خرج اليمين الصهيوني عن طوره وهو يتابع إعلان وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، بأن المستوطنات لا تتعارض مع القانون الدولي. واحتار قادة اليمين في توصيف هذا الإعلان مفضلين اعتباره "إحدى الثورات الكبرى في الدبلوماسية الأميركية بالنسبة لإسرائيل"، وفق صحيفة "إسرائيل اليوم" اليمينية. وسارع زعماء المستوطنين للمطالبة بقرار رسمي حكومي يعلن ضم المستوطنات وفرض السيادة الصهيونية عليها بعد تبني إدارة ترامب لمواقفهم.
وبدا واضحاً أن اليمين رأى في الإعلان الأميركي تأكيداً لنظرته الدائمة بأن السلام مع العرب لا يأتي عبر"التنازلات" وإنما من خلال الإصرار على التمسك بالأرض وفرض الوقائع عليها. وهذا ما تجلى في تعليق رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، على الإعلان أثناء زيارته المقصودة لمستوطنات غوش عتسيون. وفي لقائه مع قادة المستوطنات هناك بعد يوم من تصريح بومبيو قال إن هذا الإعلان "إنجاز عظيم"، و"أنا أعترف بأنني منفعل جداً. فنحن هنا في غوش عتسيون. مكان طردنا منه في حرب الاستقلال (1948)، وها نحن هنا في هذا اليوم التاريخي مع إنجاز آخر هائل لدولة إسرائيل عملنا عليه كثيراً. لقد أصلحت إدارة ترامب هنا ظلماً تاريخياً ووقفت إلى جانب الحقيقة والعدل. وأنا أشكر الرئيس ترامب ووزير الخارجية بومبيو. وأعتقد أن هذا يوم عظيم جداً لدولة إسرائيل وإنجاز سيبقى للأجيال".
ولاحظ كثيرون أن اندفاعة الإدارة الأميركية لإعلان مواقف متطرفة ضد الفلسطينيين تزامنت في الغالب مع أزمات داخلية يعيشها نتنياهو والائتلاف اليميني أو مع اقتراب مواعيد انتخابية. ولم يخف معلقون صهاينة كثر اعتقادهم بأن أغلب هذه المواقف أتت لتخدم نتنياهو وسياسته الداخلية حيث أن ترامب واليمين المسيحاني الأميركي كانوا يرون فيه رسولاً منهم. ولعب دوراً بارزاً في ذلك السفير الأميركي في تل أبيب، ديفيد فريدمان و"طاقم السلام" الأميركي برئاسة غارد كوشنر. وقد عمل كل هؤلاء بوصفهم خدماً للفكرة الصهيونية الأشد يمينية وتطرفاً والتي يمثلها نتنياهو.
عموماً رأت يفعت إيرليخ في "يديعوت" أن إعلان بومبيو جعل "الحقيقة تخرج إلى النور". وحسب رأيها فإن "الإدارة الأميركية الحالية تحتقر النفاق الأوروبي"، ولذلك "قررت بشجاعة كسر حالة اللامبالاة واستغلال الفرصة لإصلاح الموقف العفن من العام 1978 الذي زعم أن المستوطنات ليست قانونية. وهذا الموقف، الذي تبنته إدارة أوباما أيضاً، كان موضع خلاف فور صياغته. ولكن حتى وفق ما نص عليه لم يعد قادراً على الصمود، لأن الواقع تغير تماماً... فسبعمائة ألف إسرائيلي يعيشون حالياً في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وفي القدس الشرقية. وفي الخمسين عاماً الأخيرة يربون بافتخار الجيلين الثالث والرابع، ولأولادهم ليس فقط حق أجداد تاريخي، وإنما أيضاً حق ولادة شخصي. حان الوقت لأن يعترف العالم بالحقيقة البسيطة: الشعب اليهودي عاد إلى وطنه التاريخي".
كما أن الصحافية اليهودية الأميركية ذات الميول اليمينية، كارولين غليك، كتبت أن إعلان بومبيو "يقرب السلام" في المنطقة. ورأت أن "إعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بأن المستوطنات الإسرائيلية في المناطق ليست غير قانونية هو التغيير الأهم في سياسة الشرق الاوسط الأميركية في الجيل الأخير. فقد قال القانون الأميركي ان القدس عاصمة إسرائيل في العام 1995. هضبة الجولان لم تكن على طاولة المباحثات منذ نحو عقد. ولكن المستوطنات في المناطق هي المسألة التي حددت الخطاب الدولي المعادي لإسرائيل منذ السبعينيات".
وبديهي أن اليمين في الكيان، وأنصارهم في الولايات المتحدة، رأوا في الإعلان بشأن المستوطنات تحدياً هاماً للإرادة الدولية من ناحية واستكمالاً لما سمي في حينه بـ "صفقة القرن". وإذا كانت إدارة ترامب قد عجزت عن توفير مناخ تستطيع من خلاله تمرير صفقة القرن فإنها بسياساتها المعلنة في العامين الأخيرين قررت تنفيذ بنود هذه الصفقة من طرف واحد. وهكذا تم الانتقال بسرعة من وسائل لي الذراع المستترة إلى عمليات التهشيم السياسي العلنية للفلسطينيين. وكانت البداية إجراءات مالية ضد السلطة الفلسطينية ووقف تمويلها، ثم وقف التمويل عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) لتتبعها بإعلان القدس عاصمة "أبدية" للكيان، وأخيراً إضفاء شرعية على المستوطنات وكل ذلك خلافاً للإرادة الدولية.
وكان واضحاً أن هناك قراراً من إدارة ترامب، بتشجيع من حكومة نتنياهو، بتحويل مسار العملية السياسية باتجاه فرض الحل المقبول إسرائيلياً. وكان هذا الحل يستند إلى فكرة يمينية قديمة تقوم على مبادئ الحل الاقتصادي أو مقايضة السيادة بالمشاريع. وعنت الخطوات الأميركية، عملياً، تراجعاً مستمراً عن مبدأ حل الدولتين ثم عن مبادئ الشرعية الدولية. وحل الموقف الأميركي بديلاً عن القرارات الدولية وعن مقتضيات القانون الدولي.
ومن الجلي، أن كلاً من القادة السياسيين وأنصار اليمين رأوا في إعلان بومبيو ترسيخاً لمواقفهم الأصلية بأنهم أصحاب الحق في هذه الأرض وليس العرب. ولم يلتفتوا كثيراً إلى أحاديث بومبيو وقادة إدارة ترامب بأن منطلقاتهم في موقفهم الجديد هو إقرار بالواقع، ولا تأثير له على مستقبل المفاوضات بين الجانبين. وكان هذا الحديث قد تكرر أيضاً عند اعتراف الرئيس ترامب بالقدس عاصمة "أبدية" للدولة العبرية، إذ أرفق الاعتراف بالقول إنه لا يؤثر على الحل النهائي الذي سيتم بالتوافق بين الطرفين. وبديهي أن قادة اليمين في الكيان ينظرون إلى النواحي الجوهرية خلف المواقف الأميركية. وقد كرر الرئيس ترامب نفسه القول بأنه يسعى إلى إزاحة القضايا الأشد صعوبة عن طاولة المفاوضات.
وبديهي أن هذا ما يتمناه ويتطلع له اليمين الصهيوني وكل أنصار التوسع في الدولة العبرية. ومعروف أن الخلاف الجوهري بين التيارين المركزيين في الكيان صار يتمحور في العقد الأخير حول هوامش بعيدة عن قضايا الحق والقانون بل وعن قضايا السلام والحرب. وليس صدفة أن نتنياهو، عندما وعد في حملته الانتخابية الأخيرة بضم غور الأردن والكتل الاستيطانية، لم يجد صدى من جانب زعيم "أزرق أبيض"، بني غانتس. بل أن غانتس رحب بإعلان بومبيو أن الإدارة الأميركية لم تعد ترى أن المستوطنات تشكل عقبة أمام السلام ولا ترى أنها تخالف القانون الدولي.
غير أن هناك في الكيان نفسه، خلافاً لإدارة ترامب ولأنصار الاستيطان، من لا يزالون يؤمنون بأن إعلان بومبيو مخالف للقانون الدولي نصاً وروحاً. وفي نظر هؤلاء، فإن القانون الدولي هو ما تحدده المواثيق والأعراف والقرارات الدولية. وإذا كانت إدارة ترامب هي النقيض لإدارة أوباما التي مررت قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334 ، فإن ذلك لا يجعل منها حكماً ولا مرجعاً للقانون الدولي. فالقرار نفسه استند إلى جملة من المعاهدات والقرارات الدولية وبينها معاهدتي لاهاي الثانية لعام 1907 وجنيف الرابعة لعام 1949، واللتان تنصان على واجبات قوات الاحتلال. كما أن محكمة العدل الدولية، في قرارها الاستشاري عام 2004، قررت أن إنشاء المستوطنات مناقض للقانون الدولي. وعدا ذلك، فإن مذكرة هنسل الصادرة عن وزارة الخارجية الأميركية في العام 1978 نفسها تؤكد أن المستوطنات تناقض القانون الدولي. ولا يهم كثيراً في هذا الشأن الألاعيب التي تستند إليها كل من الإدارة الأميركية والحكومات الصهيونية في محاولاتها فرض وقائع على الأرض وإجبار الآخرين على الاعتراف بها.
وهذا ما تجسد عملياً بمواقف معظم أعضاء مجلس الأمن الدولي، وخصوصاً دول الاتحاد الأوروبي، الذين أعربوا فوراً عن إدانتهم للإعلان الأميركي وتأكيدهم أن المستوطنات تناقض القانون الدولي. وأعلنت خمس دول أوروبية أعضاء في مجلس الأمن الدولي بينها ألمانيا الأقرب إلى الكيان أن "المستوطنات في المناطق الفلسطينية المحتلة، وشرقي القدس، غير قانونية حسب القانون الدولي، وتضر باحتمالية حل الدولتين". ومعروف أن أربعة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، جاهرت بمعارضتها للقرار الأميركي وشددت على أن المستوطنات ليس فقط تخالف القانون الدولي، وإنما تشكل أيضاً عقبة أمام السلام وتمنع حل الدولتين.
وليس صدفة أن بومبيو في إعلانه بشأن المستوطنات لم ينس الإشارة إلى اعتراضه على قرار محكمة العدل الأوروبية الذي ألزم دول الاتحاد بقرار وسم بضائع المستوطنات وتمييزها بإشارة على أنها من الأراضي المحتلة. وقد أراد بذلك إعلان تحديه ليس فقط لإدارة أوباما ولا للقانون الدولي، وإنما أيضاً لإرادة من كان يعتبرهم شركاء لـ "منهج الحرية" الذي تعلن أميركا إيمانها به.
عموماً، عملت إسرائيل على مدى سنوات وجودها، بمنطق فرض الوقائع وتكريس الاستيطان متجاهلة القانون والإرادة الدولية. ولكن بعيداً عن ميادين الدبلوماسية والسياسة العالمية، ظل على الأرض واقع لا يمكن إنكاره وهو وجود الفلسطينيين على أرضهم وتمسكهم بها واستعدادتهم العالية للتضحية من أجلها. ورغم تشريد ملايين الفلسطينيين، لا يزال على أرض فلسطين ملايين أخرى تنسف المزاعم "التاريخية" من جهة وتؤكد أن للأرض أصحابها.