الشباب الفلسطيني من الحركة إلى الحراك (1908 - 2018)
أحمد جميل عزم
رام الله: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية ـ مسارات، 2019. 174 صفحة.
الشباب عدو الرضا هذا كل ما هنالك
نجيب محفوظ
يمتاز هذا الكتاب بمنهجية جدية في البحث، باعتماده على عمل ميداني إثنوغرافي معمق، قام باحثون ميدانيون خلاله بجمع المادة الأولية الخام من البيئة المحلية بعناية ودقة، إلى جانب الملاحظة، واستخدام مصادر ثانوية وأولية متعددة.
تنبع أهمية الكتاب من أهمية موضوعه، وهو دور الشباب في الحراكات الاجتماعية والسياسية، وتناوله مرحلة تاريخية كبيرة ـ قرن من الزمن ـ بمنظور نقدي وتحليلي كثيف، لكن من دون الغرق في السرد التاريخي الممل.
يتناول الكتاب الحركات الشبابية في تسعة تجمعات يقيم فيها الفلسطينيون وهي: الضفــة الغربيــة والقــدس؛ أراضي 1948؛ قطــاع غــزة؛ الأردن؛ ســورية؛ لبنــان؛ بريطانيا؛ الولايــات المتحــدة الأميركية. وقد أتاح هذا المجهود للباحث تقديم مقارنات للحركات الشبابية الفلسطينية.
يتكون الكتاب من مقدمة وأربعة فصول: في المقدمة يشير عزم إلى أن ظاهرة الحراكات (mobilizations) الشعبية بدأت تظهر بعد الحرب الباردة في مطلع التسعينيات، وأدت إلى سقوط الأنظمة الاشتراكية والشيوعية في المعسكر الاشتراكي السابق، غير أن الانتفاضة الشعبية الفلسطينية في سنة 1987 كان لها السبق والتميز تبعاً لشمولها جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967، ولاستمرارها عدة أعوام، بفعل انتقالها من الحالة العفوية إلى المستوى التنظيمي، وامتلاكها برنامجاً قابلاً للتحقيق.
لكن بعد انتهاء الحرب الباردة، وظفت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الانتفاضة للتوصل إلى حل سياسي (اتفاق أوسلو) تمخّض عنه بناء سلطة استحوذت على التركيز الرسمي (الحكومي) والبيروقراطي كبديل من الفعل الشعبي غير الرسمي.
يحمل الفصل الأول عنوان "إطار نظري ودراسات سابقة" بيّن فيه عزم الفرق بين الحراكات والحركة، فما يميز الحراكات هو أنها تعرف ماذا تريد، وتعرّف نفسها بما لا تريده، وكثيراً ما تفشل في وصف ماذا تريد فعلاً، ومثال لذلك مناهضة العولمة أو مكافحة الفساد.
والحراك لفظة راجت بعد سنة 2011، وعكست نوعاً من النشاط السياسي ضمن حركات احتجاجية تهدف إلى تغيير شيء معين، ولذلك فإن للحراك سمات، منها: إعلان البراءة من الحزبية والفصائلية؛ الانخراط في حراكات احتجاج بشكل مغاير لحركات البناء والتطوير والتغيير؛ رفض القيادة المركزية والانخراط في فعل مباشر كالنزول إلى الشارع بمعزل عن تطوير برامج واعتناق أيديولوجيا؛ سمة عدم الاستمرارية، فأفراد الحراك يسمّون ناشطين بدلاً من أعضاء.
ويستخلص الكاتب، في هذا السياق، مجموعة خصائص أهمها: ضعف دور الأحزاب والفصائل في الشارع؛ الشباب فئة غير متمايزة من شرائح المجتمع؛ المبالغة في دور وسائل التواصل الاجتماعي؛ محدودية الحراكات ومحلّيتها؛ الافتقار إلى البرامج؛ الرمزية والمشهدية.
يقدم الفصل الثاني، وهو بعنوان "بانوراما تاريخية للحركات الشبابية الفلسطينية" مقاربة جنيولوجية للبحث عن أنساب العمل الشبابي الفلسطيني وأصوله في فترة الحكم العثماني مثل جمعية المنتدى الأدبي 1900، وجمعية العلم الأخضر 1912، وغيرهما. ويتطرق الفصل أيضاً إلى مرحلة ما قبل النكبة، ومرحلة ما بعد النكبة حتى هزيمة حزيران / يونيو 1967، ويقول إن العمل الشبابي ترافق مع تأسيس الحركة السياسية الفلسطينية وصعودها، مثل حركة "فتح" والجبهة الشعبية، وإن التشكيل الشبابي ساهم في تحديد الهيئة التنظيمية السياسية للفصائل: فحركة "فتح" تشكلت من مجموعات متنوعة فكرياً وعقائدياً، بينما تبنّت حركة القوميين العرب ثم الجبهة الشعبية، المركزية الديمقراطية والتراتبية الحزبية والفكر القومي، ولاحقاً الفكر الماركسي.
كانت الحركات الشبابية في الخمسينيات بمثابة الحاضنة التي انبثقت منها الحركة الوطنية، وفي مرحلة الستينيات أنتجت الحركة الوطنية أطراً قطاعية وشبابية، بينما شكلت مرحلة الثمانينيات مرحلة حاسمة في تطور العمل الطلابي الشبابي في الأرض المحتلة بدعم من قيادات التنظيمات في الخارج؛ فبعد الخروج من بيروت في سنة 1982 انصبّ التركيز على المقاومة المدنية في داخل فلسطين، في حين شهدت مرحلة أوسلو (1993 ـ 2000) "اللاتسيُّس" للشباب، وتقلص العمل الشعبي والشبابي لمصلحة العمل في بناء السلطة والدولة وأجهزتها. أمّا في مرحلة انتفاضة الأقصى سنة 2000، فانخرط الشباب في العمل العسكري في داخل فلسطين المحتلة للرد على العنف الإسرائيلي، وبرزت جذور مقاومة جديدة ومختلفة تمثلت في حملات التضامن. ومع بدء بناء الجدار العنصري سنة 2002 أُنشئت لجان محلية في القرى التي عبرها الجدار، وأضحت تلك الحملات أطر عمل موقعيه، كما برزت حملات التضامن الدولي. وفي مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية 2005 ـ 2011، بدأ النشاط الشبابي يأخذ طابع التنديد بالانقسام والمنادي بالوحدة الوطنية، وظهرت في تلك الفترة أطر سياسية مهمة هي: حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات عليها (BDS)؛ لجان مناهضة الجدار والاستيطان؛ محاولة مأسسة حركة التضامن الدولي (ISM).
يتناول عزم في الفصل الثالث "الحراكات والمجموعات الشبابية 2011 ـ 2018"، فيقول إن الشباب الفلسطيني تأثر بـ "الربيع العربي"، وانبثقت طاقات شبابية لم تتطور إلى فعل مؤثر، وذلك لعدد من الأسباب منها: التسرع في العمل؛ عدم وجود رؤية واضحة؛ الانقسام بين الشباب والسلطات القائمة (ضفة/ غزة)، وبين الشباب أنفسهم؛ نجاح الثورات المضادة في الدول العربية الأُخرى.
ويرى عزم أن عدم مغادرة عقلية الحراك، وعدم الرغبة ـ أو الفشل ـ في التحول إلى حركة أو تنظيم، ساهم في نشوء ظاهرة جديدة يمكن تصنيفها في مرتبة وسط بين الحراكات والحركة، وقد برزت خلال سنتَي 2013 و2014.
ويبيّن هذا الفصل، بكثير من التفصيل والتحليل، واقع وتحديات وخطأ المجموعات الشبابية في عدد من الجغرافيات الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة؛ القدس؛ أراضي 48؛ الأردن؛ سورية؛ لبنان؛ الولايات المتحدة الأميركية؛ المملكة المتحدة)، ويشير إلى طبيعة تلك المجموعات وتركيباتها، وطبيعة تشكلها وخطاباتها ومطالبها وعلاقاتها بالحراكات الأُخرى، أو بشخصيات فلسطينية مركزية أو غير مركزية.
عنوان الفصل الرابع هو "من الحراك إلى الحركة (خاتمة سياساتية)"، وفيه يبيّن عزم أنماط الحركات الشبابية منذ مطلع القرن الماضي حتى نهاية الحرب الباردة وما بعدها، فيقول إن الحركات في مرحلة ما قبل العصر الشَّبَكي والعولمة والربيع العربي، كانت تتكون من إطار أو شبكة تتحول إلى حزب ويتم الاتصال بالأعضاء فيها بشكل شخصي، وتتميز بنظام عضوية ضمن بنية تنظيمية. أمّا في مرحلة العولمة و"الربيع العربي"، فالأمور كانت مختلفة لجهة رفض الواقع أكثر من تقديم الحركات الشبابية تصوراً تحدد فيه ما تريد، كما كانت تعتمد على الفعل المباشر والتبرؤ من الفصائلية والحزبية، مع خاصية القدرة على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي أضعفت الحاجة إلى التمويل.
ويستنتج عزم أن الحراكات الشبابية في الغالب فشلت في تحقيق أهدافها لعدد من الأسباب، ولا سيما عدم وجود قيادة مركزية.