أي استراتيجيا لأميركا في ظل تراجع موقعها؟
نبذة مختصرة: 

يعيش العالم كله، ومنطقة الشرق الأوسط من ضمنه، مرحلة من الغموض بشأن ما يخبئة المستقبل، بعد تراجع موقع الولايات المتحدة، اقتصادياً وقبل ذلك سياسياً، بل حتى عسكرياً، مثلما تُظهر التطورات الأخيرة. فتراجع الولايات المتحدة يحمل في طياته ظهور فراغات في مناطق الصراع المحتدمة؛ فمَن سيملأ تلك الفراغات في الوقت المستقطع؟

النص الكامل: 

طرح الهجوم الصاروخي على مواقع شركة أرامكو في السعودية سلسلة أسئلة سياسية تتعلق بالاستراتيجيا الأميركية ومنهج تعاملها مع الأصدقاء والحلفاء في دائرة الشرق الأوسط. فالهجوم الذي حدث في 14 أيلول / سبتمبر 2019 لا يمكن أن يمر من دون أن يكون له انعكاساته السياسية على مختلف القضايا الإقليمية من اليمن إلى العراق، ومن إيران إلى تركيا.

إلّا إن الأهم من تلك الملفات كلها هو ما يمكن رصده من ردات الفعل الأميركية، وما أرسلته واشنطن من إشارات غامضة ومتضاربة تتراوح ما بين الاستعداد للمواجهة، وبين إعلان بدء التجمع العسكري للانسحاب لا للهجوم.

هل فعلاً بدأ العد العكسي للدور الأميركي في المنطقة، أم إن هناك خطوات مجهولة تستعد واشنطن لاتخاذها بعيداً عن أجهزة الرصد؟

من الصعب إعطاء أجوبة واضحة في شأن أزمات الشرق الأوسط قبل استيفاء شروط معرفة ما يجري على الأرض، وتداعيات الفراغ الأمني الذي سيتمدد في حال قررت الإدارة الأميركية التخلي عن مواقعها ودورها.

هل هذا حقاً سيحدث، أم إنه مجرد مناورة أو مصيدة للإيقاع بالدول الإقليمية، وجرّها إلى مواجهات تشرف الولايات المتحدة على إدارتها من بعيد ومن دون أن تظهر صورتها على الشاشة الكبرى؟

مثلاً، حين يُطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب تصريحات في أكثر من مناسبة بما معناه: نفط الشرق الأوسط لا نحتاج إليه ولا يهمنا، ونحن نمتلك منه ما يكفي حاجتنا، وعلى الدول المعنية بالأمر أن تدافع عن مصالحها، ونحن أكبر دولة منتجة للنفط، ولا يهمنا في الشرق الأوسط سوى أمن إسرائيل... هل يعني ما يقول، أم إنها مجرد أقوال تُرسَل جزافاً للتورية وتضييع الوقت وإلهاء الخصم بترهات من كلام لا يعطي فكرة حقيقية عن الموقف الفعلي للإدارة الأميركية؟

هل فعلاً أن نفط الشرق الأوسط لا يهم أميركا ولا تحتاج إليه؟ هل فعلاً أن أميركا مكتفية ذاتياً بالنفط وتنوي تصدير الفائض منه؟ هل أميركا فعلاً تخلت عن الحلفاء والأصدقاء ولم يعد لديها رغبة في المواجهة والتضحية إلّا إذا تعلق الأمر بأمن إسرائيل فقط؟ هل صحيح أن الشرق الأوسط انتهت وظيفته ولم يعد تلك الساحة المهمة دولياً مثلما كان أمره في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات؟

إذا كان الأمر كذلك، فإن الأمر يعني أن منطقة الشرق الأوسط دخلت فعلياً انعطافاً تاريخياً، وستشهد ساحاتها متغيرات خطرة قد تؤدي إلى انعكاسات سلبية في علاقات دول المنطقة، وبالتالي سيكون لهذا الانعطاف تداعياته الجيواستراتيجية على الخريطة الديموغرافية والحدود السياسية والتوازنات والهيكلية العامة التي تشد العواصم بعضها إلى بعض، أو بعضها ضد بعض.

يبقى السؤال: هل فعلاً هذا هو الصحيح، أم إن في الأمر خدعة استراتيجية تعتمد مناورة سياسية محدودة الأفق والتفكير؟

حتى اللحظة، تبدو الأمور الظاهرة للعيان سائرة نحو التفاوض في نهاية المطاف بين واشنطن وطهران، إلّا إن ذلك لا يعني بالضرورة أن المسار العام لن يشهد كثيراً من المطبات السياسية، وربما العسكرية، في الأشهر المقبلة التي تسبق الانتخابات الأميركية.

وإذا كانت المسألة متعلقة بالمشهد الانتخابي في العام المقبل، فمعنى ذلك أن تصريحات الرئيس ترامب المتذبذبة موقتة وتريد شراء الوقت وعدم التورط في صدام مُكلف يؤثر في نتائج التصويت، الأمر الذي يعني أن المعركة مؤجلة إلى أن تتوضح صورة الأوراق في صناديق الاقتراع، وعندها لكل حادث حديث.

هل فعلاً أن المسألة كذلك، وأنها مجرد موضوع انتخابي لا يريد الرئيس ترامب الغياب عنه وترك الساحة لغيره من المنافسين، أم إنها أكثر من معركة رئاسية، وإنها تتجاوز اللحظة الراهنة لتؤكد فعلاً أن أميركا تراجعت ولم يعد لديها القدرة على تحمّل الخسائر مثلما كان أمرها حين خرجت إلى العالم لإنقاذ أوروبا من الانهيار في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)؟

الاحتمالات إذاً مفتوحة على قراءات تحتمل أكثر من تفسير لحقيقة ما يحدث ميدانياً على الأرض.

يمكن القول إن الولايات المتحدة تراجعت اقتصادياً عن موقعها الذي كانت تحتله في نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945). فأميركا آنذاك كانت تسيطر على نصف اقتصاد العالم في مقابل نصف تتوزعه دول العالم كافة. وبسبب هذا الفائض الكبير في القوة الاقتصادية تقدمت أميركا نحو أوروبا طارحة مشروع مارشال لإعادة بناء القارة. كما توجهت نحو الشرق الأوسط مُبدية استعدادها لحماية حقول النفط التي تعاملت معها كسلعة استراتيجية تؤثر في التوازنات الإقليمية والدولية. وتوجهت كذلك إلى الشرق الأقصى لفرض نظامها الأمني في اليابان وتايوان في مواجهة النفوذ الصيني، وتدخلت أيضاً في حرب كوريا وخاضت معارك قاسية حتى نجحت في تثبيت موقعها في الجنوب ضد الشمال. بعدها توجهت إلى فيتنام آخذة المبادرة من فرنسا، وخاضت معركة كبرى في السبعينيات إلى أن توسعت دائرتها وانفلشت لتضم كمبوديا ولاوس حتى أعلنت تراجعها واستعدادها للتفاوض بعد أن وصلت الأمور إلى حد التوازن واللاحسم.

كانت تجربة جنوب شرق آسيا قاسية على أميركا حين ضغطت الحروب الدائمة على اقتصادها دافعة إدارتها إلى البحث عن تسوية، وإلى الانفتاح على الصين لاحقاً (فترة نيكسون 1969 – 1974) بهدف تشكيل قوة موازية تُضعف دور الاتحاد السوفياتي في دائرة حيوية تحتوي على كثافة سكانية وازنة.

آنذاك بدأ الحديث يدور عن القوى الإقليمية الكبرى (إيران وتركيا) ودورها في تعديل الموازين في حال أُعطيت صلاحيات خاصة لتؤدي دوراً محلياً في فرض الأمن وضبط الاستقرار والمحافظة على مصالح الدول الكبرى.

وقبل أن تتبلور تصورات استراتيجية بشأن ما اتُّفق على تسميته "الإمبرياليات الفرعية"، تدخّل الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وسقط الشاه في إيران (فترة كارتر 1977 – 1981) في إثر ثورة عارمة انتهت بتغيير النظام وتوجهاته في سنة 1979.

جرى ذلك كله في ظل تراجع الاقتصاد الأميركي عالمياً قياساً بالدول الصاعدة في شرق آسيا. فالولايات المتحدة التي كانت تسيطر على نصف اقتصاد العالم في نهاية الحرب العالمية الثانية أخذت تفقد احتياطها النقدي، وبدأت تغرق في الديون (سندات خزينة) كي تضمن الحماية لعملتها النقدية.

وساهم عامل الثقة بالقوة الأميركية وضخامة اقتصادها في تغطية تراجع دورها السياسي المفصلي في أوروبا والعالم. فهي من جانب استمرت في تغطية نفقات الحرب الباردة وتأمين عجز الحلف الأطلسي (الناتو) في مواجهة الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، وهي من جانب آخر حافظت على موقعها في الخليج (فترة ريغان 1981 – 1989) كونه يشكل قاعدة أمنية لحماية إمدادات النفط من الممرات والمعابر المائية (مضيق هرمز؛ باب المندب؛ قناة السويس بعد إعادة افتتاحها).

ولم تظهر آنذاك آثار التراجع الاقتصادي على قوة النفوذ السياسي والهيبة الأميركية في أسواق المال والأعمال، فالقوة السياسية المعطوفة على الجبروت العسكري كانت كافية لتعديل الصورة الاقتصادية، وإعطاء فكرة غير دقيقة عن موازين القوى الدولية.

تراجع الاقتصاد الأميركي

جميع القراءات في تلك الفترة (الثمانينيات) كانت ترجح أن اقتصاد أميركا سيتراجع إلى المرتبة الثانية بعد العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وأن الصين ستتحول إلى قوة عظمى في الحقبة المقبلة، وسيكون لها تأثيرها في المنظومة الدفاعية في الشرق الآسيوي.

كانت القراءات صحيحة، إلّا إن الفترة الزمنية المفترضة لحدوث المتغيرات كانت بعيدة في المقاييس السياسية، ولذلك لم تكن المخاوف من حدوث تلك الاحتمالات واردة في حسابات مراكز القوى باعتبار أن الفترة الفاصلة تحتاج إلى نصف قرن لبلوغها.

الآن انتهى الوقت الافتراضي بعد أن عاش العالم تلك الفترة وشرع يتجاوزها، وأصبح اقتصاد أميركا في الموقع الثاني تقريباً بعد أن تراجعت حصتها في الدورة الإنتاجية في الكرة الأرضية من النصف إلى الثلث ثم إلى الربع، والآن أخذ يتدنى إلى الموقع الافتراضي الذي توقعته قراءات الثمانينيات بشأن موازين القوى الدولية.

إن وصول العالم إلى هذا المستوى سبقه حدوث كثير من الأمور الجيواستراتيجية أدى إلى سقوط دول ونهوض أُخرى، وهبوب عواصف عسكرية طردت قوات الاتحاد السوفياتي من أفغانستان، وأشعلت مواجهة عراقية – إيرانية امتدت على ضفاف الخليج من سنة 1980 إلى سنة 1988.

بعد توقف حرب الخليج الأولى، حدث ما لم يكن متوقعاً، وذلك حين انهار الاتحاد السوفياتي بسبب سباق التسلح (حرب النجوم) وإصلاحات ميخائيل غورباتشوف. فالمشهد كان يشبه تساقط أحجار الدومينو في أوروبا الشرقية وفي الداخل السوفياتي... وقد استمر هذا التساقط إلى أن انكشفت الساحة الدولية عن لاعب واحد تمثل سياسياً في انتصار النموذج الأميركي على المعسكر الاشتراكي.

غير أن هذا الانتصار جاء، على ما يبدو، في الوقت الضائع. فأميركا اقتصادياً لم تعد مثلما كانت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حين حققت انتصارها على القوة الفاشية – النازية. ولأنها أصبحت في موقع منكشف اقتصادياً، فإنه بات عليها أن تتحمل مسؤوليات سياسية كبرى كقوة منفردة لا توازيها عسكرياً قوة مضادة أُخرى، وهو ما ظهر جلياً في أزمة الكويت وحرب الخليج الثانية في سنة 1991 (فترة بوش الأب 1989 – 1993).

حتى تلك اللحظة لم تكن عوارض التراجع الاقتصادي قد ظهرت على السياسة الأميركية، فالإدارة كانت قادرة على تدوير الزوايا وضبط التوازن.

واستطراداً، حين وقعت هجمات 11 أيلول / سبتمبر بعد عشرة أعوام في سنة 2001 (فترة بوش الابن 2001 – 2009)، كانت أميركا لا تزال في موقع يعطيها القدرة على الرد ومواجهة كل ضربة عسكرية بضربتَين مثلما حدث في أفغانستان في سنة 2001، وحرب تقويض العراق في سنة 2003.

كانت الاستراتيجيا الأميركية في ذاك الوقت واضحة المعالم في ترسيم حدود مصالحها وفرض نفوذها السياسي المقرون بقوتها العسكرية التي لا تُضاهى ولا تُجارى.

ظهور العوارض

بعد تلك الحقبة أخذت العوارض تظهر وتؤثر في مجرى الدور الأميركي في العالم. فالصين التي كانت حدودها تنتهي على شواطىء البحر أخذت تتوسع سياسياً في الأقاليم المجاورة، وشرعت تبني قوة بحرية تحمي مصالحها الاقتصادية في الجرف القاري. أمّا روسيا الاتحادية التي غابت عن المشهد الدولي أكثر من عقدَين، فبدأت تستفيق من سباتها السياسي، وتنشط في محيطها الجِواري (القرم وأوكرانيا)، في وقت أخذت واشنطن تلمّح إلى أنها تستعد للانسحاب من مواقعها ومراكزها المستحدثة في العراق ومحيطه في نهاية سنة 2010.

كان القرار بمثابة صدمة استراتيجية لأن موضوع الفراغ ليس مسألة نظرية، كونه يشكل نقطة جذب تشد الأطراف طوعاً إلى الاصطدام. فالفراغ أشبه بالمغناطيس السياسي الذي يجذب القوى إلى زاوية الدائرة، بحيث تبدأ المراكز بالتضارب حتى لو كان الأمر على حساب الداخل وضد الناس في الساحات العامة.

وهذا بالضبط ما حدث في نهاية سنة 2010 ومطلع سنة 2011 من هبّات وخضّات وزعزعة استقرار من المغرب إلى المشرق نزولاً إلى الجنوب (اليمن). فالانسحاب العسكري الأميركي من بعض النقاط الطارئة والمستحدثة كان له تداعيات سياسية فاقت جميع القراءات والتوقعات، ولم يعد في الإمكان ضبطه من دون الانجراف نحو اقتتال أهلي يتطلب كثيراً من الجهد لوقفه عند الحد المعقول للتسوية بين حاجة الدول إلى الأمن والاستقرار، وحقّ الناس في الحرية والاختيار.

الاستبداد، مثلما يقول فريديريك هيغل في فلسفته السياسية، يؤدي إلى الفوضى التي بدورها تعزز الرغبة في طلب الاستبداد. وهذا ما حدث في المنطقة العربية حين تاهت الخيارات بين معاندة الاستبداد، والخوف من تداعيات الفوضى.

ارتجاجات التغيير

مضى نحو عشرة أعوام تقريباً على بدء تلك الارتجاجات على امتداد المساحات العربية من ضفاف جبل طارق، إلى مداخل باب المندب، صعوداً إلى بلاد الشام والعراق.

الآن باتت الأمور واضحة المعالم في سياقها العالمي، غير أن المتغيرات لم تدخل بعد في مشهدها الختامي باعتبار أن الاحتمالات لا تزال مفتوحة على أسئلة تحتاج إلى أجوبة. فهل ترامب فعلاً جاد فيما يقول؟ وهل هو غير مكترث بما حدث وما سيحدث، لأن أميركا لم تعد محتاجة إلى نفط الشرق الأوسط، ولذلك أخذت تتنازل عن وظيفتها الأمنية ومسؤوليتها الاستراتيجية في حماية مصالح الأصدقاء والحلفاء؟

إذا كان الأمر فعلاً كذلك، فهذا يعني أن أميركا لم تعد تلك الدولة القادرة على فرض هيبتها، وإنما باتت تظهر عليها عوارض تراجعها الاقتصادي ونزولها إلى المرتبة الثانية في السلّم العالمي. ولأن الأمر هكذا، فإن لائحة الأولويات أصبحت مختلفة عن السابق، وبات عليها أن تدرج التنين الصيني على رأس جدول أعمالها في وقت أخذ الشرق الأوسط يحتل مرتبة متدنية عن الفترة السابقة، وبالتالي يمكن فَهْم تصريحات ترامب التي أطلقها بعد أن أعلن حربه التجارية ضد الصين، ورفضه بنود الاتفاق النووي الذي أبرمه الرئيس باراك أوباما (فترة 2009 – 2017) مع طهران. فالتصريحات هنا تصبح مفهومة لأنها توازن بين موقع أميركا الاقتصادي وهواجسها السياسية والأمنية في المستقبل، وبين دورها التقليدي الذي تآكل زمنياً، خطوة خطوة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

إذا كان هذا هو المسار الاستراتيجي الجديد، فإن تصريحات ترامب تصبح جدية وليست للمناورة، فهو لم يعد في موقع يسمح له بالمغامرة ودفع تكلفة غير محسوبة قبل عام من بدء معركة الرئاسة، وخصوصاً أن أميركا لم تعد تلك الدولة الناشطة في جميع الحقول والمجالات كما كان أمرها في مطلع القرن الماضي. فالدول كالأشخاص، مثلما يقول ابن خلدون في مقدمته، وهي تعيش فترة محددة لا تزيد على 120 عاماً، وتمر بأطوار الطفولة والمراهقة (الشباب) والكهولة والشيخوخة، وأخيراً العجز.

مضى على أميركا بعد عبورها المحيط الأطلسي من الغرب إلى الشرق (أوروبا) نحو مئة عام. فهي دخلت حاملة مشروع حل سلمي أُممي لدول العالم (مشروع الرئيس ويلسون / فترة 1913 – 1921)، واجتهدت لتأسيس مظلة أمنية لحماية أوروبا في مواجهة الجار الروسي، وشجعت القارة على توحيد سوقها وتطويرها تحت مظلتها الأمنية – السياسية، وساهمت في صيانة توازناتها كي تبقى ذاك النموذج الأرقى في النظام العالمي.

الآن ماذا يحدث؟ ترامب هدد أوروبا بالانسحاب من الناتو، وفرض على دولها أن تدفع خوّة أو ترفع حصتها في الميزانية السنوية كي يقبل بالاستمرار في حمايتها. كذلك شجّع صديقه بوريس جونسون (رئيس حكومة بريطانيا) على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي (بريكست) من دون انتباه أو اكتراث للتداعيات المتوقعة على اقتصاد الحليف البريطاني، وما يمكن أن تجرّه خطوة الانسحاب على القارة التي ساهمت أميركا في إنقاذها وإعادة إعمارها في نهاية الحرب العالمية الثانية.

لا شك في أن أوروبا أهم من الشرق الأوسط في الاستراتيجيا الأميركية، وهي دائماً وأبداً تحتل الموقع الأول في سياسات واشنطن منذ أن تحولت الولايات المتحدة إلى دولة كبرى، ومع ذلك يرسل ترامب إليها الإشارات السلبية، ويوجه ضدها ضربات مؤذية لا يمكن تصور تداعياتها في حال جرى تقويض الاتحاد الأوروبي من الداخل.

أسئلة مؤجلة

المسألة فعلاً تطرح السؤال المؤجل: هل وصلت أميركا إلى مرحلة العجز، أم إنها دخلت فترة الشيخوخة، أم هي لا تزال في حقبة الشباب وتستعد لولوج طور الكهولة، أم إن ما قاله ابن خلدون عن صعود الدول وهبوطها مجرد تكهنات لا تنطبق شروطها التاريخية على الدول المعاصرة والحديثة في تكوينها وبُنيتها؟

الأجوبة كلها مفتوحة على احتمالات لا يمكن ضبطها وضمان انفعالاتها بعد الإشارات التي جددت واشنطن إرسالها في إثر الضربات (المجهولة / المعلومة) التي تلقّتها شركة أرامكو في السعودية. فالضربات، بغضّ النظر عن فاعلها والمستفيد من تداعياتها، أصابت المركز العصبي لجهاز التنفس الاقتصادي، الأمر الذي يتطلب من الدول القادرة على التحرك أن تتنبه لحماية الرئة من الاختناق وانطباق الصدر وتحطمه.

لكن هل أميركا (والدول المعنية بمضائق النفط) هي على أهبة الاستعداد للاستجابة للتحديات؟

حتى الآن لا يمكن التوصل إلى صوغ جواب واضح بشأن المسألة. فالموضوع يتطلب قراءة هادئة للتعرف إلى ما تخفيه العاصفة الرملية من انعكاسات ليست ظاهرة في الأفق المنظور، ولذلك تصبح الترجيحات هي أفضل وسيلة للتدليل على المسار الذي يمكن أن تدخله التداعيات قبل أن تستقر الأمور وتتوضح الصورة من مختلف جوانبها. فالترجيحات متباينة وغير موحدة في خط سيرها، وهي تتفاوت بين الانزواء العسكري أو الانسحاب أو التفاوض أو المواجهة أو ترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي إلى أن تمر العاصفة الرملية بالحد الأدنى من الخسائر.

هذه الترجيحات كلها محكومة بسؤال يتعلق بمدى قدرة الدول على التحمل، ومدى استعداد الولايات المتحدة للتضحية دفاعاً عن مصالحها وشبكة الحلفاء والأصدقاء.

إذا كانت إدارة واشنطن تقرأ التطورات من منظار سلبي، وترى أن ما يحدث يعرّض مصالحها المباشرة للخطر، فمعنى ذلك أنها قد لا تتردد في الرد كي تمنع موازين القوى من الانكسار لمصلحة طرف ضد آخر. وإذا كانت الإدارة عينها تنظر إلى التطورات بمنظار إيجابي، وبأنها غير معنية مباشرة بالتداعيات الناجمة عن تأزّم ملفات الشرق الأوسط، فمعنى ذلك أنها ستستمر في سياسة المماطلة إلى أن تمر فترة الانتخابات الرئاسية، وربما تشهد المنطقة خلالها عودة المفاوضات مع إيران لتعديل الاتفاق النووي الذي وقّعه الرئيس أوباما بحضور خمس دول أوروبية.

الدولة العميقة

لا يمكن، من ضمن الترجيحات، إهمال سياسة الدولة العميقة في الولايات المتحدة. فهذه السياسة البعيدة عن المشهد أدلت بدلوها في تصريحات وإشارات أطلقها مراراً وبتقطّع الرئيس ترامب نفسه. فهو قال أكثر من مرة إن الحرب مع إيران مضمونة النتائج، وهي حرب إبادة، وهي لا تحتاج إلى أكثر من دقيقتين لتدمير 15 موقعاً، ونحن أقوى دولة عسكرية ونملك من الإمكانات والأسلحة ما هو كافٍ لتحطيم الخصم... لكننا لا نريد الحرب ونفضل الحوار والتفاوض بصفتهما الحل الهادف والضامن لمختلف مصالح القوى والدول.

إشارات ترامب إلى الحل التصفوي (حرب إبادة) في مقابل / أو لا حرب ولا حل، يضع المنطقة أمام احتمالات غير منظورة أخذاً في الاعتبار أن الدولة العميقة تبحث عن معركة لا خسائر فيها، وهو أمر مستحيل حدوثه، ويدل عليه استخدام مفردة إبادة. فالحرب في رأي ترامب في حواره الداخلي مع الدولة العميقة تعني استخدام القوة المفرطة، أو عدم وقوع الحرب، وهو يفضّل عدم وقوعها.

هل وصلت الأزمة إلى طور "نكون أو لا نكون"، وهل بات على المنطقة أن تنتظر لحظة الحسم النهائية بين حرب يقام لها ولا يُقعد، أو بين سِلْم يحتاج إلى عقول باردة، بانتظار أن تُستدعى الأطراف إلى طاولة المفاوضات؟

رؤوس حامية

حتى الآن تبدو الرؤوس حامية. فالملف اليمني تمزق إلى أوراق بدأت تتمدد إقليمياً من دون أن يتوصل الفرقاء إلى حسم ميداني للأزمة. والملف الفلسطيني بات عرضة للمنازعات الإقليمية وشرع يتدهور من رأس الأوليات العربية إلى قعر الاهتمامات. والانتفاضات العربية التي أخذت مداها الزمني وصلت في بعض أمكنتها إلى حائط مسدود، وفي بعضها الآخر أحدثت تحولات نسبية تحت سقف جيوش تُعتبر بمثابة العمود الفقري للسلطات.

وهكذا فإن الهجمة التركية في شرق الفرات هي خطوة قد تشد أطراف المنطقة إلى اصطفافات حادة. فالفراغ الأمني يشكل قوة جاذبة تدفع الأقاليم إلى نقطة الاصطدام، ويؤدي عادة إلى خلط الأوراق وإعادة تشكيل المشهد الإقليمي مثلما يحدث الآن حين أعلن ترامب الانسحاب بالتدريج من شمال شرق سورية. هذا هو المشهد الظاهر في الصورة.

أمّا خارج هذا المشهد الفوضوي والمتدهور، فإن السياق العام يبدو في مرحلة الانتظار للآتي من بعيد وقريب، ولذلك تبدو الصورة ملبّدة ومشوشة. وكي تتوضح المعالم وترتسم حدودها، فإنه لا بد من التوافق على مدى صحة كلمات ترامب وإشاراته المتكررة بشأن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. فهل تلك التصريحات صحيحة وجدية، أم إنها مجرد كلام في كلام لا قيمة له حين تصبح مصالح الدولة العميقة عرضة للمخاطر في رمشة عين غير محسوبة؟

الأمور مفتوحة على احتمالات وترجيحات بين ما هو حقيقي ومرئي، وما هو كامن في مكان غير منظور. إلّا إن ما هو واضح في الأرقام يمكن ملاحظته في تراجع مسار الاقتصاد الأميركي قياساً بالدورة العالمية للإنتاج (الانتقال إلى تعددية دولية تلغي فترة الأحادية الأميركية). فالأرقام تقول إن أميركا لم تعد الدولة الأولى اقتصادياً، أو إنها على قاب قوسين من الانزلاق إلى المرتبة الثانية وربما الثالثة في قائمة الدول المتنافسة دولياً... فهل هذا يعني أن الولايات المتحدة أصبحت أضعف ممّا كانت عليه سابقاً في السياسة والقوة العسكرية؟

سؤال يحتمل إجابات متعارضة في نتائجها، ويحمل في الوقت ذاته أسئلة أُخرى. فهل ستدير أميركا ظهرها للشرق الأوسط تاركة الساحات مفتوحة على تدخلات إقليمية ودولية لتعبئة الفراغ والدخول في مواجهات دائمة بذريعة أنها أصبحت مشغولة بالتصدي للتنين الصيني الزاحف من الشرق؟ أم إن أميركا أصبحت غير قادرة على الدفاع عن مصالحها (باستثناء أمن إسرائيل) ولذلك قررت الانكفاء والانعزال والتحصّن خلف أسوارها المغلقة؟ أم إن هناك مفاجأة غير متوقعة تشبه معجزة عودة الشيخ إلى صباه، فنشهد ما لا يمكن توقّعه في المنظار السياسي الراهن؟

بين الحد الأقصى المتخيل والحد الأدنى المحتمل هناك الحد الأوسط الذي نشهده في المنظور الراهن، ويتمثل في استكمال انفراط العقد العربي وتفككه إلى حبيبات صغيرة تشكل نوعاً من الحماية الجيوسياسية لأمن إسرائيل وتأمين تحصّنها (أي إسرائيل) في قلعة يصعب اختراقها إلّا في الفضاء الافتراضي، الأمر الذي يتطلب ميدانياً الإبقاء على موقع خاص للقوى الإقليمية الصاعدة كي تؤدي دور الفزاعة بقصد ابتزاز دول المنطقة واستنزافها إلى أمد غير معلوم.

ما يحدث، مثلما يبدو من ظاهر الصورة، هو أكبر كثيراً من موضوع تراجع القيمة الاستراتيجية لسلعة النفط، ومن مسألة انزلاق الدول الإقليمية إلى منطقة الفراغ الأمني وطموحها لبسط نفوذها السياسي في الجوار الجغرافي.

ما يجري هو أكبر من دائرة الشرق الأوسط، ويتصل أساساً بإعادة تشكيل خريطة مراكز القوى وتوزيع مناطق سيطرتها بناء على أرقام المعادلات الاقتصادية الدولية التي بدأت تظهر ميدانياً في مناطق متعددة من العالم.

السيرة الشخصية: 

وليد نويهض: صحافي وكاتب لبناني في الشؤون الدولية.