تداعيات وأبعاد تتجاوز الجولات السابقة
التاريخ: 
20/11/2019
المؤلف: 

ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن الجولة الأخيرة من الاشتباك بين الجيش الإسرائيلي وحركة الجهاد الإسلامي في غزة تنطوي على اختبارات إقليمية ووطنية فلسطينية مهمة. لا يمكن تجاهل أبعادها وتداعياتها.

قبل عمليتي الاغتيال اللتين بادرت إليهما إسرائيل وأودت بحياة القائد العسكري في سرايا القدس بهاء أبو العطا، وبحياة نجل القائد في الجهاد الاسلامي أكرم العجوري، كانت آلة السياسة والدعاية الإسرائيلية قد شنت حملة مركزة على حركة الجهاد الإسلامي، وتركزت الحملة على شيطنة حركة الجهاد باعتبارها تنفذ أجندة إيرانية وإقليمية، فضلاً عن التركيز على الشهيد بهاء باعتباره إرهابياً متطرفاً ومسؤولاً عن إطلاق الصواريخ على إسرائيل.

في الواقع، كان مسؤولون في حركة الجهاد الإسلامي قد أعلنوا قبل ذلك أن الحركة ستكون جزءًا من معركة تبادر إليها إسرائيل في مواجهة أي طرف من أطراف محور المقاومة والمقصود المحور الإقليمي. جاء ذلك حين أرسلت إسرائيل طائرتين مسيرتين، إحداها تحمل كمية من المتفجرات موجهة نحو الضاحية الجنوبية لبيروت.

من الوا ضح أن أهداف عمليتَي الاغتيال المتزامنتين بحق قياديين في الجهاد الإسلامي في مكانين مختلفين تتجاوز الدوافع الشخصية الخاصة بأزمة الحكم في إسرائيل، وسعي بنيامين نتنياهو لخلط الأوراق والدفع نحو تشكيل حكومة طوارئ برئاسته، وتعطيل فرصة منافسه بيني غانتس لتشكيل حكومة مصغرة بغطاء من الكتلة العربية. أراد نتنياهو أن يجري اختبارات مهمة أولها ما إذا كان أي طرف من أطراف محور المقاومة الإقليمي سيتحرك عملياً لنصرة الجهاد الإسلامي في حين تكون في حالة اشتباك قوي مع العدوان الإسرائيلي. ثانياً، أراد نتنياهو أن يختبر ردود فعل فصائل المقاومة خصوصاً حركة حماس في الاشتباك، وما إذا كانت تبدي اهتماماً إزاء أن تحسب هي الأخرى ضمن الأجندة الإيرانية أم أنها ستكون أمام حسابات أخرى. وأخيراً، أراد نتنياهو أن يختبر قوة الجهاد الإسلامي وجناحها العسكري وأي أسلحة جديدة تحوز عليها، وما إذا كانت قادرة على الاستمرار في المعركة. في واقع الأمر، فإن حركة الجهاد الإسلامي، تحظى بثقة ودعم إيران، أكثر من غيرها من الفصائل الأخرى بما في ذلك حركة حماس، الأمر الذي ينطوي على قدر من المصداقية التي يسعى المغرضون خلقها من أجل تضخيم السؤال حول وطنية هذا الفصيل، وربما خلق أو تظهير التعارض بينها وبين حركة حماس.

لقد بدت العلاقة بين حركتي حماس والجهاد على أفضل ما يرام قبل الجولة الأخيرة من الاشتباك، وحتى لو كانت بعض التعارضات بينهما، فإن الطرفين حرصا على عدم إظهارها، فضلاً عن أن استمرار التوتر بين إسرائيل وقطاع غزة، لم يترك مجالاً لظهور مثل هذه التعارضات.

نضيف إلى ذلك أن الانقسام الفلسطيني الكبير بين حركتي فتح وحماس والضفة وغزة، لا يترك مجالاً لحركة حماس لأن تدخل في خلاف واسع وظاهر مع حركة الجهاد الإسلامي في        ضوء الاستقطابات الجارية، خصوصًا وأن حركة الجهاد لا تنافس حماس على السلطة أو السيطرة. ثمة خصوصية مهمة لحركة الجهاد الإسلامي بأنها فصيل وطني في الأساس، ويقدم تجربة فريدة من بين الحركات الإسلامية، فضلاً عن كونها تنظيماً عسكرياً أساساً، وليس لديه أية تطلعات سلطوية أو حسابات سياسية براغماتية.

هذه الخصوصية، تجعل حركة الجهاد الإسلامي بمنأى عن تفاصيل الحراكات السياسية اليومية والتكتيكية التي تتصل بالشأن الفلسطيني الداخلي، وبمنأى عن التجاذبات والتناقضات بين الفصائل انطلاقاً من تمسكها بالثوابت الوطنية وباستراتجية المقاومة.

والآن ما هي محصلة هذه الاختبارات؟

بينما لم تتأكد إسرائيل من أن حركة الجهاد الإسلامي ستفي بوعدها في حال شنت إسرائيل اعتاءات أو حروبًا في مواجهة حزب الله أو إيران، أو من يحسب عليها في سوريا والعراق، فإن المحصلة في المقابل تشير إلى أن أطراف محور المقاومة الإقليمية، لم تتدخل إلا من خلال البيانات والتصريحات حين تعرضت حركة الجهاد الإسلامي لعدوان إسرائيلي سافر.

هذا يعني أن المعادلة المعروفة منذ زمن لم تتغير؛ فلقد خاض حزب الله مواجهة شرسة مع العدوان الإسرائيلي سنة 2006، وتصدت حركات المقاومة في غزة لثلاث حروب وعديد المعارك مع الاحتلال الإسرائيلي بدون أن يتدخل أي طرف إلى جانب الطرف الآخر.

هذه قضية مهمة جداً في حسابات إسرائيل، لكيفية مواجهة التهديدات التي يشكلها أطراف محور المقاومة الإقليمية، إذ هي لا ترغب في أن تجد نفسها في مواجهة جبهات متعددة، حين تقرر التحرك لمواجهة أياً من تلك التهديدات. بالتأكيد لا ترغب إسرائيل في أن تجد نفسها عرضة لصواريخ المقاومة الفلسطينية إن هي قررت مواجهة التهديد الذي يمثله حزب الله، باعتباره أخطر التهديدات المباشرة على إسرائيل. في النتيجة، تحاول إسرائيل أن تحدد أولوياتها، ومن أين تبدأ في مواجهة الحلقات التي تصدر عنها ومنها التهديدات الاستراتيجية. إزاء الاختبار الثاني الذي يتصل باستعدادات حركة حماس في الأساس للانخراط في الرد إلى جانب سرايا القدس، جاءت النتيجة تشير إلى أن إسرائيل ربحت هذا الرهان على الأقل مؤقتاً.

من الواضح أن حركة الجهاد الإسلامي لم تنتظر التشاور مع حركة حماس أو غيرها، حين قررت الرد وبسرعة وعلى نحوٍ مباشر ومبكر، بعد وقوع عملية الاغتيال. هذا ما اعترف به الأمين العام لحركة الجهاد السيد زياد النخالة مساء اليوم الثاني من الجريمة، وقد بدا وكأنه متفاجئ من سلوك حركة حماس التي اكتفت بإصدار البيانات عن غرفة العمليات المشتركة. سلوك حركة حماس أثار بعض الشكوك لدى قادة الجهاد الاسلامي خصوصاً وأن إسرائيل أعلنت في بداية العدوان أنها لن تتعرض لمواقع حركة حماس في حال امتنعت عن الانخراط في الرد. بدا وكأن حركة حماس استجابت لما أرادته إسرائيل، وأن حساباتها لموضوع السيطرة وأحقية القرار قادتها إلى هذا السلوك. لم يصدر عن حماس أي تفسير لهذا السلوك، الذي أثار الغضب لدى طيف واسع من قواعد وكوادر حركة الجهاد بالإضافة إلى التساؤلات التي يطرحها الشارع الفلسطيني ويتداولها على شبكات التواصل الاجتماعي. ولكن من باب التفسير الذي لا نعرف كم يقترب أو يبتعد عن الحقيقة، فإن سلوك حركة حماس السلبي قد يعود إلى رغبتها في الحفاظ على المعادلة التي تتصل بتفاهمات التهدئة، وعدم إعطاء إسرائيل الذريعة والفرصة لكي تشن حرباً واسعة ضد قطاع غزة. في هذا السياق، وردت تلميحات في خطاب السيد زياد النخالة، تشير إلى اعتراض حركته وتعارضها مع سلوك حركة حماس إزاء الدور والأموال القطرية التي تدخل من خلال مطار بن غوريون. فضلاً عن ذلك، ثمة من يراهن على أن حركة حماس أرادت أن تحصر الاشتباك في حدود حق سرايا القدس في الرد على عمليات الاغتيال، الأمر الذي لا يستدعي تدخلها، وأنها في حال استمر الاشتباك لفترةٍ أطول فإنها كانت ستتدخل وتنخرط بقوة في مواجهة العدوان الإسرائيلي.

قلق وارتباك في إسرائيل وغزة أيضًا:

لم ينجح نتنياهو في أن يوظف جريمته في الاتجاه الذي يوفر له حبل انقاذ، مما ينتظره، سواء ما يتعلق بمستقبله السياسي، أو ما يتعلق بتهم الفساد. فعدا عن الانتقادات الواسعة التي تعرض لها بعد توقف القتال، فإن الجيش الإسرائيلي أبدى استغرابه إزاء الوجهة التي يدفع نتنياهو الأمور إليها، ثم أعلن الجيش الإسرائيلي بعد توقف القتال أنه لن يلتزم بالشروط التي وافق عليها نتنياهو، إزاء وقف الاغتيالات أو سياسة إطلاق النار الحي على المدنيين خلال مسيرات العودة.

إزاء ذلك يعتقد الكثيرون أن الأوضاع ستكون مفتوحة على جولة أخرى قد تكون قريبة، حتى لو أن الهيئة العامة لمسيرات العودة تجنبت توفير فرصة اختبار حين قررت إلغاء الفعاليات على الحدود في الجمعة التي تلت العدوان الإسرائيلي. وفي سلوكٍ نادر اعترف الجيش الإسرائيلي بارتكابه خطأ حين استهدف عائلة السواركة التي شطبت بكاملها من السجل المدني، الأمر الذي دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرتش لأن يطالب إسرائيل بالاستعجال في التحقيق بشأن هذه الجريمة.

على المقلب الآخر، أظهرت سرايا القدس قدرتها على المواجهة، إذ إنها نجحت للمرة الأولى في شل الحياة والحركة في نصف إسرائيل، كما فوجئ بعض المحللين الإسرائيليين بأن السرايا تملك صاروخًا ثقيلاً جديداً.

لقد كرست حركة الجهاد موقعها في المعادلة الفلسطينية، ليس باعتبارها منافساً وإنما باعتبارها عنصراً فاعلاً، يستحق أن يكون شريكاً حقيقياً لحركة حماس في اتخاذ القرار، ذلك أنها تستطيع وقتما تشاء التأثير سلباً أو إيجاباً في حسابات حماس إزاء كل الملفات التي تتصل بغزة والعلاقة مع الاحتلال.

هذا الوضع ألهم قسماً من الجمهور الفلسطيني الذي خرج إلى الشوارع في شمال وجنوب قطاع غزة مطالباً بضرورة الاستمرار بالرد على الاحتلال، كما أظهر بعض كوادر السرايا غضبهم وعدم موافقتهم على وقف إطلاق النار، الأمر الذي ظهر من خلال إطلاق بعض الصواريخ على مستوطنات غلاف غزة بعد سريان وقف إطلاق النار.

في كل الأحوال، انقضت جولة أخرى من جولات العدوان والرد عليها، من دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير في المعادلة الجارية؛ فلا إسرائيل تلتزم بالشروط الميسرة التي طرحتها حركة الجهاد الاسلامي من خلال الوسيط المصري والأممي ولا تتوفر أية ضمانات يمكن أن تلزم إسرائيل بأية تفاهمات واتفاقيات. ما يتبقى يستدعي من فصائل المقاومة تدارك الخلافات التي نشأت، لإفشال ما تسعى إليه إسرائيل من شرذمة العلاقات الفلسطينية أكثر مما تعاني منه.