منذ عام تقريباً، أي منذ أن تم حل الكنيست الإسرائيلي الـ 19 بمبادرة من نتنياهو في 26 كانون الأول / ديسمبر 2018، وحتى لحظة كتابة هذه المقالة في تشرين الثاني / نوفمبر 2019، تعيش إسرائيل حالة انتخابات مستمرة ذات إسقاطات بعيدة الأمد على القضية الفلسطينية ومستقبلها، وتتميز بالاستقطاب الحاد بين تيارين أساسيين: يميني يقوده نتنياهو الذي يتبوأ منصب رئيس الحكومة منذ عقد من الزمن، وتيار معارضة يقوده تحالف أزرق أبيض بزعامة بني غانتس.
إن الآثار والإسقاطات المترتبة على الانتخابات الإسرائيلية المكررة، وما يرافقها من وضع انتخابي مسدود، يرتبطان فيما يتعلق بالمستقبل الفلسطيني، بثلاثة مستويات متقاطعة ومتداخلة تؤثر، في المدى المباشر والبعيد، في وجهة المسألة الفلسطينية:
1 - المستوى الأول: الآلية الانتخابية وتحوّلها إلى غطاء لتكثيف الاستعمار الاستيطاني على الأرض. بكلمات أُخرى – واستنباطاً من فلسفة كلوزوفيتش عن الحرب - مستوى تحول العملية الانتخابية المستمرة إلى حرب بوسائل أُخرى.
2 - المستوى الثاني: الخطاب الانتخابي بمحاوره وموضوعاته وتوزعها وتدرجها في الأولويات الحزبية، وتأثير ذلك في تحويل الاحتلال إلى مسألة هامشية أو أمنية من جانب المعارضة، وإلى مسألة أساسية للائتلاف الحكومي.
3 - المستوى الثالث: وهو مرتبط بالمستوى الثاني، ويتعلق بمحتوى الخطاب الانتخابي الذي تنتجه المعارضة والائتلاف في العلاقة مع الاحتلال ومستقبل الصراع. فقد اختارت المعارضة قضية الدولاتية ومواجهة الفساد محوراً لخطابها، بينما حوّل اليمين بزعامة نتنياهو الموضوع السياسي المرتبط بالاحتلال / الاستيطان إلى رايته الانتخابية والدينامو المحرك لحملته، الأمر الذي سيفضي في أي سيناريو ائتلافي - وبغضّ النظر إن كان الذي سيقوده هو اليمين أو المعارضة - إمّا إلى رفع اليد عن الاستيطان بحجة ترميم قيم الحكم الرشيد، وإمّا إلى تكثيف مساعي الضم والتوسع واقتطاع الأراضي. وفي الحالتين، فإن الفلسطيني هو الخاسر الأكبر.
في هذه المقالة سأقوم باستكشاف إسقاطات الانتخابات الإسرائيلية لسنة 2019، الأولى والثانية، وما رافقها من صراعات واستقطاب داخلي على مستقبل المسألة الفلسطينية وفرص إنهاء الاحتلال، وذلك من خلال التطرق إلى مختلف تجلياتها وأبعادها.
ترى المقالة أن دخول إسرائيل في حالة انتخابات منذ ما يقارب العام، أدى إلى تكثيف تمحور إسرائيل حول تيارين أساسين سيكون لهما أثر كبير في المستقبل الفلسطيني، وهما:
أ - محور إسرائيل الثالثة الذي يضم اليمين القومي والاستيطاني والديني والحريدي (أي اليمين الذي يجمع بين الحريدية والقومية وتيار جديد في أقصى اليمين). فهذا المحور يتخذ من أرض إسرائيل التوراتية مرجعيته السياسية، ومن الهوية اليهودية مرجعيته القومية للمواطنة، ومن الاستيطان مشروعه، ومن الأيديولوجيا المسيانية (دينية أو علمانية) مرساته.
يقود نتنياهو هذا المحور، وهو يتحرك ضمن رؤية يهودية قومية تاريخية تبدأ بتأسيس المملكة الأولى، مروراً بالمملكة الثانية، ووصولاً إلى المملكة الثالثة التي تشكل إسرائيل الثالثة محصلتها الحديثة.
ضمن هذه الرؤية علينا أن نقرأ أفعال نتنياهو وممارساته، مثل: سنّ قانون القومية، وسنّ مشاريع الضم الزاحف، وإعلان نيته ضم الأغوار في حال فوزه، فضلاً عن رفضه تفكيك أي مستعمرة، وذلك في مسعى لدخوله التاريخ كمؤسس لإسرائيل الثالثة، ليس فقط كأفعال محسوبة انتخابياً لكسب اليمين، أو أفعال شعبوية ضمن أجواء محاكمته، بل كجزء أصيل من رؤية أيديولوجية أيضاً.
انطلاقاً من الرؤية المسيانية لإسرائيل الثالثة، يبلور نتنياهو خاصة، واليمين الاستيطاني عامة، رؤيته إلى الأرض والسكان اللذين يمثل الفلسطيني فيهما امتداداً حديثاً للأغيار القدامى الذين يجب هزيمتهم أو إخضاعهم. ويشدد هذا التيار على مركَّب الهوية "اليهودية" في مقابل "الإسرائيلية"، وأرض إسرائيل في مقابل دولة إسرائيل، وهو ما تم تظهيره في سنة 2018 بسنّ قانون أساس القومية، واعتبار الاستيطان اليهودي قيمة قومية، وأن أرض إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي، وأن إسرائيل هي دولته القومية المحصور حق تقرير المصير فيها باليهود فقط.
ب - محور "معارضة بلا سياسة" يمثله أزرق أبيض، ويسعى لاستعادة "إسرائيل الصهيونية" بطابعها العلماني الأشكينازي الرسمي ذي الأغلبية اليهودية، مثلما تحقق في سنة 1948 على يد مباي.
وهذا المحور يتعامل مع الفلسطيني باستراتيجيا التغييب، فهو يزيح الخطاب السياسي الذي يرتبط بالاحتلال إلى الهوامش، لأن مجرد حضور الفلسطيني وخطاب الاحتلال يمكن أن يفجر التحالف من الداخل بسب التناقضات بين مركباته. وفي مقابل هذا الانسحاب الذي يخلّف ثغرة في الخطاب المرتبط بكيفية التعامل مع الصراع السياسي، يستحضر التحالف الخطاب الأمني مكثّفاً لغة الردع والقوة؛ وفي مقابل رؤية اليمين الأيديولوجية الاستيطانية لإسرائيل الثالثة، تطرح المعارضة خطاباً أخلاقياً للحكم السليم الذي يشدد على المؤسساتية والدولاتية.
إن خطورة هذه الدينامية - سواء انتهى عصر نتنياهو أم لم ينتهِ، ما دامت المعارضة لا تطرح غير إدارة الواقع وليس اختراقه أو إنهاء الاحتلال نظراً إلى تركيبتها المتناقضة - تكمن في ترسيخ تحويل الفلسطينيين إلى سجناء معازل مقطّعة تدار ذاتياً وتخضع لسيطرة أمنية إسرائيلية كاملة. فإسرائيل ستستمر في تمديد سيادتها بالتدريج على المستعمرات والمنطقة "ج" (أو أجزاء منها)، وخصوصاً مع وجود بيئة إقليمية مريحة، تتميز بانهماك العالم العربي بقضاياه، وانشغال دول المنطقة بالصراع السنّي – الشيعي، ودعم أميركي غير مسبوق، والأهم من ذلك كله، حالة فلسطينية مشرذمة ومشروخة بين غزة والضفة. هذا الواقع المعتم لا يمكن إيقافه إلّا إذا أمسك الفلسطيني بزمام المبادرة من جديد!
تنقسم هذه المقالة إلى أربعة أقسام رئيسية ومترابطة: يعرض القسم الأول خلفية الانتخابات وأسبابها ونتائجها، ويتناول القسم الثاني برنامج المعارضة الذي اتخذ من مسألة الحكم الرشيد والعلمانية محور خطابه، في مقابل برنامج اليمين الأيديولوجي الاستيطاني السياسي الواضح. أمّا القسم الثالث فيتطرق إلى تاريخ انسحاب المعارضة من السياسة واحتلال اليمين لها، وأبعاد ذلك المتمثلة في محو الخط الأخضر وشرعنة المشروع الاستعماري الاستيطاني وإعادة تشكيل الفضاء الإسرائيلي وفي قلبه المستوطنين والمستعمرات. وفي القسم الرابع والأخير، سيتم تتبّع انتصار مقولة "يشاع هنا"[1] (يهودا والسامرة هنا) وإسقاطاتها على شكل الحل الذي تتخيله المعارضة واليمين.
I- خلفية الانتخابات
أُجريت الانتخابات الإسرائيلية في 17 أيلول / سبتمبر 2019 في ظل انقسام واستقطاب داخلي غير مسبوق، وجاءت بعد فشل نتنياهو في تشكيل ائتلاف حكومي في أعقاب انتخابات الكنيست في 17 نيسان / أبريل 2019، وعقب مبادرته إلى تمرير قرار لحل الكنيست، وإعلان انتخابات جديدة. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إجراء انتخابات جديدة في غضون بضعة أشهر بسبب فشل تركيب ائتلاف حكومي، والمرة العاشرة على التوالي التي يتم فيها إجراء انتخابات مبكرة عن موعدها الأصلي.
جاء إعلان إجراء انتخابات ثانية في 17 أيلول / سبتمبر مفاجئاً لمعظم المراقبين، إذ بدا أن نجاح نتنياهو بعد انتخابات نيسان / أبريل في تشكيل حكومة يمين مفروغاً منه، إلّا إن ما حدث كان مخالفاً للمتوقع. فقد حصل حزب الليكود في نيسان / أبريل على 36 مقعداً، وحصلت كتلة أحزاب اليمين التي شملت حينها الأحزاب الدينية المتشددة "الحريدية" (شاس ويهدوت هتوراه) والاستيطانية (البيت اليهودي) واليمينية العلمانية (إسرائيل بيتنا بزعامة أفيغدور ليبرمان)، معاً، على 65 مقعداً، منها 5 مقاعد لحزب ليبرمان. وفي المقابل حاز ائتلاف أزرق أبيض، وهو تحالف من قوى وأحزاب، وخصوصاً من جنرالات، 35 مقعداً، بينما حصل حزب ميرتس على 5 مقاعد، وانهار حزب العمل الذي لم يحصل سوى على 5 مقاعد، وانخفض تمثيل الأحزاب العربية التي خاضت الانتخابات بقائمتين، إلى 10 مقاعد، لتشكل كتلة المعارضة مجتمعة 55 مقعداً.
المفاجأة التي زلزلت الساحة الحزبية وأعادت خلط الأوراق كانت رفض ليبرمان الانضمام إلى حكومة نتنياهو بسبب خلاف، ظاهره مرتبط بقضية تجنيد الحريديين، وباطنه صراعات شخصية وحزبية. وبغضّ النظر عن الأسباب الحقيقية التي أدت بليبرمان إلى عدم الانضمام إلى حكومة بزعامة نتنياهو، على الرغم من انتمائه إلى "كتلة اليمين"، فإن فشل نتنياهو في تشكيل حكومة يمين أدى إلى إعادة خلط الأوراق الداخلية مجدداً، وفتح الباب – ولو نظرياً، ولأول مرة منذ سنة 2009 - على خيارات حكومات ائتلافية لا يقودها نتنياهو.
الواقع أن انتخابات أيلول / سبتمبر أسفرت عن تعميق الأزمة السياسية بدلاً من حلها، بل إن إمكان دخول إسرائيل مرة أُخرى إلى انتخابات جديدة للخروج من المأزق الحالي، لا يبدو بعيداً عن الواقع.
لقد راهن نتنياهو على أنه، ومن خلال الذهاب إلى انتخابات جديدة، سيتمكن من الحصول مع باقي أحزاب اليمين على 61 مقعداً، من دون حزب إسرائيل بيتنا بزعامة ليبرمان، وأنه بذلك سيتمكن من تشكيل حكومة يمين استيطانية حريدية ضيقة. غير أنه لم يفشل في تأمين 61 مقعداً فحسب، بل إن قوة حزبه تراجعت من 35 مقعداً (تضاف إليها 4 مقاعد لحزب "كلنا" الذي انشق عن الليكود في سنة 2015، ثم عاد واندمج فيه بعد انتخابات نيسان / أبريل) إلى 32 مقعداً، بحيث إن كتلة اليمين لم تحصل إلّا على 55 مقعداً.
على المقلب الآخر، حصل حزب أزرق أبيض على 33 مقعداً، وحصدت القائمة العربية 13 مقعداً، وحزب ميرتس 5 مقاعد، والعمل 6 مقاعد، وبلغ مجموع ما حازته تلك الكتل المعارضة معاً، 57 مقعداً.
وفي المقابل عزز حزب إسرائيل بيتنا قوته من 5 مقاعد إلى 8، ليتحول بذلك إلى صاحب القرار بشأن مَن سيشكل الحكومة، معلناً أنه سيدعم فقط حكومة وحدة علمانية صهيونية تضم الليكود وأزرق أبيض وحزبه، وتستثني الحريديم، كما تستثني القائمة المشتركة (العربية) التي حلت ثالثاً، والتي يبدو أن احتسابهم في ائتلاف يكون ليبرمان جزءاً منه هو أقرب إلى المستحيل، وخصوصاً أن هذا الاخير أعلن أنه يقف دائماً في الصف المعاكس للعرب. وفي موقف غير بعيد عنه، بنى نتنياهو خطابه الانتخابي كله على التحريض ضدهم، ونزع الشرعية عنهم، واستخدامهم لبثّ الرعب من أجل كسب الدعم لليمين.
وبناء على نتائج الانتخابات، كلّف الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين في 25 أيلول / سبتمبر بنيامين نتنياهو، أولاً، بتشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة. ولتجاوز الأزمة التي لاحت، طالب ريفلين، في خطاب التكليف، نتنياهو وغانتس بالتعالي على صراعاتهما، والعمل على تشكيل حكومة وحدة يتم عبرها تبادل منصب رئاسة الحكومة بينهما، فيشغل كل منهما، بالتناوب، منصبَي الرئيس ونائبه، مع توزيع السلطة بينهما، من أجل تجاوز إصرار نتنياهو وغانتس على أن يكون كل منهما الأول في أي تناوب.
ويمكن فهم سبب إصرار نتنياهو على أن يكون رئيس حكومة الفترة الأولى، على أنه تزامن مع قرار المستشار القضائي للحكومة أفيحاي مندلبلت تقديم لوائح اتهام ضده، بعد أن انتهت جلسات الاستماع، اعتقاداً من الأول بأن الأمر سيمكّنه من القفز فوق الملاحقة في قضايا الفساد المتهم بها؛ أمّا إصرار غانتس فناتج من مسعاه لعدم فسح المجال أمام نتنياهو للهروب من الملاحقة.
بعد 26 يوماً، أعاد نتنياهو كتاب التكليف إلى ريفلين، أي قبل يومن من انتهاء المدة القانونية للتكليف. وفي 22 تشرين الأول / أكتوبر، تسلّم غانتس كتاب التكليف من ريفلين.
وحتى لحظة كتابة هذه المقالة، فإن فرص تشكيل حكومة إسرائيلية قابلة للاستمرار ما زالت ضئيلة، بينما يتزايد الحديث عن انتخابات ثالثة. ويشير عدد من المحللين إلى أن نتنياهو، مثلما يبدو، اتخذ قراره بالذهاب إلى انتخابات ثالثة مراهناً، على الرغم من انحسار قوة حزبه في انتخابات ايلول / سبتمبر 2019، على قدرته على استعادة قوته وكسر جبهة المعارضة عبر تعميق الصراعات الداخلية فيها، وخصوصاً في ظل وجود تناقضات أيديولوجية بين الشركاء في أزرق أبيض الذي يضم حزب "تلم" بزعامة موشيه يعلون رئيس الأركان ووزير الدفاع الأسبق والمنتمي إلى اليمين الاستيطاني، بينما يميل أعضاء حزب حوسن يسرائيل بزعامة بني غانتس إلى تيار "الوسط " و"اليسار" بصيغته العمالية، علماً بأن هناك مَن توّج[2] بني غانتس بعد خطابه في 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2019 في ساحة رابين، وفي ذكرى اغتيال هذا الأخير، بأنه وريث رابين.
على الرغم من أن إمكان إقامة حكومة وحدة بمشاركة أزرق أبيض والليكود وإسرائيل بيتنا، وفق مقترح ريفلين، يتعرض لعراقيل عدة أهمها إصرار أزرق أبيض على عدم تقلد نتنياهو أولاً لرئاسة الاحكومة، فإنها (أي حكومة وحدة) هي الأكثر حظاً مقارنة بسائر المقترحات التي رُميت في ساحة المراهنات والتكهنات، وبينها إقامة حكومة أقلية بدعم من القائمة المشتركة، أو حكومة وحدة مع الليكود والحريديين من دون ليبرمان، وآخرها ما طرحه آرييه درعي، زعيم حزب شاس الحريدي الشرقي، وفحواه الذهاب إلى انتخابات محددة لمنصب رئيس الحكومة فقط للاختيار بين غانتس ونتنياهو. ويعتقد درعي أن هذا الخيار سيؤدي إلى انتخاب نتنياهو، متوقعاً ألّا يشارك العرب في الانتخابات، بينما سيصوّت الحريديم بكثافة لدعم نتنياهو، الأمر الذي سيسمح بانتخابه وإعطائه الدعم المعنوي والرمزي اللازم للتفاوض على الحقائب الوزارية، حتى لو تم تقديمه للمحاكمة.
هكذا، بدلاً من أن تذلل انتخابات أيلول / سبتمبر العراقيل والصعوبات في طريق تشكيل ائتلاف حكومي، ولّدت عراقيل جديدة، وعزّزت حالة الانسداد، كما عمّقت الصدوع الداخلية بين اليمين والمعارضة، بحيث توسعت دائرة الاتهامات والاتهامات المتبادلة بشأن مَن يتحمل مسؤولية الانسداد، ومَن سيتحمل مسؤولية الذهاب إلى انتخابات ثالثة بكل ما يترتب على ذلك من تكاليف، وما هي إمكانات الخروج من هذا الوضع، وكيف يمكن الامتناع من الذهاب إلى انتخابات جديدة.
لقد دخل إلى القاموس السياسي الانتخابي الإسرائيلي مفهوم جديد تحول إلى عنوان المرحلة، هو مفهوم "المأزق" (تُلفظ بالعبرية "بلونتر") الذي لا يبدو الخروج منه ممكناً في ظل الصراعات القائمة. وتحوّل التكهن بشأن السؤال عن احتمال إجراء الانتخابات الثالثة وفرصها وإمكان حدوثها، شغلاً شاغلاً للإعلام الإسرائيلي، والظل الذي يظلل زوايا الفضاء الإسرائيلي كله! وسط ضبابية المستقبل السياسي وحالة التصدع المرافقة لها، وهي أيام وصفها إيهود باراك في مقالة في "هآرتس" في 3 / 11 / 2019، بأن "لا شبيه لهذه الأيام الرهيبة في تاريخ إسرائيل."
الانتخابات وأزمتها
كغطاء للاحتلال
أنتج الانسداد الانتخابي واقعاً إسرائيلياً داخلياً تسبب بتعطيل اتخاذ القرارات بشأن أمور كثيرة، مثل إقرار برامج وخطط تطويرية وميزانيات وسياسات وتعيين مناصب مركزية كقائد الشرطة، بعدما تحولت الحكومة الحالية إلى حكومة تصريف أعمال.
هذه الحالة الانتخابية المستمرة منذ ما يقارب العام، وما يرافقها من وجود حكومة تصريف أعمال، ينعكسان على واقع الفلسطينيين بشكل عميق عبر إنتاج حالة مركبة مزدوجة تسمح بتعطيل أي مبادرة سلام (بغضّ النظر عن عدم وجودها أصلاً)، في الوقت الذي يستمر عمل الاحتلال بتجلياته الاستعمارية الاستيطانية كافة.
إن دخول إسرائيل حالة انتخابية يوفر غطاء لتجميد السياسة الدولية، غير أن هذا التجميد لا يقتصر على طرح مبادرات، والدفع في اتجاه محادثات، في ظل جمود للاحتلال على حاله، بل في ظل استمراره لأنه مشروع قائم بحد ذاته له ديناميته وشبكة عمله البيروقراطية التي تعمل بشكل مستقل ، ما دام لم يتم تعطيلها بقرار سياسي. وفي هذا الواقع، يعمل الاحتلال كمشروع استعمار استيطاني ممؤسس وبيروقراطي ومستقل، يستفيد من الجمود الحزبي لأنه يضمن عدم عرقلته، وهذا في أقل تقدير.
تكفي نظرة سريعة إلى ممارسات الاحتلال في الفترة التي دخلت إسرائيل في أزمتها الحزبية لنرى كيف يعمل الاحتلال وتتجمد السياسة: في 3 تشرين الثاني / نوفمر 2019 أصدر قائد قوات الجيش أمراً بالاستيلاء على نحو 500 دونم من أراضي حزما شرقي القدس.[3] وفي 4 تشرين الثاني / نوفمبر أصدر أمراً بالاستيلاء على 150 دونماً من أراضي بيت لقيا غربي رام الله،[4] وفي اليوم نفسه أصدر أمراً بالاستيلاء على 129 دونماً من أراضي بلدتَي الظاهرية والسموع جنوبي الخليل،[5] كما استولى خلال عدة أسابيع على 2522 دونماً في الضفة لمصلحة الاستيطان.[6] وأشار تقرير السلام الآن إلى أن مجلس التخطيط الأعلى في الإدارة المدنية اجتمع في 10 تشرين الأول / أكتوبر، وصادق على مخططات لـ 2342 وحدة سكنية في المستعمرات. وبحسب المصدر نفسه، فإن عدد الوحدات السكنية الاستيطانية التي صودق عليها منذ بداية العام، أي منذ دخول إسرائيل حالة انتخابية، بلغ 8337 وحدة، بارتفاع نسبته 50% مقارنة بسنة 2018 التي لم تكن عاماً انتخابياً، والتي صودق خلالها على 5618 وحدة،[7] علماً بأن الحكومة في سنة 2018 وُصفت بحكومة الاستيطان، الأمر الذي يعزز وجهة النظر القائلة إن الدخول في وضع انتخابي مستمر هو عامل دافع في اتجاه ترسيخ الاستيطان، وقتل أي فرص لإقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة في الأفق المنظور.
II - يمين استيطاني أيديولوجي، ومعارضة لا تعارض
طغى على انتخابات أيلول / سبتمبر، كسابقتها في نيسان / أبريل، الانشغال إلى حد بعيد، بشخص نتنياهو، استناداً إلى اتهامات بقضايا فساد ورشى كان يتوجب أن يخضع بموجبها لجلسات استماع في بداية تشرين الأول / أكتوبر، وسط كلام على أن نتنياهو، وبغية الإفلات من القضاء، مستعد لفعل أي شيء.
ويتكثف مشهد الانشغال بنتنياهو في مسارين متوازيين من يمينه ويساره، يعملان كفكّي كمّاشة تحاولان الإطباق عليه: الأولى يقودها تحالف أزرق أبيض، والثانية تأتي من يمينه ويمثلها ليبرمان الذي أفشل مسعى نتنياهو لتشكيل ائتلاف بعد انتخابات نيسان / أبريل، وصار اليوم القابض على مفاتيح تشكيل حكومة ما بعد انتخابات أيلول / سبتمبر.
يتشارك هذان المساران في اتهام نتنياهو بالمس بمبدأين أساسيين يقعان في جوهر بناء الدولة هما: مبدأ الدولاتية (مامْلَخْتِيُوت)، ومبدأ العلمانية. ففي الوقت الذي ركّز تحالف أزرق أبيض والتحالف الديمقراطي من اليسار على مبدأ الدولاتية، فإن المعارضة من اليمين القومي العلماني الذي يمثله ليبرمان، تركز على مبدأ العلمانية الذي يجب عدم المس به، أي أن الجهتين انطلقتا من ضرورة الحفاظ على الحكم الرشيد والفصل بين السلطات، وبين الدين والدولة.
وفي المقابل، فإن حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو، وحزب "يمينا" الاستيطاني، وحزب عوتسما يهوديتا الكهاني الذي فشل في اجتياز نسبة الحسم، ركزت في خطابها على البعد الأيديولوجي.
لقد تعامل نتنياهو مع الانتخابات على أنها مصيرية، باعتبار أن نجاحه في تشكيل الحكومة يعني أولاً استمراره في تنفيذ مشروع "إسرائيل الثالثة" الممتدة على "أرض إسرائيل"، وثانياً زيادة فرص نجاته من السجن. وشدد في خطابه على أنه مستهدف بسبب مواقفه اليمينية، واصماً كل معارض له بأنه يساري، أو أنه يخفي أجندة يسارية، بما في ذلك ليبرمان، باعتبار أن مَن هو ضمن اليسار يُعتبر خائناً، أو أنه على حافة "الخيانة". كما طرح نفسه ممثلاً لليمين ومشروعه الاستيطاني والقومي - اليهودي والأمني. في المقابل كانت برامج أزرق أبيض رمادية، وتبنّى حزب العمل برنامجاً اجتماعياً خالصاً، لتبقى القائمة المشتركة والتحالف الديمقراطي، الوحيدين اللذين طرحا برنامجاً سياسياً يدعو إلى إنهاء الاحتلال (مع تفاوت في تفصيلات البرنامج طبعاً).
إن خطاب نتنياهو اليميني – القومي - الاستيطاني حقيقي، وهو استمرار لسياسته منذ تسلّمه رئاسة الحكومة في سنة 2009. أمّا مسألة الخطر الإيراني المتخيل، فهي تكتيك للتهرب من أي مفاوضات جدية لإنهاء الاحتلال، وقد استخدمه نتنياهو لمواجهة اندفاعة إدارة أوباما نحو تحقيق سلام مفترض، وهذا بالتوازي مع سعيه لقلب الواقع الميداني في الأراضي المحتلة من أجل إغلاق الطريق أمام إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، وذلك عبر تكثيف الاستيطان، وفتح شبكات طرق ضخمة تربط المستعمرات بالمدن الإسرائيلية، وتعزل الحيّز السكني الفلسطيني، ومن خلال دمج المستعمرات في برامج وزارة التربية والتعليم، وتحويل الاستيطان والمستعمرات إلى قضية إجماع صهيوني.
وإذا كانت الخطابات والتصريحات والبرامج الانتخابية تشكل فعلياً مرجعية لفهم توجهات الأحزاب التي تخوض الانتخابات، وخصوصاً من المعارضة، فإن الممارسة الفعلية لنتنياهو الذي يمسك بمقود الحكومة، وكذلك تصريحاته، تشكل المرجعية الأهم.
يمكن الاستدلال على ذلك من خلال المسار الثابت لخطى نتنياهو، فقد عمل بشكل ممنهج، منذ خطابه الأول في جامعة بار - إيلان الذي ألقاه في حزيران / يونيو 2009، في أعقاب انتخابه وتشكيله الحكومة، وتحت ضغط إدارة أوباما لدفعه إلى القبول بحل يقوم على وجود دولة فلسطينية منزوعة السلاح إلى جانب الدولة اليهودية، على تفريغ توجه أوباما هذا من أي محتوى، عبر إشهار التهديد الإيراني والتركيز عليه، بالتوازي مع تكثيف الاستيطان.
وقد استغل نتنياهو صعود ترامب وتأييده المطلق لإسرائيل، لتنفيذ سياسة استيطانية يمينية شرسة ترافقت مع تصعيد متدرج للحديث عن ضم الكتل الاستيطانية وفرض السيادة على المستعمرات. وفي نهاية سنة 2017، صوّتت اللجنة المركزية لحزب الليكود، وبأغلبية كبيرة، على فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وفي 1 / 9 / 2019، صرّح نتنياهو بأنه سيعمل على فرض "السيادة اليهودية" على المستعمرات، وأنه لن يكون هناك أي تفكيك لأي منها.
هذا التوجه اليميني الاستيطاني يتقاطع بشكل كبير مع برنامج تحالف "يمينا" الاستيطاني الذي يدعو إلى "دعم فرض القانون الإسرائيلي على يهودا والسامرة."
أمّا حزب إسرائيل بيتنا، اليميني العلماني، والذي يقوده ليبرمان، فيطرح برنامجاً سياسياً طموحاً يهدف إلى تحويل إسرائيل من دولة صغيرة إلى دولة عظمى إقليمية. ولتحقيق ذلك، يضع الحزب برنامجاً عماده القوة، ومفرداته موزعة على الحسم والطرد والهدم والإعدام؛ فوفقاً لأدبياته، فإنه "في المرحلة الأولى يجب القضاء على الإرهاب" عبر منع وصول الأموال إلى "حماس"، واقتطاع ما تحوّله السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة من الأموال التي تجبيها إسرائيل لمصلحة السلطة، باعتبارها أموالاً تُعطى إلى "حماس"، وسنّ "قانون إعدام المخربين وطرد المحرضين وهدم بيوت المخربين والعودة إلى اغتيال الإرهاب." أمّا المرحلة الثانية فهي العمل على تحقيق تسوية إقليمية.
وخلافاً للأحزاب الأُخرى يرى حزب إسرائيل بيتنا أن صراع إسرائيل "ليس صراعاً على الأراضي مع جيراننا الفلسطينيين، وإنما هو صراع ثلاثي الأبعاد: صراع مع الدول العربية، والفلسطينيين، وعرب إسرائيل. لذلك، فإن التسوية مع الفلسطينيين يجب أن تكون جزءاً من تسوية شاملة تتضمن اتفاقيات مع دول عربية، وتبادل أراضٍ وسكان من عرب إسرائيل."
وفي مقابل طروحات اليمين السياسية الواضحة، تتبنّى المعارضة التي يقودها غانتس، خطاباً سياسياً ضبابياً فضفاضاً، وتتعامل مع الفلسطينيين على أنهم موضوع أمني يجب معالجته عبر التشديد على عامل الردع.
لقد جاء في برنامج أزرق أبيض، أن التحالف سينفذ سياسة تقوم على المبادرة والمسؤولية، ويعمل على "تغيير الواقع في الشرق الأوسط وحدود البلد من خلال استعادة الردع في الجنوب، وانتهاج سياسة أمنية في مواجهة قطاع غزة لا تنطوي على أي تسامح تجاه الاستفزاز والعنف ضدنا،" مشيراً إلى أنه سيعمل على الحفاظ على الكتل الاستيطانية والقدس الموحدة والجولان.
واختار حزب تحالف "العمل – غيشر" أن يتغاضى عن الاحتلال تماماً في برنامجه الانتخابي الذي نشره، وبدلاً من ذلك، اختار التركيز على الموضوع الاقتصادي - الاجتماعي، مطالباً بتعزيز حقوق العمال والمرضى والأطفال والأزواج الشابة وتحسين شروط العمل ومحاربة الفقر.
أمّا المعسكر الديمقراطي الذي يتشكل من تحالف ميرتس وحزب باراك، فلم ينشر برنامجه الانتخابي بشكل مفصل، غير أنه في الاتفاق الائتلافي بين مكوِّنَيه، جرت الإشارة إلى أنه سيعمل على إلغاء قانون القومية، وعلى محاربة تحويل إسرائيل إلى دولة شريعة، والحفاظ عليها دولة ديمقراطية.
ويختفي الفلسطينيون من طرح الأحزاب الدينية المتزمتة، والتي كعادتها لا تنشر برامجها؛ وبين هذه الأحزاب شاس الذي يمثل اليهود الشرقيين ويهدوت هتوراه الذي يمثل الأشكيناز. وبحسب ما صرّح نائب عن يهدوت هتوراه، فإن الحزب "يمتنع وبشكل تقليدي من اتخاذ موقف في موضوعات الأمن والخارجية، فهو، في هذا الإطار، يثق بجهاز الأمن ورئيس الحكومة. وعندما يُطرح موضوع للتصويت في الكنيست، فإننا سنقوم بعرضه على مجلس الحكماء (الرابانيم)، ونأخذ منهم التعليمات ونصوّت وفقها."
III - اليمين الأيديولوجي الاستيطاني والمعارضة اللاسياسية
يستفيد المشروع الاستعماري الاستيطاني في الأراضي المحتلة كثيراً من دخول إسرائيل في حالة انتخابية، ويترسخ ويتعزز على الأرض، وخصوصاً مع تبنّي المعارضة خطاباً "لاسياسياً"، في مقابل خطاب سياسي واضح لليمين مناهض للفلسطينيين، يعمل على تدمير أي فرصة للحل السياسي، وترسيخ الاحتلال.
وبينما يركز اليمين على طرح المشاريع المستقبلية التي ترتبط بفرض السيادة وتعزيز الاستيطان والضم، فإن خطاب المعارضة، والذي يمثله أساساً تحالف أزرق أبيض، يركز على أداة الحكم من دون طرح بديل. وبغضّ النظر عن مدى أهمية الحكم الرشيد والمعيارية القيمية المؤسساتية والأخلاقية في ترسيخ نظام ما، فإن ذلك يجب أن يرتبط بمسألة الصراع، للحيلولة دون أن يتحول الاحتلال من الشعبوية، إلى احتلال منظّم. إن المشهد الحزبي في إسرائيل بات يتأرجح بين محور معارض بلا سياسة معارضة، ومحور يميني "سياسي" استيطاني يضع نصب عينيه تحقيق حلم "أرض إسرائيل الكاملة".
هناك مَن يربط استنكاف المعارضة عن طرح برنامج سياسي بالهدوء الميداني النسبي، وبعدم وجود مقاومة شعبية أو جماعية على الأرض، وبالتالي، فإن الأحزاب تتحرر من الحاجة إلى التعامل مع القضايا السياسية الحارقة. غير أن هذا الادعاء يجانب الحقيقة إلى حد بعيد، ذلك بأن متابعة برامج أحزاب المعارضة الأساسية منذ سنة 2012، تشير إلى أن تلك الأحزاب سعت بشكل مثابر للتقليل من التطرق إلى الاحتلال، حتى إنه حين حضر الصراع بثقله كله، وشنّت إسرائيل حربَين على غزة في سنتَي 2012 و2014، وواجهت انتفاضة الأفراد التي تركزت في القدس في سنة 2015، فإن النقاشات التي شغلت الأحزاب رسّخت نهج ابتعاد أحزاب كحزب العمل الذي يُعتبر يساراً، عن القضايا المرتبطة بالاحتلال والصراع، وفي المقابل تركيزها على قضايا المعيشة، والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والفساد.
ويمكن عزو ابتعاد أحزاب المعارضة، باستثناء ميرتيس والأحزاب العربية، عن طرح برامج سياسية أيديولوجية، إلى عدة عوامل، أهمها التحول المتدرج للمجتمع الإسرائيلي من مجتمع مهاجرين استعماري علماني بأغلبيته العظمى غداة إقامة إسرائيل، إلى مجتمع أكثر تديناً ومحافظة، يجد نفسه أقرب إلى اليمين عبر تبنّيه أرض إسرائيل وفكرة القومية اليهودية.
وتشير الإحصاءات إلى أنه، بينما كان اليهود الإسرائيليون، في معظمهم، يعرّفون عن أنفسهم غداة إقامة إسرائيل بأنهم علمانيون ينتمون إلى تيارات اشتراكية، فإن أقل من 40% من اليهود اليوم يعرّفون عن أنفسهم بأنهم علمانيون، و11% يصفون أنفسهم بأنهم حريديون، و24% بأنهم متدينون ومتدينون محافظون، و23% بأنهم محافظون غير متدينين، و14 - 18% من اليهود في إسرائيل يعرّفون عن أنفسهم كمتدينين قوميين وعددهم نحو 750,000 شخص.
كما جرت صهينة الحريديم الذين كانوا تاريخياً خارج معسكر اليمين واليسار، إذ إن 33% من المستوطنين اليوم هم حريديون، الأمر الذي يعني تحوّلهم إلى اليمين بحكم الأمر الواقع، كون المواقف من الاحتلال لا ترتبط بمسألة أيديولوجية فقط، بل بقضية ترتبط بحياتهم أيضاً.
فضلاً عمّا سبق، يمكن تسجيل زيادة نسبة المستوطنين من مجموع اليهود الإسرائيليين، فقد أصبحوا اليوم يشكلون أكثر من 10% من اليهود في إسرائيل، وبالتالي بات من الصعب إيجاد عائلة يهودية لا تربطها علاقة قرابة أو صداقة أو عمل بمستوطن.
لقد ترافقت هذه المتغيرات مع أفول النخب التقليدية التي أسست إسرائيل وقادتها في مراحلها الأولى، وهيمنت لعدة عقود على مفاتيحها بزعامة حزب مباي الأشكينازي العلماني ذي التوجه الاشتراكي، مثلما يرى عالم الاجتماع باروخ كيمرلينغ في كتابه "نهاية الهيمنة الأشكنازية: سقوط الجماعات العمالية المؤسسة لإسرائيل"،[8] كما ترافقت مع صعود نخب بديلة منها تنتمي إلى فئات كانت هامشية مثل الشرقيين والمتدينين القوميين والمحافظين ممّن يتبنّون مواقف أقرب إلى اليمين واليمين الاستيطاني والديني.
ودفعت هذه التحولات الأحزاب التي تُسمى أحزاب اليسار والوسط المؤسسة لإسرائيل، إلى محاولة استخدام خطاب "اجتماعي" يتماهى مع الخطاب اليميني، لاستقطاب الفئات التي باتت تشكل ثقلاً أساسياً في التركيبة المجتمعية. ويمكن اقتفاء أثر ظاهرة ابتعاد المعارضة عن الخوض في "الاحتلال" منذ سنة 2009، أي منذ تسلم نتنياهو دفة الحكم، والذي استطاع أن يلتقط هذه التغيرات والبناء عليها من أجل تنفيذ رؤيته اليمينية الأيديولوجية التي تتلخص بفكرة "أرض إسرائيل الكاملة".
صعد نتنياهو إلى الحكم في سنة 2009 بعد أن فشلت تسيبي ليفني، زعيمة حزب كاديما، في تشكيل حكومة على الرغم من حصول الحزب على 28 مقعداً، في مقابل 27 لحزب الليكود، لأن اليمين حصل مجتمعاً على 65 مقعداً.
ومع تشكيل نتنياهو الحكومة، عمد إلى تغيير سلّم الأولويات من المفاوضات مع الفلسطينيين، وهو المسار الذي وضعته حكومة أولمرت، إلى الموضوع الإيراني، وتحويل قضية الاحتلال إلى مجرد قضية ثانوية. كما تبنّى منظومة عمل مركبة رسخت تحويل الاستيطان والمستوطنين من قضية خلافية، إلى حد ما، وخصوصاً بعد مقتل يتسحاق رابين ثم لاحقاً بعد إخلاء مستعمرات غزة، ليس فقط إلى موضوع محل إجماع شبه عام، بل إلى مركب أصيل في سياسات الدولة وتوجهات المجتمع الإسرائيلي، فباتت شرعية مستعمرة أريئيل كشرعية مدينة تل أبيب، ومكانة غوش عتسيون كمكانة هيرتسليا، وانصهرت المستعمرات مع المدن في وحدة "جيوسياسية" كجزء من إسرائيل - ستحقق الشعار الذي رفعه المستوطنون في فترة أوسلو ونشروه في الحيز العام وفي الفضاء كله - الممتدة من البحر إلى النهر، والتي تمحو الخط الأخضر، وتضم "يشاع هنا"، أي "يهودا والسامرة هنا".
ويمكن أن نلاحظ من خلال متابعة النقاشات التي رافقت المعارك الانتخابية المتعددة منذ سنة 2012، الكيفية التي انسحبت بها المعارضة من السياسة، بينما تمترس اليمين الذي أمسك زمام الحكم، في قلبها ممارسة وقولاً.
ركزت المعارضة في سنة 2012 خطابها على القضايا الاجتماعية، كما أنها في سنة 2015 - بعد أن تم حل الحكومة في إثر قانون "يسرائيل هيوم"،[9] وبسبب الخلافات بين الأحزاب التي شكلت الحكومة - ركزت على قضايا السكن والمعيشة. وفي المقابل ركز الليكود على النووي الإيراني، والبيت اليهودي على موضوعات ترتبط بالاستيطان والتعليم من أجل يهودية "أرض إسرائيل، وهي وجهة استمرت في انتخابات 2019 سواء في نيسان / أبريل، أو في أيلول / سبتمبر، إذ أدارت المعارضة المعركة الانتخابية حول قضايا الفساد، ونخر مؤسسات الدولة، وشخص نتنياهو باعتباره فاسداً.
في سنة 2011، أعلنت شيلي يحيموفيتش زعيمة حزب العمل السابقة، والتي كانت تُعتبر من الأصوات الحمائمية، أن المستوطنات ليست خطيئة،[10] وقد كررت موقفها هذا في السنوات 2013 و2015 و2017. كما أعلن يتسحاق هيرتسوغ الذي تزعّم قائمة حزب العمل في انتخابات 2015، خلال جولة انتخابية في مستعمرات في بيت لحم، أن "غوش عتسيون ستكون جزءاً لا يتجزأ من دولة إسرائيل."[11] أمّا آفي غباي الذي خلف هيرتسوغ في زعامة الحزب، فأعلن عند انتخابه أنه لن يطالب بإخلاء المستعمرات.
وذهب يائير لبيد زعيم حزب "يش عتيد" الذي تأسس كحزب معارضة وسطي في سنة 2012، خطوة أبعد عند إطلاق حملته الانتخابية في سنة 2015 من جامعة أريئيل، معلناً أن أريئيل مثل تل أبيب.
أخيراً، وفي سنة 2019، حين أعلن بنيامين نتنياهو خلال مؤتمر صحافي[12] نيّته تطبيق السيادة الإسرائيلية على منطقة شمال البحر الميت والأغوار مباشرة بعد انتخابه، ثم العمل لاحقاً، وبالتنسيق مع الإدارة الأميركية على تطبيق السيادة على مناطق المستوطنات، خرج مرشح أزرق أبيض، موشيه يعلون، بتصريح في 11 أيلول / سبتمبر عبر محطة "كان"، يزايد فيه على خطاب نتنياهو، معلناً أن الأخير يعطي تصريحات تفتقر إلى الصدقية، وأن ما قام به هو مجرد حيلة انتخابية، ومشيراً إلى أن أزرق أبيض سبق نتنياهو في إعلان رفض الانسحاب من الأغوار، بينما كان نتنياهو على استعداد للانسحاب منها.
ورفع بني غانتس من منسوب مقارعة خطاب اليمين، إذ إنه بعد يوم واحد من تصديق حكومة نتنياهو على مشاريع بناء للفلسطينيين في المنطقة "ج" بقيمة 1,8 مليار شيكل، والتي أثارت غضباً شديداً من طرف اليمين الاستيطاني باعتبارها تنازلاً وخضوعاً من جانب نتنياهو للفلسطينيين، والسماح لهم بالسيطرة على أراضٍ إسرائيلية، إذ إن المنطقة "ج" صارت مخزونهم الاستيطاني، قد قام بجولة في الأغوار معلناً أنها "السور الواقي الشرقي لنا"، بينما تجوّل نتنياهو في مستعمرتَي أوفرات ويعل، قائلاً: "لن يتم اقتلاع أي مستوطنة."[13]
لقد تحول التنافس الانتخابي بين يمين أيديولوجي واضح، ومعارضة مائعة تحاول أن تزايد على اليمين، وبرنامجها الوحيد الواضح هو إسقاط نتنياهو كشخص وليس كنهج أو أيديولوجيا، الأمر الذي يعني أن نتنياهو قد يسقط، لكن النتنياهووية باقية.
IV – "يشع هنا"
أسفرت الانتخابات الإسرائيلية عن دخول إسرائيل في أزمة سياسية تتجلى في عدم وجود فرص أمام نتنياهو أو غانتس لتشكيل حكومة قابلة للحياة، فيما عدا الذهاب إلى حكومة وحدة مع حزب ليبرمان، لكن هذا الخيار واجه مصاعب جمة.
إن الأزمة المستمرة منذ ما يقارب العام، عطلت عمل عدة دوائر، وعرقلت اتخاذ الوزارات عدة قرارات، لكنها أيضاً سمحت لإسرائيل بأن تكون في وضع دولي سياسي مريح، إذ إن أحداً لن يطالب دولة في حالة أزمة من الدخول في عملية سياسية، والأهم أن الاحتلال تحول إلى مؤسسة مستقلة قادرة على أن تتخذ بيروقراطياً مختلف القرارات والإجراءات، وتنفذ مشروع الاستعمار الاستيطاني، وهو مشروع ما زال يمارَس في كل لحظة في الأراضي المحتلة عبر التحكم في حياة الفلسطينيين، ومن خلال الاجتياحات للمدن، وتنفيذ الاعتقالات والسجن والقمع، وأيضاً عبر تنفيذ مشاريع البنى التحتية وشق الطرق الاستيطانية التي تربط المستوطنات بداخل الخط الخضر، والمصادقة على بناء الوحدات الاستيطانية ومصادرة الأراضي وتوفير الحماية للمستوطنين كي يكونوا "أسياد البلد". هذا المشروع الذي يجري العمل عليه ويتحقق كل لحظة، لا يحتاج إلّا إلى رفع اليد عنه ليعمل ويترسخ، وهو ما يوفره أولاً وجود إسرائيل في أزمة سياسية، وثانياً دخول المجتمع الدولي في حالة انتظار لحل هذه الأزمة، أي أن الاحتلال هو الرابح الأساسي من أزمة الانتخابات.
وعلاوة على أن الأزمة الانتخابية تعطي الاحتلال مساحة حرة ليعمل على الأرض، وتسمح للمشروع الاستعماري الاستيطاني بأن يكبر ويتمدد، فإن الأهم أن هذه الانتخابات أفرزت محورين كارثيين فلسطينياً: محور معارض مائع مبني على التنافر والهروب من الحسم ومن اتخاذ المواقف السياسية، سيقوم في حال تشكيل الحكومة بالابتعاد عن إثارة الصراعات التي قد تهدد وحدته، ولذا من المتوقع أن يركز على الشأن الداخلي المرتبط بترميم الدولاتية وقيم الحكم الرشيد، ويغضّ النظر عن استمرار الاستيطان مرة، ويتخذ سياسات أمنية رادعة في مواجهة الفلسطينيين في حالة مقاومتهم مرة ثانية، ليؤسس لنفسه صورة "جنرالات الأمن"، ولفكرة الردع التي حاول تسويقها بدلاً من السياسة. ومحور اليمين الذي، في حال تشكيله حكومة برئاسة نتنياهو، سيقوم بعمل كل ما يحقق "إسرائيل الثالثة" لجهة ضم المنطقة "ج" أو أغلبيتها، وترسيخ تحويل المدن الفلسطينية إلى معازل.
ويمكن أن نلخص بأنه سواء شكّل اليمين أو المعارضة الحكومة، وسواء ذهب الاثنان إلى حكومة وحدة، فإن المرتكزات التي كانت سابقاً حكراً على اليمين، تحولت اليوم إلى جزء من الإجماع العام، وهو على النحو التالي:
1 - "يشع هنا" (يهودا والسامرة هنا): هذا الشعار اليميني الذي أُطلق خلال أوسلو تحول اليوم إلى إجماع من خلال اعتبار الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس المحتلة والجولان المحتل جزءاً لا يتجزأ من إسرائيل المستقبلية.
2 - مسألة ضم المستعمرات للسيادة الإسرائيلية باتفاق أو من دون اتفاق ليست نقطة خلاف مبدئية بين المعارضة واليمين، فجوهر الخلاف اليوم هو على مستقبل المستعمرات "المعزولة" والبؤر التي يعلن أبيض أزرق استعداده لإخلاء ما يشكل منها عبئاً أمنياً، أمّا نتنياهو فيرفض إخلاء أي مستوطن وفي أي مستعمرة مهما تكن، وأينما توجد.
3 - إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وذلك بعد أن نجحت حكومة نتنياهو في سنّ قانون أساس القومية الذي، على الرغم من الانتقاد الذي وجّهه معارضوه من الأحزاب المختلفة، لم يعد اليوم موضوع نقاش، ولا يطالب بإلغائه سوى المعسكر الديمقراطي والقائمة المشتركة التي تمثل المواطنين العرب.
4 - اختفى الاحتلال من البرامج الحزبية، والحديث يدور فقط حول تسويات حدود تتوسع وتضيق وفقاً لما يُطرح من تسويات.
5 – أصبحت صفة "يساري" في إسرائيل تعني دعم إنهاء الاحتلال، وتهمة يسعى معارضوها لاجتنابها والهروب إلى القضايا الاجتماعية، مثلما فعل "العمل – غيشر"، أو التشديد على عامل الردع والقوة، كتحالف أزرق أبيض.
في هذا السياق يقف الفلسطينيون أمام تيارين: الأول يطرح فرض السيادة على الأرض المحتلة ويضعهم أمام الأمر الواقع كسكان درجة ثانية - أي إنتاج أبارتهايد بحكم القانون (Apartheid De Jure)، والثاني يواصل المماطلة، طارحاً الردع والتأديب والتهرب من الحل، الأمر الذي يعني إعطاء الاحتلال حرية تنفيذ مزيد من مشاريع الاستيطان، أي ترسيخ أبارتهايد الأمر الواقع.
وتظل المشكلة الأساسية ليس ما يقوم به الاحتلال من مساعٍ لحسم الصراع لمصلحته، وإنهاء فرصة التوصل إلى حل مقبول، وإنما عدم وجود مشروع فلسطيني واضح لمواجهة هذا الوضع، وهو ما قد يؤدي إلى إنهاء القضية الفلسطينية.
إن الركاكة والتشتت والانقسام وضعف الذي يسود الحالة الفلسطينية تجاوزت ما كان سائداً عشية النكبة، وهي تؤدي دوراً في إنتاج أسباب الهزيمة بدلاً من مواجهتها، فالوضع هنا يقتصر على العمل على ما يسميه أولريخ بك مبدأ "إدارة المخاطر لا إنهائها"، سواء فيما يتعلق بملف الانقسام، أو بملف الاحتلال، الأمر الذي يؤبد الاستعمار ولا ينهيه.
[1] شعار "يشاع هنا"، ويعني "يهودا والسامرة هنا"، هو شعار أطلقه المستوطنون المعارضون لاتفاق أوسلو ولأي انسحاب من الأراضي المحتلة، وكان يعني أن حكم أرض إسرائيل المُرادة هو كحكم إسرائيل ككيان سياسي. ويشاع هي أول حروف عبرية من "يهودا شومرون وعزا"، أي يهودا والسامرة وغزة، وهي المسميات التوراتية للضفة الغربية وغزة.
[2] انظر: ناحوم برنياع ، "خطاب التتويج"، "يديعوت أحرونوت"، 3 / 11 / 2019، في الرابط الإلكتروني التالي: https://www.yediot.co.il/articles/0,7340,L-5618088,00.html
[3] موقع "حركة التحرير الوطني الفلسطيني 'فتح' "، في الرابط الإلكتروني التالي: https://www.fateh-gaza.com/post/159596
[4] موقع وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية ("وفا")، في الرابط الإلكتروني التالي: http://wafa.ps/ar_page.aspx?id=B13su3a864549583128aB13su3
[5] موقع وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية ("وفا")، في الرابط الإلكتروني التالي: http://wafa.ps/ar_page.aspx?id=qMu5gea864545776116aqMu5ge
[6] موقع جريدة "الرأي" (الأردنية)، في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/y69auolh
[7] انظر موقع "السلام الآن"، في الرابط الإلكتروني التالي: https://peacenow.org.iL/2342-units-approved-in-plans
[8] باروخ كيمرلينغ، "نهاية الهيمنة الأشكنازية: سقوط الجماعات العمالية المؤسسة لإسرائيل"، ترجمة نواف عثامنة (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار، 2002).
[9] أُطلق هذا الاسم على القانون نسبة إلى جريدة "يسرائيل هيوم"، بعد أن كُشف عن تسجيلات يَعِد فيها نتنياهو ناشر جريدة "يديعوت أحرونوت"، في سنة 2014، بتقييد توزيع جريدة "يسرائيل هيوم" المجانية عبر قانون في الكنيست، الأمر الذي يسمح لـ "يديعوت أحرونوت" والصحف الأخرى بتوزيع أفضل، وذلك في مقابل تغطية إيجابية لمصلحته، علماً بأنه عمد إلى حل الكنيست بعد صدور القانون. وقد تم فتح تحقيق جنائي في هذه المسألة تحت اسم "القضية 200". للمزيد انظر موقع Times of Israel، في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/yk6egpgk
[10] انظر: "شيلي يحيموفتش سيدة الوسط"، "هآرتس"، 19 / 8 / 2011، في الرابط الإلكتروني التالي: https://www.haaretz.co.il/misc/1.1374238
[11] انظر:
“Herzog: 'Gush Etzion Will Remain an Integral Part of the State of Israel in Every Orde”, Haaretz, https://www.haaretz.co.il/news/elections/.premium-1.2580089
[12] "PM Netanyahu: One-Time Fitness Time to Apply Israeli Sovereignty to Our Localities,” «Globes», 10/9/2019, https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001300226"
[13] انظر: "غانتس: الأغوار جزء من الدولة" (عبري)، موقع "واي نت"، 31 / 7 / 2019، في الرابط الإلكتروني التالي: https://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-5561107,00.html