"وكم من محارب مر من هنا" لـ فيرا تماري: آنية الاستعمار وطبيعة حالمة
التاريخ: 
03/01/2020
المؤلف: 

إحدى عشرة خوذة فخارية لامعة طليت باللون الأخضر الداكن، وعلقت على قضبان حديدية بارتفاعات متفاوتة. العمل الذي يحمل عنوان "كم من محارب مر من هنا" يتصدر المعرض الشخصي الجديد للفنانة فيرا تماري في مركز خليل السكاكيني ويشكل أحد جوانب حكاية ترويها عن وطن انهكته الجيوش التي مرت بجغرافيته وتاريخه. أما الجانب الآخر فهو حكاية رسومات الطبيعة التي رسمت الفنانة جلها خلال السنوات الثلاث الماضية، والأشكال الفخارية المختلفة التي تشكل تقاطعاً ما بين جذوع نساء وجذوع أشجار الزيتون.

 تطرح تماري في المعرض تناقضات ما بين الطبيعة والاستعمار، وتذكرنا بتقلب المستعمرين عبر الزمن، فتمثل القوة الاستعمارية بخوذ مصنوعة من فخار هش يبدو لوهلة صلباً قوياً ولكنه قابل للانكسار والتحول إلى قطع صغيرة قد تندثر على مر الزمن أو قد تصبح آثاراً مدفونة تحت الارض. وتحيط بالعمل المركزي رسومات لطبيعة وردية حالمة تمتد إلى قاعات المعرض المجاورة، في اقتراح للسياق الذي يمر منه المحاربون- ولتبديد الالتباس، فإن المحارب هنا هو المستعمر وليس المحارب دفاعاً عن أرضه أو وطنه. نسجت تماري من الطبيعة مكاناً رومانسياً رقيقاً، تعافى من مرور الجيوش بخوذهم على مر الزمن وهو بشكل عام يخلو من أي تدخل إنساني في اقتراح للطبيعة المثالية التي تحب.

تقول تماري "كنت أقرأ محمود درويش عندما تعثرت ببيت قصيدة يقول: "ومر المحارب من هنا"، فعلقت هذه الجملة في رأسي، وأخذت أفكر "وكم من محارب مر من هنا، وكم من محارب عاث الدمار في البلاد، ولا زال المحاربون يمرون. بحثت في الخوذ التي اعتمرها محتلو هذه البلاد على مر السنين والتنوع في أشكالها منذ الرومان والإغريق والفرس وصولاً إلى المماليك فالعثمانيين والإنجليز، والآن المستعمرين الجدد لهذه البلاد".  أرادت تماري أن تكون الخوذ رمزاً استعمارياً قابلاً للكسر، وقد يكون استعارة لهشاشة الحماية التي توفرها آلياته الحربية.

 

 من معرض "وكم من محارب مر من هنا"

"وكم من محارب مر من هنا"، يذكرنا ولو لبرهة بعمل آخر قوي وجميل لتماري تحت عنوان "عرافون من البحر" أنتجته سنة ١٩٩٨، على شكل وجوه فخارية، لونها بلون الفخار المشوي، علقتها (بالطريقة نفسها) على قضبان حديدية بارتفاعات متفاوتة، ووفرت لها خلفية من صور فوتوغرافية لبحر يافا عند الغروب. فبدت الرؤوس الفخارية كبقايا من أجساد خارجة من البحر وكأنها عائدة للتو من الشتات إلى شواطىء المدينة. وإن كان العملان يتشابهان من حيث مبدأ التنفيذ، إلا إنهما يختلفان من حيث الثيمة، فيركز السابق على توفير جو ملائم لحوار يجري ما بين "الأجداد" والمدينة التي سكنوها مستحضرين ذاكرة المكان ومجابهين بها واقع المكان الجديد، بينما يطرح اللاحق حواراً ما بين محاربين مروا من البلاد ومشهدها الطبيعي المثالي الخالي من أية آثار إنسانية تقريباً، وإن وجدت فهي تمتزج مع ألوان التلال ومكونات الطبيعة.   

يافا

المشترك في معظم أعمال تماري في هذا المعرض وعبر حياتها المهنية، هو حضور مدينة يافا بقوة بدءاً بأعمالها الفخارية التي مثلت بورتريهات العائلة في فترة مبكرة من عملها الذي امتد على مدار ٤٥ عاماً، ووصولاً إلى رسومات الطبيعة عندما قررت التوجه إلى الرسم في الفترة الأخيرة. وليس من الصعب اكتشاف كيف تشكل تلك المدينة التي تنحدر منها عائلتها هاجساً دائماً وبوصلة تجذب أنظارها أينما كانت. فتبدو يافا جلياً في رسومات التلال والأمواج وفي المشاهد الطبيعية المعروضة في القاعات الثلاث المتجاورة في الطابق الأرضي من المركز، محيطة بالعمل الرئيسي، ومشكلة سياقا له. فنرى في تلال تماري، نظرة الفنانة الحالمة من رام الله عبر التلال الممتدة وصولاً إلى ساحل وأفق يافا. فتتلاشى التلال في الأفق عند الالتقاء بالبحر فترة الغروب مشكلة مشهداً تراه تماري من تلال رام الله عندما تتوجه بنظرها نحو يافا وتحاول رسمه مراراً وتكراراً.

وتبدو لوحات الأمواج المتلاطمة المنفذة بدرجات الأزرق الداكن بحركتها وعنفوانها، وكأنها تمثل تخبط عواطف الفنانة وشعورها المتضارب من حنين إلى مدينة لم تعش فيها وبحر لم ترث ثقافته وفي الوقت نفسه فقدانها للمكان وتفاصيل معنى الحياة فيه. "عندما أزور يافا أحزن، لأننا فقدنا ذاكرة المكان. فثقافة البحر غنية ولكنها غريبة عني". أما امتداد البحر فهو "مرعب" بالنسبة إليها وكذلك الموج. وتقول "كثيراً ما أقارن ثقافتي بثقافة أهلي المتعلقة بالبحر، وبالطبع هناك هوة شاسعة. تحدثوا عن شاطىء تربوا بقربه، وسيرهم حفاة يلتقطون سرطان البحر والأصداف وعن بحر كان محور حياتهم. للأسف لقد فقدنا هذه الثقافة. ورسوماتي للأمواج تعكس نوعاً من الحنين للمكان وثقافته".

الرسم

لم يكن الرسم يوماً حرفة فيرا تماري التي اشتهرت بأعمالها الخزفية وبإنجازها بعض الأعمال التركيبية على مر السنين، إلا إن اللوحة استولت على ذهنها مؤخراً، فراحت ترسم مجربة بالألوان وكأنها طالبة جديدة تغريها الألوان المائية والأكريليك وغيرها من المواد على سطوح ذات ملامس مختلفة. سرعة إنجاز العمل بالمقارنة مع العملية المعقدة التي يتطلبها التشكيل في الطين والعمل بالفخار وشيه وتلوينه، قادتها إلى إنجاز عدد كبير من الأعمال في وقت قياسي نسبياً. وتقول "ركزت على الرسم منذ ثلاث سنوات فقط. هناك صعوبة وتعقيد في العمل في الطين، تتمثل في الوقت المتطلب والجهد والموارد. وصرت أرى رهافة في العمل على الورق وشاعرية وجماليات مختلفة."

 

فيرا تماري يمين الصورة

وفيرا من الفنانين الذين يستهويهم التجريب في الشكل الفني وتغيير الأسلوب ١٨٠ درجة، فإلى جانب الفخار، قدمت مجموعة من الأعمال الفنية التركيبية، فجاء عمل"ماشيين" في سنة ٢٠٠٢، المؤلف من عدد من السيارات التي دمرتها الدبابات العسكرية الإسرائيلية عند اجتياح رام الله، تبعه عمل "حكاية شجرة" في سنة ٢٠٠٢ الذي تألف من ٦٠٠ شجرة فخارية صغيرة وتناول موضوع اقتلاع أشجار الزيتون على يد الاحتلال الإسرائيلي. كما قدمت عمل "عرافون من البحر" في سنة ١٩٩٨، وعمل "البيت" من مادة البليكسي والحديد والأسلاك في سنة  ٢٠١٧، والذي يتناول حصار المستوطنين للبيوت الفلسطينية في بلدة القدس القديمة.  

وتقول تماري إنها تأثرت بمحاضرة لمنى حاطوم في رام الله في التسعينيات، وحثها التحضير الفكري الذي استعرضته حاطوم للتجريب بالأعمال التركيبية مع طلابها في الجامعة أولاً قبل أن تمارسه بنفسها. وتعيد تماري الفضل لتمكنها من إنتاج أعمال تركيبية إلى خلفيتها في دراسة الدراما والفن في كلية بيروت، إذ ترى بأن الدراما والمسرح ساعداها في التنفيذ والإخراج.  

 

  من معرض "صباح مبكر في نوفمبر"

تولي تماري أهمية للتفاصيل، وخصوصاً عندما تكون من الطبيعة. في "صباح مبكر في نوفمبر"، عمل جميل بصرياً يأتي نتاجاً لمراقبتها ظلال نباتات متحركة من نافذتها، شكل يتكرر في خريف كل عام. ويأتي العمل المكون من تسع صور فوتوغرافية وثلاثة فيديوهات معروضة معاً على حائط واحد في المعرض، ليداعب البصر والأحاسيس الإدراكية للمشاهد من خلال تحرك الظلال والنور بالتضاد مع الألوان القاتمة التي تؤطر النافذة، وقضبانها الحديدية الثابتة. فلوهلة يظن المشاهد أن الإطارات جميعاً تحوي مشهداً متحركاً، ليكتشف بعد قليل أن عليه التركيز في كل إطار لأن ثمة خطباً ما. ثم يأتي الاستنتاج بأن هناك ثلاثة فيديوهات متحركة فقط وأن ما تبقى هي صور فوتوغرافية لذلك المشهد وأن الفيديوهات تعطي إيحاء بأن جميع الصور متحركة. 

تتخلل قاعة المعرض أعمال فخارية تقف خجولة في زوايا المعرض، تختلف عن إنتاج فيرا الذي عهدناه، ولا تمنح طريقة العرض المشاهد فرصة تأمل القطع من كافة الجوانب كما يجب. وتستكشف تماري في هذه القطع التشابه ما بين جذع شجرة الزيتون بصفتها (حارسة الأرض) وجذع الأنثى. فتتلوى القطع وتلتف لتتشابك وتتماهى لتكون شجرة زيتونة وجسد أنثى في الوقت ذاته.   

"وكم من محارب مر من هنا"، مركز خليل السكاكيني الثقافي، رام الله، بتنظيم غاليري وان، من ١٨تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٩ إلى ١٢كانون الثاني/يناير ٢٠٢٠.