي يُحْدثونه عند الطلاب بعد أعوام من التعليم في المدرسة، من خلال التمكن من اللغة العربية، وطريقة التفكير، والمنطق الذي يفكرون به"، وإنهم في المدرسة نجحوا في "زرع روح الجرأة والمغامرة والتحدي لدى الطلاب." وقالت إحدى الخريجات من المدرسة نفسها، إن "المدرسة جعلتني مستعدة للحياة الجامعية، لأنها عرّفتني دائماً إلى أمور وتجارب جديدة غير تقليدية، مثل التبادل مع مدرسة ألمانية، وعززت ثقتي بنفسي، وطورت لديّ مهارة اتخاذ القرار."

وأكدت إحدى الأمهات أن المدرسة أدت دوراً كبيراً في تعزيز الثقة بالنفس لدى ابنها، فبات قادراً على التكلم بثقة أمام الجمهور، وجريئاً في التعبير عن رأيه. وذكرت إحدى الطالبات في مدرسة "حوار" أن المدرسة تعمل جاهداً على تطوير شخصية الطالب، وأن كثيراً من أفكارها بشأن أمور معينة تغير بعد انضمامها إلى المدرسة، كذلك الذي يتعلق بالوعي السياسي. كما أعربت إحدى المعلمات في المدرسة نفسها عن أنه "من المهم جداً أن يخرج الطالب من الحصص مثقفاً، بدلاً من أن يخرج حافظاً للمادة التعليمية، لأن في إمكانه أن يقرأ المادة بمفرده."

  • المعلمون

هناك مقولة تفيد بأن جودة الجهاز التعليمي لا يمكن أن تفوق جودة المعلمين فيه، أي أن جودة نظام التعليم المدرسي تعتمد أساساً على كفاءة المعلمين ونوعيتهم. وبناء على تحليل المقابلات، وخصوصاً مع الطلاب والأهالي، يمكن القول إن ما يميز المدرستين من المدارس العادية يعود أصلاً إلى نوعية المعلمين وجودتهم فيهما. وبما أن المدرستين تديرهما جمعيات أهلية، فإن هذا يسمح لهما باختيار وتوظيف معلمين مبدعين ومميزين، وليس فقط بناء على مؤهلاتهم الأكاديمية. فقد بدا واضحاً من خلال المقابلات، والمشاهدات في اللقاءات التدريبية في كلا المدرستين، وجود مدرّسين من نوع متميز في هذا المضمار. فليس كل معلم يصلح للعمل في مدرسة للتربية البديلة، لأنه أولاً وقبل أي شيء، يجب أن يؤمن بفكر المدرسة ورسالتها، وأن يتمتع بشخصية منفتحة ومرنة، وأن يتميز في أسلوبه التعليمي وقدرته على جذب الطلاب واحتوائهم. ولتأكيد ذلك قالت إحدى المعلمات في مدرسة "مسار"، إن "تميز المدرسة يرتبط إلى حد كبير بشخصية المعلم."

لقد أشاد عدد من الطلاب والخريجين والأهالي من كلا المدرستين بدور المعلمين في إثراء التجربة التربوية، وفي صقل شخصية الطالب، ورفع الوعي الاجتماعي والسياسي لدى الطلاب. فالمعلمون في "مسار" و"حوار"، هم أولاً وقبل أي شيء مربّون ومحبّون لمهنتهم، ويرون فيها رسالة لا مهنة يجنون منها مردوداً مادياً، كما أن لديهم الرغبة في البحث والتجديد في المضامين التربوية لأن المدرسة تعتبرهم خلّاقين للمعرفة، وليسوا ناقلين لها فقط. وأشاد الطلاب في كلا المدرستين أيضاً بالاهتمام الذي يحصلون عليه من المعلمين، ويرون أنهم يفهمونهم ويتعاطفون معهم ويعرفونهم بصورة شخصية. ومثلما صرّحت إحدى الطالبات في مدرسة "حوار"، فإن "المعلمين يأخذون مصلحة الطالب ونجاحه جدياً، ويُبدون الاستعداد، بعد انتهاء الدرس أو في أوقات فراغهم، لتوضيح الأمور والمضامين التعليمية للطلاب الذين يواجهون صعوبة في الدرس"، كما أن الطلاب وأهاليهم يشعرون بالراحة والحرية في التواصل مع المعلمين لتوضيح بعض الأمور، حتى بعد انتهاء الدوام المدرسي. ولتأكيد ذلك، قالت إحدى المعلمات في مدرسة "مسار": "أنا أفسح المجال للأهالي للاتصال بي في أي وقت، حتى لو كان في ساعات الليل المتأخرة إذا لزم الأمر"، وأحياناً تتلقى أيضاً مكالمات من الأهالي للاستشارة بشأن أشياء عامة لا علاقة لها بأولادهم أو بالمدرسة، فهي على حد قولها تشعر بأنها "أصبحت صديقة للعائلات."

كان واضحاً من خلال المقابلات وحضور الجلسات الدراسية في الصفوف أن المعلمين يبذلون جهداً كبيراً في البحث عن نصوص تحتوي على مضامين جديدة، وتحضيرها، ثم تمريرها بطريقة تشد الطلاب وفق مبادىء التربية البديلة، وهم يقومون بذلك في كثير من الأحيان من دون الحصول على حوافز مادية، أو نقاط استحقاق، مثلما هو شائع في المدارس العادية. وهذا النموذج "ربما يكون غير مفهوم لدى البعض"، كما علّقت إحدى المعلمات في مدرسة "مسار"، واستطردت قائلة: "حتى زوجي يعتقد أنني أكرس كثيراً من وقتي للمدرسة، وينصحني بأن أتعامل معها كأي مكان عمل آخر." لكنها لا تتفق مع هذا الرأي لأنها، مثلما قالت: "لا أرى في المدرسة مكان عمل فقط، بل هي بالنسبة إليّ مكان أجد فيه نفسي، وأمارس معتقداتي وأفكاري من خلال ممارساتي التربوية"، فهي لا تفصل بين عملها في المدرسة وحياتها الشخصية، ولا تؤمن بضرورة وجود هذا الفصل. معلمة أُخرى قالت: "أنا أراجع ذاتي دائماً بشأن مجرى يوم عملي عند عودتي إلى البيت، وإذا شعرت بأنني أخطأت مع طالب أعتذر إليه في اليوم التالي." معلمة أُخرى في مدرسة "مسار" أضافت أن "معرفة المعلم وحدها لا تحدد مَن هو، وإنما قدرته على النزول إلى مستوى الطلاب، واستعداده لأن يعيش تجربتهم كأنه واحد منهم."

ومثلما ذكرنا سابقاً، فان تميز المدرستين يرتبط بتميز معلميها، ولهذا، فإنهما توليان اهتماماً كبيراً بتطوير المعلمين شخصياً وتربوياً وثقافياً من خلال دورات استكمال وتدريب متواصل. وينبع ذلك من إيمانهما بضرورة الاستمرار في تحسين وتطوير القدرات الذاتية والمعرفية لدى المعلم، فمن خلال التدريب تسعى المدرستان أيضاً لتطوير مهارات التفكير النقدي، فضلاً عن تنمية المهارات القيادية لدى المعلمين، وذلك لإيمانهما بأن التغيير الاجتماعي الذي تنشدانه يتطلب معلمين قياديين يكونون قدوة يحتذي بها الطلاب.

IV - التحديات التي تواجه المدارس البديلة

في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل

كثيراً ما تواجه المدارس التي تلتزم توفير تربية بديلة تحديات كبيرة، ومن أهمها الحصول على اعتراف رسمي يضمن لها التمويل. وفعلاً، غالباً ما تواجه المدارس البديلة مماطلات بيروقراطية تتضمن اعتراضات من السلطات المحلية ووزارة المعارف. وربما يكون الأمر في إسرائيل في غاية الصرامة، إلى الحد الذي لا يتبقّى للمدرسة معه أي خيار آخر سوى تقديم التماس إلى المحكمة العليا. وحتى بعد الحصول على المصادقة الرسمية من وزارة المعارف، فإن المدارس البديلة قد تستمر في مواجهة تدخلات تلك الوزارة في مختلف المسائل، ومن ضمنها كتب التدريس التي تستخدمها المدرسة، والرسوم التي تجبيها في مقابل التعليم والنشاطات اللامنهجية. وعلى الصعيد المحلي، فإن المدارس البديلة قد تواجه معارضة شديدة من طرف المربين والمعلمين في المدارس الحكومية، ومن أقسام المعارف في المجالس المحلية، لقلقهم إزاء تأثير المدارس البديلة سلباً في المدارس الحكومية، من خلال تفريغ الأولى المدارسَ الحكومية من الطلاب الأقوياء أكاديمياً، تاركة لها شريحة كبيرة من الطلاب الضعفاء، الأمر الذي قد يزيد في تفاقم أزمة تردّي مستوى التعليم في المدارس المحلية الحكومية.

وفي السياق نفسه، كثيراً ما تواجه المدارس البديلة صعوبة عند الحصول على تمويل، حتى بعد ضمان اعتراف رسمي بها من وزارة المعارف. والتمويل أمر مصيري لضمان تكاليف إدارة المدرسة، بما في ذلك دفع رواتب المعلمين ومخصصاتهم التي يحددها القانون، وتكاليف الصيانة، والمعدات، والترميمات، وفي بعض الحالات، تكاليف الإيجار.

والأهم من ذلك كله، هو أنه من أجل جذب أطفال من عائلات محرومة اقتصادياً للانضمام إلى المدارس، فإن على التمويل أن يغطي تكاليف المنح الدراسية. وبصورة عامة، يتعلق تمويل المدارس في إسرائيل بنوعها: مؤسسات رسمية، أو مؤسسات غير رسمية معترف بها، أو مؤسسات معفية (مؤسسات يهودية دينية). والمؤسسات الرسمية هي عبارة عن مؤسسات تربوية تملكها وترعاها الحكومة أو السلطة المحلية، وتموّلها الدولة بالكامل، وتعتمد المناهج الأساسية التي تضعها وزارة المعارف بنسبة 100%، بحيث تقوم هذه الأخيرة بالإشراف عليها، ويكون المعلمون موظفين لدى الحكومة أو السلطة المحلية، وهذه المؤسسات تشمل المسارين التعليميين: الحكومي والحكومي الديني. وأغلبية المدارسة العربية الابتدائية والثانوية في إسرائيل معرّفة كمؤسسات رسمية، أمّا المؤسسات غير الرسمية المعترف بها فهي مؤسسات تربوية لا تملكها أو ترعاها الدولة، لكنها تعترف بها، وتشرف عليها وزارة المعارف، فتحصل بالتالي بهذا على 75% من التمويل. كما أن القانون يقضي بأن تعلّم المدرسة 75% من المناهج الأساسية التي تتبعها المؤسسات الرسمية، والمدارس البديلة تنتمي إلى هذه الفئة. وفيما يتعلق بالتمويل، فإن المدارس البديلة تغطي تكاليفها من رسوم التعليم، ومن جمع التبرعات من صناديق محلية ودولية وجهات خاصة. إلّا إن هذه مشكلة تم تشخيصها على أنها ظاهرة يجدر حلها، إذ طالبت المحكمة العليا وزارة المعارف بتقديم حل يتيح للمدارس البديلة أن تزيد دخلها من رسوم التسجيل من أجل تسديد تكاليف تشغيلها.

هناك تحدّ آخر يتمثل في إيجاد معلمين ملائمين. فكثيرون من المعلمين المؤهلين غير ملائمين للفلسفة والمبادىء التي يضعها مؤسسو المدارس البديلة، وكثيرون منهم لا يرتاحون لأساليب التربية التي تضع الطفل في مركز العملية التربوية. وبحسب ما نعرفه، لا يقدم أي من برامج تأهيل المعلمين في إسرائيل، شهادات أو مساقات تتخصص بالتربية البديلة. ولذلك، فإن عبء تأهيل المعلمين المستقبليين بمبادىء التربية البديلة وقيمها يقع غالباً على هذه المدارس ذاتها.

ثمة قاسم مشترك بين المدارس البديلة هو هدفها المشترك في توفير المهارات والثقة بالنفس للفلسطينيين الشباب كي يسعوا لأن يكونوا قادة للتغيير الاجتماعي ولتطوير مجتمعاتهم. وبخلاف المدارس الحكومية والكنسية، كثيراً ما تضطر المدارس البديلة إلى الدفاع عن رؤيتها التربوية البديلة، وعن الأساليب التي تتحدى فيها المعتقدات الراسخة داخل مجتمعاتها، ومن ضمن ذلك ترويج حرية الاختيار لدى الطلاب. علاوة على ذلك، وبمعزل عن المجتمع العيني الذي تنشأ فيه المدرسة، فإن المجتمع الأوسع سيحكم على المدارس البديلة دوماً بحسب المعايير السائدة وإنجازات الطلاب، أو بحسب ما يصفه بار وباريت (Barr and Parrett 2001) بأنه "النتيجة النهائية (The bottom-line)." وقد يكون جمهور المربين أقل اهتماماً بدراسة الإصلاحات التي تجري في هذه المدارس، وأكثر اهتماماً بتحصيلات الطلاب، لكن على حد علم الباحثين، لم يُجرَ بعدُ تقييم دقيق لنجاعة المدارس البديلة داخل المجتمع العربي الفلسطيني.

وعلى الرغم من وجود تنوع هائل من حيث الأساليب التربوية، فإن هناك قاسماً مشتركاً آخر بين المدارس البديلة عامة، وهو نفورها النسبي من التقييمات الأكاديمية المعيارية (كالامتحانات، مثلاً)، واعتمادها بدلاً من ذلك أساليب تقييم بديلة - بما فيها التقييمات الكيفية التي تُعطي تغذية مرتدة (feed back) بشأن مواضع قوة الطلاب أنفسهم. ومع أن هذه المدارس تُقدم في أحيان كثيرة ادعاءات منطقية ضد استخدام التقييمات المعيارية، إلّا إن الجمهور العام يخطىء فهم هذه الادعاءات. وفي النتيجة، قد تكتسب هذه المدارس سمعة فحواها أن طلابها يذهبون إليها لـ "اللعب" فقط، وفي ذلك خطر بوصمهم اجتماعياً.

يؤدي أولياء الأمور دوراً في غاية الأهمية في المدارس البديلة، إذ كثيراً ما يكونون طرفاً في مختلف جوانب عمل المدارس وعمليات اتخاذ القرارات فيها. وفي بعض الأحيان، قد تلجأ المدارس إلى استخدام أولياء الأمور كنوع من "الدرع الواقي" لحمايتها من تدخلات بيروقراطية في طريقة إدارة المدرسة. ومن جهة أُخرى، ربما يشكّل أولياء الأمور تحدياً بالغاً بالنسبة إلى تلك المدارس، إذ في إمكانهم استخدام تأثيرهم لفرض تغييرات على مناهجها أو طريقة إدارتها، وهو ما قد يتعارض، في بعض الحالات، مع المبادىء والقيم التي أُنشئت المدارس وفقاً لها. فعلى سبيل المثال، فإن أولياء الأمور الذين يعون جيداً رفض المدرسة استخدام تقييمات رسمية للأطفال قبل انتسابهم إليها، قد يمارسون ضغوطاً على المدرسة في مرحلة لاحقة كي تباشر استخدام تقييمات معيارية رسمية.

V - خلاصة واستنتاجات

عرضنا في هذه الدراسة مميزات التربية البديلة وتحدياتها من خلال تسليط الضوء على مدرستين نموذجيتين تتبنّيان تلك التربية في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل. فعلى الرغم من بعض الاختلافات بينهم، كحجم المدرسة وتاريخ التأسيس، فإن هناك تشابهاً كبيراً بينهما من حيث الفكر والمميزات. فالمدرستان تتميزان بالجو التعليمي العائلي الذي يشد الطلاب إلى التعلم والذهاب إلى المدرسة، ومنظومة العلاقات الودية بين المعلمين والطلاب، والعمل على بلورة الهوية الوطنية، والسعي لصقل شخصية بديلة، والأساليب التعليمية والممارسات التربوية البديلة. وتجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن حصر القيمة المضافة في المدرستين بالأساليب التعليمية فقط، بل الأهم من ذلك بالممارسات التربوية بشتى أنواعها، والتي تهدف إلى خلق جيل واثق بنفسه وبهويته، ومفكر ومثقف وصانع للتغيير الاجتماعي. لكن لا يمكن تحقيق التغيير المنشود لدى الطلاب من دون معلمين مؤهلين للعمل في مدرسة بديلة، ومجنّدين فكرياً ومعنوياً لمهمة إنجاز الرؤية المدرستين التربوية.

إن المميزات التي أوردناها في هذه الدراسة هي سمات أساسية لهاتين المدرستين البديلتين، "مسار" و"حوار"، وهما بهذا تختلفان عن المدارس العربية الأُخرى في البلد، لكن هذا لا يعني أنه لا توجد مدارس عربية أطلقنا عليها مصطلح تقليدية، وليس فيها بعض المميزات التي ذكرناها. غير أن ما يميز هاتين المدرستين هو اجتماع هذه المميزات معاً لإيجاد الفكر البديل وممارسته على أرض الواقع.

وبهذا، فإن مدرستَي "مسار" و"حوار" تشكلان نموذجاً آخر للتربية يتحدى الموجود، وذلك لتقديمهما شروطاً تربوية وتعليمية أفضل، ولوضعهما الطالب في مركز العملية التربوية. وهذا ليس بالأمر السهل مثلما أوضحنا، فلتحقيق وتذويت قيم التربية البديلة وممارساتها على أرض الواقع هنالك حاجة إلى تدريب دائم المعلمين.

لم تنبثق ظاهرة المدارس البديلة في المجتمع العربي الفلسطيني من العدم، ذلك بأن أعواماً من الإهمال، وتدهور حالة التعليم الحكومي في إسرائيل، وتقلص تطلعات وآفاق الجهاز السائد، دفعت بالناشطين من أولياء الأمور والمربين إلى تغيير جهاز التعليم عبر تعزيز التربية البديلة فيه. فأولئك الناشطون يؤمنون بأن المدارس الحكومية والكنسية تفتقر إلى فضاءات تربوية يستطيع فيها العرب الفلسطينيون في إسرائيل أن يمتلكوا قدراً أكبر من السيطرة على السيرورة التربوية، كما يسعون لاستخدام مناهج تعكس ثقافة المجموعة العربية الفلسطينية الأصلانية وتاريخها. ومن هذا المنطلق، يجوز اعتبار المدارس البديلة في المجتمع العربي الفلسطيني على أنها تجلٍّ لما وصفه مرعي بأنه "محاولة الفلسطينيين أن يثابروا ويعززوا هويتهم القومية العربية، ولا سيما الفلسطينية، وأن يغرسوا الفخر في ثقافتهم وإرثهم وقوميتهم" (Mar’i 1978, p. 37). علاوة على ذلك، ومن خلال تأسيس مدارس بديلة، يسعى الناشطون لإدراج قيم جديدة على الساحة التربوية العربية الفلسطينية، مثل الالتزام بالمراجعة الذاتية، والتغيير والابتكار، وحرية التعبير، والمساواة في الحقوق، وتقبّل الاختلافات، والمسؤولية الاجتماعية، والحوار والانخراط في عملية اتخاذ القرارات.

إن مدارس التربية البديلة لا تزال ظاهرة جديدة نسبياً لدى المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، وقدرتها على الصمود مهددة دائماً من طرف سياسات وزارة المعارف، وبالتالي، فإن ممارسات هذه المدارس، والقيم التي تضفيها، لم تخضع بعدُ لمراجعة دقيقة. وقد يكون الأمر صعباً في مجتمع يربط نجاعة المدارس بالامتياز الأكاديمي، وهو معيار ترفضه المدارس البديلة قطعياً، كما أن المدارس العربية الفلسطينية تواجه شتى التحديات، وبعضها ربما يؤدي إلى زوالها، ونخص بالذكر مشكلات الميزانية، وصعوبة استصدار اعترافات رسمية من وزارة المعارف. فكثيراً ما تخوض المدارس التي تقدم طلباً للحصول على اعتراف بها، نضالات قضائية مضنية ضد وزارة المعارف التي لا تزال تتردد جداً قبل منح المدارس العربية الفلسطينية قدراً أكبر من السيطرة على مناهج التعليم فيها.

 

المراجع

بالعربية

حيدر، عزيز (1994). "الفكر الاجتماعي والسياســي للجامعيين الفلسطينيين في إسرائيل". "المستقبل العربي"، العدد 181، ص 59 – 85.

بالأجنبية

Abu-Saad, Ismael (2006). “State Educational Policy and Curriculum: The Case of Palestinian Arabs in Israel”. International Education Journal, vol. 7, no. 5, pp. 709-720.

Agbaria, Ayman (2013). “Arab Civil Society and Education in Israel: The Arab Pedagogical Council as a Contentious Performance to Achieve National Recognition”. Race, Ethnicity and Education. Advance online publication, vol. 18, no. 5, pp. 675-695.

Al-Haj, Majid (1995). Education, Empowerment and Control: The Case of the Arabs in Israel. Albany, New York: State University of New York Press.

Al-Haj, Majid & Henry Rosenfeld (1990). Arab Local Government in Israel. Boulder, San Francisco and London: Westview Press.

Amara, Muhammad & Abd Al-Rahman Mar’i (2002). Language Education Policy: The Arab Minority in Israel. Dordrecht: Kluwer Academic.

Amara, Muhammad, Faisal Azaiza, Rachel Hertz-Lazarowitz & Aura Mor-Sommerfeld (2009). “A New Bilingual Education in the Conflict-Ridden Israeli Reality: Language Practices”. Language and Education, vol. 23, pp. 15-35.

Appleton, Matthew (Summer1992). “School as Community: The Ecology of Childhood: A View From Summerhill”. Journal of Alternative Education. pp. 1-7.

Arar, Khalid (2012). “Israeli Education Policy since 1948 and the State of Arab Education in Israel”. Italian Journal of Sociology of Education, vol. 1, pp. 113-145.

Aron, Laudan Y. (2003), Towards a Typology of Alternative Education Programs: A Compilation of Elements from the Literature. Washington, D.C.: The Urban Institute.

Barr, Robert & William Parrett (2001). Hope Fulfilled for At-Risk and Violent Youth: K-12 Programs That Work. Needham Heights, Massachusetts: Allyn & Bacon.

Barr, Robert, William Parrett & Brous Colson (1977). “An Analysis of 6 School Evaluations: The Effectiveness of Alternative Public Schools”. Viewpoints, vol. 53, no. 4, pp. 1-30.

Carnie, Fiona (2003). Alternative Approaches to Education: A Guide for Parents and Teachers. London: Routledge Falmer.

Conley, Brenda (2002). Alternative Schools: A Reference Handbook. Santa Barbara, California: ABC-CLIO.

Dahan, Yossi & Yossi Yonah (2007). “Israel's Education System: Equality of Opportunity: From Nation Building to Neo-Liberalism”. In: Aspects of Education in the Middle East and North Africa. Edited by Colin Brock & Lila Levers. Oxford, England: Oxford University Press, pp. 141-162.

Doll, William (1979). “A Structural View of Curriculum”. Theory into Practice, vol. 18, pp. 336-348.

__________ (1993). A Post-Modern Perspective on Curriculum. New York: Teachers College Press, Columbia University.

Edwards, Carolyn Pope (2002). “Three Approaches from Europe: Waldorf, Montessori, and Reggio Emilia”. Early Childhood Research and Practice, vol. 4, no. 1, http://ecrp.uiuc.edu/v4n1/edwards.html

Eisikovits, Rivka A. (1997). “The Educational Experience and Performance of Immigrant and Minority Students in Israel”. Anthropology and Education Quarterly, vol. 28, pp. 394–410.

Foley, Regina M. & Lan-Sze Pang (2006). “Alternative Education Programs: Program and Student Characteristics”. High School Journal, vol. 89, no. 3, pp. 10–21.

Jabareen, Yousef (April 2006). “Law and Education: Critical Perspectives on Arab Education in Israel”. American Behavioral Scientist, vol. 49, no. 8, pp. 1052–1074.

Kellmayer, John (1998). “Building Educational Alternatives for At-Risk Youth: A Primer”. High School Magazine, vol. 6, no. 2, pp. 26-30.

Khattab, Nabil (2003). “Explaining Educational Aspirations of Minority Students: The Role of Social Capital and Students’ Perceptions”. Social Psychology of Education, vol. 6, issue 4, pp. 283-302.

Lange, Cheryl and Sandra Sletten (2002). Alternative Education: A Brief History and Research Synthesis. Alexandria, VA, Project FORUM at National Association of State Directors of Special Education (NASDSE).

Levy, Gal (2005). “From Subjects to Citizens: On Educational Reforms and the Demarcation of the 'Israeli-Arabs'”. Citizenship Studies, vol. 9, issue 3, pp. 271-291.

Levy, Gal & Mohammad Massalha (2010). “Yaffa: A school of their choice?” British Journal of Sociology of Education, vol. 31, issue 2, pp. 171-183.

__________ (2012). “Within and Beyond Citizenship: Alternative Educational Initiatives in the Palestinian-Arab Society in Israel”. Citizenship Studies, vol. 16, issue 7, pp. 905-917.

Mar’i, Sami (1978). Arab Education in Israel. Syracuse: Syracuse University Press.

McGee, Jay (2001). “Reflections of an Alternative School Administrator”. Phi Delta Kappan, vol. 82, issue 8, pp. 558-591.

Raywid, Mary Anne (1981). “The First Decade of Public School Alternatives”. Phi Delta Kappan, vol. 62, issue 8, pp. 551-553.

__________ (1983). “Alternative Schools as a Model for Public Education”. Theory in Practice, vol. 22, pp. 190-197.

__________ (September 1994). “Alternative Schools: The State of the Art”. Educational Leadership, vol. 52, no. 1, pp. 26-31.

Stronach, Ian & Heather Piper (March 2008). “Can Liberal Education Make a Comeback? The Case of 'Relational Touch' at Summerhill School”. American Educational Research Journal, vol. 45, no. 1, pp. 6-37.

__________ (2009). “The Touching Example of Summerhill School”. In: Alternative Education for the 21st Century: Philosophies, Approaches, Visions. Edited by Philip Woods & Glenys Woods. New York: Palgarve-Macmillan.

Yonah, Yossi (2000). “Parental Choice in Israel’s Educational System: Theory vs. Praxis”. Studies in Philosophy and Education, vol. 19, issue 5-6, pp. 445–464.

Zeira, Anat, Ron Astor & Rami Benbenishty (2003). “School Violence in Israel: Findings of a National Survey”. Social Work, vol. 48, issue 4, pp. 471-483.

بالعبرية

إنبار، دان (محرر) (1993). "اختيار التعليم: استراتيجيات الاتجاه والحركة". في "اختيار التعليم في إسرائيل: المفاهيم والمقاربات والمواقف". تحرير دان إنبار. القدس: وزارة التربية، ص 97 – 116.

إيشيلوف، أوريت وأندريه الياس مزاوي (1997). "الاختيار التربوي ومعانيه الاجتماعية للمجتمع العربي في يافا". "ميغاموت"، العدد 38، ص 421 – 432.

جبّارين، يوسف وأيمن إغبارية (2010). "التعليم المعلق: سياسة الحكومة الإسرائيلية ومبادرات المجتمع المدني لتحسين التعليم العربي في إسرائيل". حيفا: دراسات وندوة حقوق الأقلية العربية.

الحاج، ماجد (1996). "التعليم بين عرب إسرائيل: السيطرة والتغيير الاجتماعي". حيفا: جامعة حيفا، مركز الأبحاث التربوية.

صرصور، سعد (1999). "التعليم العربي في إسرائيل: الوضع الحالي والرؤية المستقبلية". في "يوبيل للنظام التعليمي في إسرائيل". تحرير إيلاد بيليد. تل أبيب: وزارة الأمن، ص 1061 – 1083.

كيزل، آري (2012). "التعليم الديمقراطي الانتقائي في إسرائيل: إصلاح العالم أو العزل". "دراسات في التعليم"، العدد 6، ص 46 – 61.

مصالحة، محمد (2009). "التربية البديلة في المجتمع العربي في إسرائيل". "ألبايم"، العدد 34، ص 182 – 193.

هربون، عريت (2009). "صراع العرب الفلسطينيين في إسرائيل على سياسة التعليم: المطالبة بموارد مادية أم موارد أيديولوجية؟". أطروحة ماجستير غير منشورة. إسرائيل: الجامعة المفتوحة.

 

[1] رودولف شتاينر (1861 - 1925)، عالم ومفكر وفيلسوف نمساوي، هو الذي أسس مدارس فالدورف، وابتكر الـ "أنثروبوصوفيا"، وهي فلسفة روحانية تدمج ما بين التربية الروحانية والعلوم الطبيعية. وفي سنة 1919، وفي أعقاب التدمير الذي أحدثته الحرب العالمية الأولى، دُعِي شتاينر إلى إنشاء مدرسة لموظفي مصنع فالدورف - أستوريا في شتوتغارت، في ألمانيا، وبموجب رؤياه، فإن هذا النوع الجديد من المدارس يُفترض أن يربي البشر كي يكونوا قادرين على بناء مجتمع عادل يعمّه السلام. وتحدى هذا التوجه الأعراف القائمة آنذاك، إذ كان يعتمد التربية المشتركة، أي تربية الأولاد والبنات في غرفة الصف ذاتها، كما أن المدرسة كانت مفتوحة لجميع الأطفال مهما تكن خلفياتهم، من دون امتحانات دخول، وكانت شاملة (من المرحلة ما قبل المدرسية حتى المرحلة الثانوية)، ومستقلة عن أي سيطرة خارجية (Edwards 2002).

[2] كانت مدرسة سمرهيل من أولى المدارس البديلة التي تبنّت توجه التربية التي عمادها الاختيار، وقد أسسها في إنجلترا في سنة 1921 ألكسندر س. نيل. واهتم نيل كمربٍّ، بالممارسة، لا بالنظرية، إذ كان يؤمن بأن المدارس التقليدية تسجن الطلاب، ولا تحترم الحريات الشخصية التي تَلزمهم كي يتعلموا (Conley 2002). وتحلّت المدرسة بتوجهات مناهضة للنظام، وكان لديها تحيزات مناهضة للسلطة وللنظريات (Raywid 1983). وبدلاً من زجّ التلاميذ في صفوف يتلقّون فيها حقائق لا نهاية لها، وتحت التهديد بالعصا، أراد نيل أن يبني بيئة يمكن للأطفال فيها أن ينموا بلا خوف كي يستمتعوا بطفولتهم، فقد كان يؤمن بأن الأخلاقيات المفروضة على الأطفال تشلّهم عاطفياً، وتزرع النزاعات في دواخلهم. ومن خلال إلغاء التابوهات التي تتسبب بهذه النزاعات، كان نيل يسعى لإلغاء هذه النزاعات كلياً، فالمدرسة، بحسب تصوره، موجودة كي تتلاءم مع الطالب، لا العكس (Appleton 1992). وفي مدرسة سومرهيل، كان هناك علاقة مساواة بين البالغين والأطفال، فقد رفضت فرض الحضور الإجباري للحصص، أو دخول الامتحانات، أو إجراء التقييمات، أو حتى تقديم تقارير إلى أولياء الأمور. كما أنها تمتعت بحكم ذاتي، فنُواتها هي "الاجتماع"، بحيث كان التلاميذ وأعضاء هيئة التدريس يقررون كيفية إدارة المدرسة، وكان كل شخص يُعطى صوتاً واحداً، وكان للجميع صوت متساوٍ، من أصغرهم سناً، حتى نيل نفسه (Stronach & Piper 2008).

ولا تزال مدرسة سمرهيل مفتوحة، على الرغم من الانتقاد اللاذع من طرف المفتشين الحكوميين ذوي الصلة في إنجلترا، والذين حاولوا جاهدين إغلاقها بسبب بعض الممارسات التعليمية المريبة بطبيعتها، مثل الحضور الطوعي للحصص (Stronach & Piper 2008). واتُّهمت المدرسة بإهمال الجانب الأكاديمي، للتركيز بدلاً من ذلك على الجانب العاطفي، ومع ذلك، ادعى نيل أنه من خلال الاهتمام بالعواطف، فإن الجانب الذهني يرعى نفسه بنفسه، ولذلك، لا أهمية لكمية ما يتعلمه الطفل في فترة زمنية معينة، فالمهم هو ألاّ تُتلَف رغبة الطفل في التعلم. وفي هذا السياق، كان نيل يعتقد أن الطفل السليم عاطفياً يتعلم بوتيرة أسرع عندما تكون المضامين التدريسية ذات صلة بحاجاته في اللحظة العينية. وحتى إذا جرت أغلبية عملية التعلم الأكاديمي بعد الفترة المحددة والمخصصة للتعليم، فإن تحقيقه يتم بشكل أكثر نجاعة إذا ما جرى السعي له بتفانٍ (Appleton, 1992).

حالياً، تصف المدرسة نفسها بأنها "أقدم ديمقراطية أطفال في العالم" (www.summerhillschool.org)، وهي ما زالت على النمط نفسه من حيث حكمها الذاتي منذ أسسها نيل. والتعلم في المدرسة يتطلب دفع رسوم، ولديها أوجه شبه بالمدارس الديوية (نسبة إلى جون ديوي)، من حيث منطقها الذي يضع الطفل في المركز، ويركز على الحكم الديمقراطي. لقد كانت المدرسة نموذجاً اقتدت به مئات المدارس الحرة في الولايات المتحدة في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته (Stronach & Piper 2008).

السيرة الشخصية: 

محمد أمارة: رئيس الدراسات العليا في الكلية الأكاديمية "بيت بيرل"، ورئيس الجمعية الإسرائيلية لدراسة اللغة والمجتمع. ·

وسام مجادلة: أستاذ علم النفس، وعضو هيئة التدريس في أكاديمية القاسمي.