أفكار بسيطة بشأن معاداة السامية
نبذة مختصرة: 

في معرض التحليل الدقيق للعوامل التي تفسّر ظهور مفهوم "معاداة السامية" بصفته مفهوماً أوروبياً يعني كراهية اليهود، يرى مكسيم رودنسون أن الكفاح العربي ضد الصهيونية لم يلجأ في أغلب الأحيان إلى سلاح الكراهية العرقية والدينية، وإنما تم غالباً توجيه الهجمات ضد المسؤولين المباشرين فقط عن تغريب فلسطين العربية، وتحديداً أعضاء الحركة الصهيونية. غير أنه يحذّر من أن الدعاية الصهيونية تؤدي عملها من خلال تبيان أن معاداة السامية وكراهية اليهود بصورة عامة، هما الحافز وراء جميع المساعي التي يبذلها العرب في مواجهة الصهيونية، مطالباً العرب، ولا سيما الإسلاميين منهم، بأن يدركوا أنهم يساعدون في الواقع الدعاية الصهيوينة في الغرب في كل مرة يدينون عملاً وطرحاً صهيونياً عندما يبدون كأنهم ينسبونه إلى الطبيعة الشريرة المتأصلة في اليهود.

النص الكامل: 

1 ـــ إن مصطلح "معاداة السامية" مصطلح أوروبي حديث[1] يعني كراهية اليهود، والعداء المنهجي تجاههم، ويحمل في حد ذاته تحريفات ذات طابع أيديولوجي. ويشمل هذا المصطلح مفهوماً شاع في القرن التاسع عشر في أوروبا، ويقوم على اعتبار أن البشرية مقسمة إلى "أعراق" متمايزة تماماً ينتمي إليها الأفراد بالولادة، وأن هذه الأعراق تنتمي في جزء كبير منها إلى عائلات لغوية. وكانت كراهية اليهود تُعتبر ناتجاً من صفاتهم العرقية التي يُزعم أنها موروثة، وهي مواصفات كانت تُعتبر إمّا ممقوتة في الواقع، وإمّا أنها بطبيعتها ذاتها تحض الآخرين على الشعور بالكراهية تجاهها. ومن المفترض أن يحمل هذه المواصفات في الأساس أفراد ما يُسمى العرق السامي كلهم، أي ـ عملياً ـ جميع الشعوب التي تتحدث أو كانت تتحدث اللغات السامية، وبالتالي، فإن هذا من المفترض أن يشمل العرب[2] أيضاً، كما أن المسيحية نفسها، بصفتها منبثقة من الديانة اليهودية، وبأن يهوداً جاؤوا بها، كانت تحمل وصمة هذا الأصل السامي.

2 ـ كان مُعادو السامية الأوروبيون مدفوعين في الواقع بكراهيتهم لليهود بصورة خاصة، وأحياناً بكراهيتهم للمؤسسات الكنسية المسيحية، وقلما أثار "الساميون" الآخرون المفترضون اهتمامهم. ومن هنا نفهم بطلان الحجة التي غالباً ما نسمعها في العالم العربي: "لا يمكننا أن نكون معادين للسامية لأننا نحن أنفسنا ساميون"، فتاريخياً، عبّرت كلمتا "معادٍ للسامية" و"معاداة السامية" عن فكرة الكراهية لليهود، ومن الطبيعي أن نجد مثل هذه الكراهية لدى جميع الشعوب، بمَن فيهم العرب.

3 ـ الحقيقة أن الأمر لا يتعلق بأي نوع كان من الكراهية، أو بأي نوع من العداء، ذلك بأن عداء السامية الأوروبي الحديث كان مرتبطاً بمفهوم العرق. واستناداً إليه، فإن اليهود يحملون، منذ الأزل وإلى الأبد، جوهراً شريراً في داخلهم ينتقل مع المورثات مثلما يتم توارث لون الشعر وفئة الدم. ونظراً إلى اتضاح خطأ هذا المفهوم اليوم، فإن كارهي اليهود المعاصرين الذين يواصلون حمل راية عقيدة معاداة السامية، تخلّوا (بصورة عامة) عن ربط هذه المواصفات المزعومة المحملة بالأذى، بالمورثات التي تشكل إرثاً ينتقل بالوراثة منذ العبرانيين القدماء، أو حتى منذ الساميين المزعومين الأوائل، وهم من حيث المبدأ يستطيعون أن يعترفوا بأن هذه السمات ليست أبدية. فعدد معين منهم يرى أن عيش اليهود في الوطن الإسرائيلي الجديد ساهم في زوال كثير من صفاتهم الشريرة على الأقل، وهؤلاء إذاً كارهون لليهود ومحبون للإسرائيليين. ومع ذلك، فإنهم جميعهم يدّعون أن هذه الصفات التصقت باليهود بمقتضى ظروف الأمكنة التي عاشوا فيها على مدى قرون عدة (قد يختلفون بشأن تاريخ البداية)، وأنها تواصل وستواصل الالتصاق بهم فترة طويلة جداً (على الأقل لدى يهود الشتات).

هذا الشكل المعاصر لكراهية اليهود منفصل بصورة عامة عن كراهية اليهود الدينية التي ترى أن ديانة اليهود هي السبب الوحيد لوجود صفات شريرة مفترضة لديهم. واستناداً إلى هذا المفهوم الأخير، فإن اعتناق اليهودي لديانة أُخرى سيغسله تماماً من هذه العيوب فيولد من جديد.

وكما في كثير من أيديولوجيات العداء، فإن مجمل الأفراد والمجموعات التي نصطدم بها يفترض أن يجمعها قدر كبير من الوحدة، ومركز وحيد ينتسب إليه هؤلاء الأفراد وهذه المجموعات. ويمكن أن نتخيل أن هذا المركز هو برنامج استراتيجي، وخطط تكتيكية يتبعها الأفراد والمجموعات بإخلاص، بهدف تحقيق أهداف ممقوتة تتمثل في أغلب الأحيان في الهيمنة المطلقة على سائر البشرية. إنه مركز تآمري خفي.

4 ـ إن مثل هذه الأيديولوجيا الجوهرانية (essentialiste) للعداء بلغت أقصى درجاتها إزاء اليهود، إلاّ إنها ظهرت أيضاً بدرجات أكبر أو أقل في عدد كبير من الحالات الأُخرى. فالنزعة العدائية بين المجموعات البشرية (الإثنية ـ القومية، والدينية الطائفية خاصة) شكّلت بصورة واضحة سمة ثابتة في التاريخ البشري، على الرغم من أن العلاقات بين أي مجموعتين بينها شهدت في الغالب مراحل من العدائية والحياد والصداقة. غير أن أي عداوة، حتى إن استمرت لفترة قصيرة، فإن من شأنها أن تؤدي إلى أيديولوجيا جوهرانية تسبغ على الخصم على الدوام جوهراً شريراً ليست العدائية الراهنة سوى مجرد مظهر من مظاهره. ومن الطبيعي أن تنظر المجموعة التي تصدر هذا الحكم إلى نفسها من منظور أيديولوجيا جوهرانية مماثلة، لكنها هنا تصنف هذه المجموعة على أنها تجسيد لجوهر يتميز بالطيبة والسخاء وجدير بالمديح والثناء، أي أنه باختصار يتحلى بالصفات النبيلة الممكنة كافة. إلى جانب الجوهرانية السلبية التي تميز المجموعات الأُخرى، ولا سيما الخصوم في فترة معينة، هناك بالتالي جوهرانية إيجابية يتعذر بدرجة أو بأُخرى تمييزها من المركزية الإثنية أو العرقية (ethnocentrisme).

تقوم المركزية الإثنية على النظر إلى جميع المجموعات الإثنية ـ القومية الأُخرى من منظور التفوق، وهي ظاهرة عالمية تعود نشأتها إلى بداية ظهور المجتمع البشري. فالاعتقاد بأن مجموعة الفرد (أو جميع المجموعات التي تصنَّف هذه المجموعة ضمنها) هي بمنأى عن المركزية الإثنية، أو عن الرؤية الجوهرانية تجاه نفسها وتجاه الآخرين، يعني منحها ميزة مدهشة متصلة بجوهرها، وهي بالتالي تعبير عن مركزية عرقية جوهرانية.

تعتبر الديانات الكونية نفسها الحامية الحصرية للحقيقة المتعلقة بالدنيا الآخرة، وبالعالم والإنسان، وبالتالي، فإن من الطبيعي أن تقترب رؤيتها من رؤية المركزية الإثنية. ومع ذلك، يمكن لبعض المدارس اللاهوتية (الفقهية) المتقدمة أن يخفف أي شطط في هذا المفهوم بدرجة تزيد أو تقل.

بما أن المجموعات التي تطور أيديولوجيات مركزية عرقية تعتبر أنها تتحلى بجوهر متفوق نوعياً يُفترض ألاّ يولِّد لدى الآخرين سوى الاستحسان والحب، فإن هذه الأيديولوجيات تصنف أي عداوة تجاهها بصفتها نتيجة خبث لا مبرر له من جانب الآخرين، أو غيرة شاملة. وعلى غرار حالة المهووس على مستوى علم النفس الفردي، فإنها تتبنّى موقفاً أقترح تسميته "بانخثريست" (panekhthrist)، من الكلمة اليونانية "إخثروس" (ekhthros) ومعناها عدو. فهذه المجموعة تعتقد أن العالم كله متحد في تحالف خبيث ضدها، وهذا المفهوم شائع على نحو واسع، ويصل إلى مستويات تتسع أو تضيق في تطرفها، ويطغى بطريقة تتفاوت في أمدها وفي درجة عفويتها وفي مستويات التنظير لها.

5 ـ على امتداد الألفيات الثلاث السابقة، أُطلقت تسمية اليهود على أعضاء مجتمعات وتشكيلات ذات طبيعة مختلفة إلى حد ما، لكن يجمع بينها نوع من الاستمرارية (انظر الملحق رقم 2). ويُستخدم المصطلح اليوم في الغرب بصورة طبيعية للدلالة على أحفاد أفراد هذه المجتمعات حتى إن لم يكونوا هم أنفسهم أعضاء فيها، أو حتى على الأعضاء السابقين الذين انفصلوا عنها. أمّا في الشرق المسلم، وعلى العكس من ذلك، فإن اليهود هم أعضاء "مجتمع" يحدده بوضوح إخلاصه المعلن لديانة بعينها، هي اليهودية، ومن غير المهم إن كان الأعضاء الأفراد يشعرون بانتماء تام إلى هذه الديانة، أو بانتماء جزئي، أو بعدم اكتراث تام أو حتى بنفور من هذه الديانة، ما داموا لم ينضموا إلى ديانة أُخرى. هذا هو المفهوم العام للمجتمع الديني (الطائفة الدينية) في هذه البلاد، وذلك لأسباب تاريخية وسوسيولوجية، إذ يُفترض بكل مواطن أن ينتمي إلى مجتمع، أو إلى آخر، بما يشبه الانتماء إلى أمّة ناقصة.

وفي الغالب، فإن المجموعات التي يمكن تسميتها يهودية، مثل كثير غيرها، كثيراً ما كانت هدفاً للعدائية، فعلى امتداد ألفي عام، كانت هذه المجموعات تعيش ضمن مجتمعات تنتمي إلى أيديولوجيات مهيمنة، وكونها تشكل أقليات في داخلها، فإنها تعرضت للازدراء، والتحقير والكراهية، كما تعرضت بشكل متكرر للاضطهاد بدرجات متفاوتة من الوحشية. ولأسباب معقدة، حدث هذا بصورة خاصة في أوروبا المسيحية حيث كانت المجموعات اليهودية هي الطائفة الدينية الوحيدة التي تشكل أقلية صغيرة (جداً)، واتسمت أعمال الاضطهاد تلك في الغالب بوحشيتها، وازدادت فظاعتها عندما بات المجتمع الديني اليهودي في طور التلاشي في أعقاب علمنة الدولة. لقد استهدفت أعمال الاضطهاد حينها، بموجب الأيديولوجيا العنصرية، جميع أولئك المتحدرين من أعضاء ينتمون إلى تلك الطائفة الدينية، ويُفترض أنهم يحملون تلك الموروثات الشريرة التي ميّزت أولئك على ما جرى زعمه.

انصبّت على اليهود جملة من العداوات المتفاوتة في طبيعتها، والموجهة نحو مختلف أنواع المجموعات:

أ) العدائية الدينية التي يُظهرها المسيحيون تجاههم بصفتهم ينتمون إلى ديانة كان عليهم، وفق الفكر المسيحي، أن يعترفوا بها كديانة بالية ومندثرة تماشياً مع كتبهم المقدسة التي تعتبرها المسيحية مقدسة كذلك؛ واستناداً إلى الأيديولوجيا ذاتها، فإنهم يتحملون مسؤولية أساسية في صلب يسوع المسيح، وهو واحد منهم، وكان الأحرى بهم بدلاً من ذلك أن يعترفوا به بصفته المسيح الذي تنبّأ أنبياؤهم بقدومه، وباعتباره ابن الله، وتجسيده على الأرض؛

ب) العدائية العلمانية من طرف كثيرين من معارضي رجال الدين ومعارضي المسيحية من ذوي الانتماء المسيحي في الأصل الذين يعتقدون أن الديانة اليهودية ـ التي يفترض بها أن تعبّر بشكل أو بآخر عن جوهر اليهود ـ هي الجذر الذي نمت منه الصفات الخبيثة (وفق مفهومهم) للمسيحية، أو على الأقل للكنيسة المسيحية كمؤسسة؛[3]

ج) العدائية الاجتماعية من طرف أولئك الذين كانوا يشعرون بالظلم أو بالغبن جرّاء الأنشطة التي اقتصرت ممارستها على اليهود لفترة طويلة بموجب التشريعات المسيحية مثل جبي الضرائب أو الريع العقاري والربا، وغيرها، وهي أنشطة استمر كثيرون منهم في ممارستها ـ أو بالأحرى أولئك منهم الذين كانوا يلفتون الانتباه أكثر من غيرهم ـ نتيجة التقاليد والعادات العائلية حتى بعد إلغاء تلك التشريعات؛ وكذلك عدائية أولئك الذين صُدموا جرّاء تفضيل اليهود أنماط حياة ومِهناً جعلتهم هذه التقاليد (المنبثقة في النهاية من تلك القوانين نفسها) مستعدين لممارستها: العيش في المدن وممارسة مهن فكرية وليبرالية، إلخ.

د) العدائية شبه الإثنية إزاء مجموعات تتبع نمط حياة يومياً مختلفاً جزئياً عن نمط حياة أغلبية الشعوب التي عاشت بينها، فكانت هذه المجموعات بالتالي تبدو غريبة من عدة نواحٍ؛ وهذه الفكرة عززها واقع أن أعمال الاضطهاد دفعت بكثير من اليهود القادمين من بلاد بعيدة ـ في المقام الأول من أوروبا الشرقية ـ إلى المجيء إلى أوروبا الغربية، والذين كانوا فعلياً أجانب بكل معنى الكلمة، على الأقل خلال الأجيال الأولى بعد تاريخ هجرتهم.

6 ـ طوّر اليهود أنفسهم، وبصورة تلقائية، أيديولوجيا مركزية ـ إثنية وعدائية شاملة (panekhthrist) تصور مجموعتهم على أنها متفوقة على الآخرين، وكان هذا هو الوضع عامة. وظلت هذه الأيديولوجيا ولفترة طويلة معتقداً دينياً حصرياً، فوضعت بالتالي سر هذا التفوق في مفهوم ديني هو مفهوم الشعب "المختار"، بمعنى أن الإرادة الإلهية اصطفت هذا الشعب بين كل الشعوب وأودعته الحقيقة العليا. كانت العدائية العامة التي أحاطت بهم تُعتبر بالمثل نتيجة هذا التفوق. أمّا البشر الآخرون، "الأقوام" أو "الأغيار" (غوييم (goyim)، بالعبرية)[4] كما كانوا يسمون تقليدياً، فهم أولئك الذين يشعرون بالغيرة من شعب إسرائيل وما يتمتع به من مزايا؛ لقد أراد الله أن يطهّر شعبه فوضع في طريقه التجارب والمحن، إلخ.

المدهش أن العالم المسيحي نفسه كان يشاركهم هذه المفاهيم بصورة جزئية وفي بعض أوجهها، على الرغم من أنه كان يضطهد اليهود ويعاملهم بدونية. فالفكر المسيحي الديني ظل على امتداد أكثر من ألف عام يعتبر اليهود فعلاً الشعب الذي اختاره الله، والوحيد على الأرض الذي استودعه الوحي.[5] لقد تم تجاوز الوحي بمجيء المسيح إلى الأرض، لكنه يبقى صالحاً في عدة نواح، لأنه يتضمن بصورة خاصة الأدلة على الوحي المسيحي من خلال النبوءات التي كان يفترض أن تبشّر بظهور المسيح. فالشعب اليهودي كان النواة وأول وكيل لنشر المسيحية في العالم، وكان ملوكهم أجداد يسوع المسيح "من لحمه ودمه"، وكانت أمه وكل تلامذته الأوائل يهوداً، وقد تحرك هؤلاء التلاميذ في العالم اليهودي وسعوا قبل كل شيء لإقناع اليهود باعتناق المسيحية باستخدام حجج مستقاة من العقيدة اليهودية. وإذا كانت إرادة الله ألاّ يعتنق الجميع المسيحية، هذه "الهرطقة" التي ظهرت في وسطهم، فلا بد من أن وراء الأمر تدبيراً عميقاً علينا أن نسعى لفهم القصد منه.

من الحجج المسيحية على سبيل المثال، أن اليهود يجب أن يبقوا يهوداً لأنهم من خلال إخلاصهم لكتبهم المقدسة التي حكمت عليهم، وفق الفكر المسيحي، برفض يسوع المسيح، إنما شهدوا إلى حد كبير على حقيقة أسفار المسيحيين تلك. لقد أعيد تفسير نصوص هذه الكتب المقدسة ـ التوراه ـ والتي كان يفترض في الأصل أن تبشّر اليهود بالنصر النهائي على أعدائهم، وبأن أولئك الذين أخرجهم أعداؤهم من بلدهم الأصلي (وخصوصاً في القرن السادس قبل الميلاد) سيعودون إليه، فاستُنتج منها أن نهاية الزمان، أو "يوم الدين" (يوم القيامة) سيبدأ مع "عودة" اليهود إلى فلسطين، وتحوّلهم عن دينهم إلى المسيحية.

إلى جانب الأفكار النمطية الكارِهة، وبشكل متداخل جزئياً معها، كان هناك أفكار نمطية تنسب إلى اليهود مزايا عظيمة، وقد انتشرت هذه الأفكار النمطية بصورة خاصة في العالم البروتستانتي بدءاً من القرن السادس عشر نظراً إلى الأولوية التي توليها البروتستانتية للكتاب المقدس. في الإطار الشامل لهذا الكتاب المقدس، نرى أن كثيراً من المجتمعات البروتستانتية كان أكثر تعلقاً بالعهد القديم منه بالعهد الجديد، لأن أسفار العهد القديم تتحدث في الغالب عن الظروف الملموسة والمشابهة لتلك التي عاشتها تلك المجتمعات.

تحولت المركزية الإثنية والعدائية الشاملة اليهودية إلى العلمانية في حقبة تحرير اليهود في أوروبا (في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر)، وذلك بتحفيز إضافي من أصداء تلك الأفكار النمطية المسيحية التي عزت "مزايا" إلى اليهود. وبينما كانت المجموعات المؤسساتية التي تعلن نفسها يهودية تشهد اضمحلالاً مطرداً على امتداد فترة بأكملها، في أوروبا الغربية، استمر ازدهار الأفكار الخرافية في الغالب والمتعلقة باليهود، وقد ساهمت هذه الأفكار لدى العديد من أبناء أفراد تلك المجتمعات اليهودية في تكريس شعورهم بأنهم ينتمون بطريقة ما إلى هذا الأصل اليهودي وجعلهم ذلك يشعرون بالفخر. وعندما برزت مجدداً في ثمانينيات القرن التاسع عشر التهجمات الشفهية والتخويف والاضطهاد، وعندما، بعد فترة طويلة من الهدوء النسبي، عادت إلى الظهور، لكن بصورة أشد في ثلاثينيات القرن العشرين، وبلوغها ذروة وحشيتها خلال الفترة 1939 – 1945، لم يسع ذلك إلاّ أن يقنع عدداً كبيراً من "اليهود" (بكل ما لهذه الكلمة من معنى) بأن العالم كان على الدوام، وما زال، وسيبقى متألّباً عليهم، وأن الرد الوحيد الصحيح هو في التضامن والدفاع عن النفس، والانكفاء ضمن تشكيل متجانس يملك وسائل الدفاع عن النفس كلها، وربما الهجوم أيضاً. لقد كان من المحتم والحال كذلك أن يكتسب النداء الصهيوني لحشد اليهود وتشكيل أمة حقيقية (ما دام الآخرون يعاملون اليهود على أي حال على أنهم أمة) لديها أيديولوجيا وطنية خاصة بها ودولة، تأييداً متزايداً. وبسبب المركزية الإثنية الأوروبية التي كان معظم اليهود الصهيونيين منها، فإن موضعة هذه الدولة في فلسطين العربية لم يكن ليُقلق بأي حال أولئك المؤيدين لمثل هذا الخيار، وفق ما شرحتُ في موضع آخر.

مفهوم العدائية الشاملة والمركزية الإثنية يعزز أحدهما الآخر، فالمركزية الإثنية تولِّد شعوراً عارماً بالرضا، وتنسب إلى الشعب الذي ينتمي إليه الفرد قيمة أكبر مقارنة بالآخرين. وفي سياق الأيديولوجيا الدينية، فإن من السهل أن يُعلَن أن شعباً ما هو "المختار" ما دام الأمر لا يتطلب سوى الاتكال على الإرادة العليا لإله أو لله، لأنه من الصعب جداً إيجاد حجج علمانية تبرر مثل هذا التفوق المزعوم. إلاّ إن هذا الأمر ليس بالعقبة التي يمكن أن تصمد أمام براعة الفكر الأيديولوجي، لكن المجال لا يتسع هنا لتقديم عرض تحليلي لمختلف التراكيب الخيالية التي تم اللجوء إليها، فأصحاب الأذهان الفلسفية ـ ولا أتحدث عن الفلاسفة الحقيقيين ـ تمايزوا بفضل مجانية الأفكار المجردة التي يتيحها التأمل في الفراغ. وفي أي حال، اكتُشف تفوق اليهود في مجالات متنوعة وبطرق متعددة وفي نواحٍ متناقضة، وهذا التفوق كان هو الدافع المفترض وراء الاضطهاد.

يجب التأكيد أن هذه الخرافات عززها اقتباس قدر كبير منها من ترسانة الفكر المسيحي، وقد أشرت آنفاً، وبسرعة، إلى المفاهيم المسيحية عن اليهودية واليهود، التي يمكن استخدامها لتبرير موقف عدائي من اليهود، والتي جرى توجيهها على امتداد فترة تاريخية طويلة بصورة عامة في هذا الاتجاه. لكن يمكن أيضاً أن نستخلص منها استنتاجات مؤيدة لليهود ولليهودية، وبعض هذه الحجج المسيحية كان قابلاً لأن يستخدمه اليهود، وهذا ما حدث.

7 ـ يفسر تضافر هذه العوامل كلها ظهور مفهوم أسطوري الطابع للمشاعر المعادية لليهودية، والتي جُمعت كلها تحت مصطلح معاداة السامية (المستعار هو نفسه من أعداء الساميين). بناء على هذا المفهوم، ولسبب أو لآخر (تظهر هنا تفاوتات تبعاً للتوجهات السياسية والفلسفية)، فإن اليهود كانوا ولا يزالون وسيبقون موضوعاً للكراهية يشرّفهم ويزيد من إعلاء شأنهم. ويُرفض جملة وتفصيلاً أي تلميح بأن أسباب هذه العدائية، أو بالأحرى هذه العدائيات، يمكن أن تكون عائدة إلى الظروف الملموسة التي شكلت العلاقات بين اليهود وغير اليهود، كما يُرفض كل ما يشير إلى أن بعض المجتمعات لم ولن يعرف هذه الكراهية، وأن فترات تاريخية خلت منها (وتتم إدانة ذلك غالباً بصفته هو نفسه نتيجة "معاداة السامية").[6] هناك ميل إلى تضمين مفهوم معاداة السامية جميع مظاهر العدائية أياً تكن درجة حدّتها، تجاه مجموعة يهودية ما، أو حتى تجاه أي فرد يهودي، فيتم أحياناً تضخيم ملاحظات لا يُقصد بها أي سوء، أو تعليقات ساخرة، واعتبارها دلالات على العدائية. ويُرفض بصورة خاصة أي تلميح إلى أن مظاهر العدائية هذه يمكن أن تكون من النوع نفسه لتلك التي توجَّه ضد شعوب أُخرى، أو مجموعات بشرية أُخرى. عدا ذلك، يتم التعبير عن السخط لمجرد طرح فكرة وجود ظواهر مماثلة تماماً لدى اليهود أنفسهم موجهة ضد شعوب أُخرى أو مجموعات أُخرى.[7] من هنا يمكن فهم لماذا يشعر معظم اليهود، وكذلك المسيحيون وغيرهم ممن روّعتهم جرائم كراهية اليهود النازية، بدرجات مختلفة من الذنب لعدم الرد بصورة كافية ضدها، ولجهلهم بالظروف الحقيقية للاستعمار الصهيوني في فلسطين، ولأنهم رأوا في ردات فعل العرب على هذا الاستعمار مجرد تعبيرات جديدة لمعاداة السامية السائدة منذ القدم. إن أي محاولة لشرح ردات فعل العرب هذه على أنها نتيجة إجحاف حقيقي يمارَس ضد العرب من طرف بعض اليهود (الذين كانوا يزعمون تمثيل جميع اليهود)، كانت تؤخذ على أنها تعبير عن معاداة السامية حتى عندما تصدر عن أشخاص ـ مثل كاتب هذه السطور ـ كان موجِّهو الاتهامات أنفسهم يعتبرونهم يهوداً. وكان يكفي بالتالي حينها استخدام مفهوم "كراهية الذات" (Selbsthass بالألمانية، وself-hate بالإنجليزية) ليتحول الأمر إلى ظاهرة مَرَضية تحتاج إلى تحليل نفسي.

8 ـ يجب رفض هذا المفهوم الخرافي لمعاداة السامية، لأن العداء لليهود الذي ينسب في أكثر تجلياته تطرفاً جوهراً شريراً إلى هؤلاء البشر لا ينجم عن عوامل أسطورية، أو عن إرادة إلهية، كما أنه لا يتأتى من ردة الفعل على جوهر يهودي شرير في الواقع لأنه لا يوجد لدى أي شعب جوهر ثابت أكان طيباً أم شريراً، فضلاً عن أن كثيرين من اليهود، وكثيراً من المجتمعات اليهودية في الماضي والحاضر على حد سواء، برهنوا عن تحلّيهم بصفات أخلاقية لا ريب فيها، بل مثالية أحياناً. ولا ينشأ هذا العداء كردة فعل على جوهر يهودي يُزعم أنه كان على الدوام جوهراً طيباً، أو على الزعم أن اليهود كانوا ولا يزالون المدافعين عن الحقائق النبيلة ويثيرون بالتالي غيرة وحقد الآخرين، لأن اليهود في الحقيقة، لم يخلوا من العيوب، وارتكبوا أيضاً ممارسات تستحق الإدانة، وتلفظوا كذلك بتصريحات مثيرة للجدل. إن هذه العدائية تتأتى من عوامل متضافرة لها مبرراتها التاريخية والاجتماعية، وهي عوامل يمكن ملاحظتها في أي مكان في العلاقات بين المجموعات البشرية، ولا سيما في التشكيلات ذات النمط الإثني ـ القومي، أو بين المجموعات الدينية، لكن في هذه الحالة، تضافرت هذه العوامل بأشكالها الأكثر شراسة بحيث تجاوزت ضراوتها، نظراً إلى امتدادها زمنياً وكثافتها، ما شهدناه في أماكن أُخرى.

الفكرة التي عبّرتُ عنها في الفقرة السابقة غير مقبولة اليوم في العالم الأوروبي، والعالم اليهودي بصورة خاصة، إلاّ بقدر ضئيل، وقد حاججتُ كثيراً دفاعاً عنها في أوقات لم تكن تحظى بالتأييد (ولا تزال كذلك)، وواجهتُ في إثر ذلك، وعلى مدى أعوام، صعوبات جمّة، وشتى أنواع سوء الفهم، بما في ذلك من أصدقائي، وأشكالاً عنيفة من الكراهية.

في المقابل، يمكن أن يوافق العرب بسهولة على رفض المفهوم الخرافي لمعاداة السامية، على الأقل فيما يتعلق برفض صورة اليهود بصفتهم في الأساس ومنذ الأزل ضحايا، ولا يمكنهم أن يكونوا سوى ضحايا، وأنا هنا أجازف بنيل كثير من الاستحسان من جانب هذا الطرف. وبما أن هذه المقالة سيقرأها عدد ممّن يميلون إلى إبداء استحسانهم، لهذا السبب، فإنني أرغب فوراً في توضيح بعض النقاط، حتى إن كان هذا سيقلل من تصفيقهم لي، أو حتى يدفعهم إلى إطلاق صيحات الاستهجان.

لم آخذ على عاتقي الخوض في هذا الجدال ومواجهة أوضاع صعبة من أجل تمجيد العرب أو غيرهم، ولم أتحمل تلك المشقة كلها لأبرهن أن اليهود ليسوا شعباً مقدساً بهدف إعلان أن العرب شعب مقدس، لأنه لا يوجد شعب مقدس، ولا يوجد شعب طيب أو شرير في جوهره ومنذ الأزل، كما لا يوجد شعب مكتوب عليه أن يكون ضحية إلى الأبد. فالشعوب كلها تبادلت أدوار الضحية والجلاد، وكلها كان بينها ضحايا وجلادون.

أنا لا أسعى لنيل استحسان مَن يقولون: "أحسنتَ لشجاعتك في فضح المظالم والنفاق اللذين يمارسهما أولئك الذين يمكن اعتبارهم من جماعتك. أمّا فيما يتعلق بنا، فنحن لا نرى لدينا إلاّ الفضيلة والشهامة والحقيقة، لكن لا تعتمد علينا وخصوصاً في فضح الظلم والأخطاء والنفاق الذي يمارسه أفراد منا!" ومثلما قال مجنون الحكاية الطريفة المعروفة "ذاك المجنون يظن أنه نابليون. لقد جُن تماماً لأنني أنا نابليون!". قبل نحو عشرين قرناً، تحدث يهودي فلسطيني آنذاك عن أولئك الذين يرون القشة في عين جارهم، ولا يرون الخشبة التي في عينهم، وسواء تعلق الأمر بقشّتين أو بخشبتين، فإن التعامي تجاه الذات يبقى أحد ثوابت النفس البشرية التي تستخدمها وتستغلها وتضخّمها أيديولوجيات الكفاح.

أحرص هنا إذاً على تأكيد بعض النقاط المهمة:

أ) إن نفي أن تكون العدائية التي تعرّض لها اليهود متأتية من عامل جوهري، ومن صفة الضحايا التي تلازمهم منذ الأزل، لا يعني إنكار حقيقة أو كثافة العداوات التي أُطلق لها العنان ضد مجتمعات يهودية كبيرة في الماضي والحاضر. ومن المفهوم من الناحية النفسية أن السخط الناجم عن مزج الكراهية لليهود بالخرافات والأساطير، وعن الطريقة التي تم بها استغلالها، وعن الاستنتاج العبثي المستخلص منها بأن جميع اليهود منزهون عن ارتكاب أعمال شريرة أو عن التفكير بخبث، يدفع كثيرين في المعسكر الآخر، إلى إنكار أو التقليل من شأن المظالم التي تعرّض لها اليهود، لكن كون هذا الأمر مفهوماً لا يقلل من غبائه.

لقد عانت المجتمعات اليهودية جرّاء الاضطهاد خلال فترات تاريخية متنوعة، وغالباً جرّاء المجازر. والمجزرة الجماعية التي ارتُكبت خلال الفترة 1939 – 1945 في ألمانيا، وفي البلاد التي احتلها الألمان، كانت فادحة ووحشية، وقضى فيها الملايين. لا يوجد أي سبب يصلح لإنكار حقيقة هذه المجزرة وحجمها (حتى إن كان يمكن أن نناقش دقة الأعداد، أو تفصيلات تتعلق بعملية الإبادة)، بحجة أن كثيرين من اليهود أو من المجتمعات اليهودية استخلصت منها نتائج تعسفية.

كل عملية إنكار، سواء عبّر عنها مَن يجاهرون بعدائهم للسامية، أو يتكتمون على ذلك، أو يظهرون التأييد للعرب، والذين يعتقدون أنهم إنما بذلك يساعدون في محاربة الصهيونية، أو من اليساريين الذين ولأنهم يعتبرون الأنظمة الرأسمالية أو الاستعمارية مجرمة، يريدون أن تكون هذه الأنظمة هي الوحيدة المجرمة، هذه الإنكارات كلها تصطدم بوقائع مثبتة قاسى كثيرون، وبينهم كاتب هذه السطور، من وحشيتها، وكذلك الملايين من الشهود الذين كُتبت لهم النجاة، وبيّنت معايير البحث التاريخي بطلانها.[8]

ب) خلافاً لما يُكتب ويُقال في الأوساط العربية والمسلمة، فإن الأوضاع التي عاشها اليهود في العالم الإسلامي لم تكن مثالية. صحيح تماماً أن الدعاية الصهيونية بالغت إلى حد كبير في تصوير الجوانب السيئة لوضع اليهود في البلاد المسلمة، وصحيح تماماً أنها استخلصت منها نتائج وُظّفت توظيفاً سيئاً، وصحيح أنه، من منظور شامل وعلى مدى 15 قرناً، كان وضع اليهود في البلاد الإسلامية أفضل منه في البلاد المسيحية، إلاّ إن هذا لا يعني أن وضع "أهل الذمة" الذي سرى على اليهود وعلى المسيحيين لم يضعهم في مرتبة دنيا، ولم يجعلهم غير متساويين... وهو أمر كان من جهة ثانية طبيعياً في تلك الحقبة. كان هناك تسامح مع اليهودية والمسيحية اللتين حظيتا بـ "الحماية" بمعنى ما، نظراً إلى منحهما وضعاً خاصاً، لكن يبقى أن أتباعهما كانوا أعداء الدين الحنيف، وكانوا محط ازدراء وانتقاص ويُنظر إليهم باعتبارهم مثيرين للريبة. وفي حالة اليهود، يمكن إيجاد سند لهذا الاحتقار في عدة آيات قرآنية تعود إلى الفترة التي كانت فيها القبائل اليهودية في المدينة معادية للرسول محمد، وهي آيات يمكنها أن تمحو بسهولة الموقف المتسامح من اليهود والمسيحيين على حد سواء الوارد في آيات أُخرى سابقة عليها. ولا يزال علم النفس الجماعي بأكمله [في الشرق الأوسط] يحمل بصمة أحكام حقبة القرون الوسطى التي استمرت الظروف المتصلة بها لفترة طويلة في بعض المناطق. ففي القرون الوسطى، كان مسيحيو البلاد المسلمة يُعتبرون على صلة بأتباع ديانتهم الأقوياء في أوروبا، والذين كانوا عامة في حالة حرب مع العالم المسلم، ونتج من ذلك كثير من العداء، وكذلك نوع من التقدير. أمّا اليهود، فكانوا على العكس من ذلك، مثل الزرادشتيين والمجوس، يُعتبرون أعداء من الداخل، ماكرين وخبثاء يسعون في السر للنيل من الدين الحق، وكان من السهل الاعتقاد أنهم، ونظراً إلى خضوعهم لهيمنة المسلمين في غياب أي أمل بالثأر، كانوا يسعون بجميع الوسائل للانتقام سراً من هذا الخضوع. وهذه النظرة إلى اليهود والمسيحيين أججت غضب الجماهير المسلمة تجاه هذه الأقليات التي كانت تتمتع بحظوة لدى الأمراء نظراً إلى أنها أكثر استعداداً لأن تضع نفسها تحت رحمتهم في غياب حماية يوفرها لها المجتمع ككل. وهكذا نجحوا [اليهود والمسيحيين] في تبوّؤ مراكز في السلطة، وفي جمع الثروة، وهو ما كان يصعب على جموع المؤمنين الحقيقيين [المسلمون] أن تغفره لهم: إنها ردة فعل "البيض الفقراء" إن صح التعبير، أو الجماهير التي تعتبر نفسها الأَولى شرعياً بعطايا الدولة، والتي تشعر بالسخط جرّاء المزايا التي يحصل عليها متطفلون يتم التسامح معهم وعليهم على الأقل ألاّ يتصرفوا بوقاحة. كان الأمراء يستسلمون أحياناً لهذا الغضب الشعبي فيسمحون للحشود بالانتقام بصورة عابرة، وكان يجري في الغرب المسيحي عمليات مماثلة استهدفت اليهود فقط، كونهم الأقلية الوحيدة غير المسيحية المتسامح معها.

يمكن بالتالي أن نجد في الثقافة الإسلامية أمثلة عديدة للارتياب والافتراء وتحقير اليهود، ولا سيما على المستوى الشعبي، وهناك أمثلة شعبية عديدة تشهد على ذلك، فقد اتُهم اليهود على سبيل المثال بالتضحية بالنفس البشرية[9] في قصص "ألف ليلة وليلة" (اتُهم بالمثل المسيحيون والمجوس). وغالباً ما تُرجَع أصول المذاهب المسلمة التي تعتبر الأغلبية "المتشددة" أنها تسعى لتقويض الإسلام من الداخل إلى يهود اعتنقوا الإسلام، وليست الحركات الشيعية الراديكالية في صدر الإسلام وفيما بعد الفاطمية الإسماعيلية،[10] سوى مثالَين لذلك. كان يُفرض على اليهود في مختلف البلاد المسلمة إلصاق شارات تحقيرية تميزهم وتوكل إليهم الأشغال الأكثر صعوبة والأكثر إثارة للاشمئزاز.

هذه الظواهر كلها تجد تفسيراً تاماً لها في الظروف الاجتماعية والتاريخية لتلك الفترة. وما من سبب للتعامل معها بصفتها جرائم توصم الإسلام، أي العرب، أو كلاهما، مثلما يفعل الصهيونيون وأصدقاؤهم في أغلب الأحيان، وهو أمر يكشف عن نهج مخالف للوقائع التاريخية سينتهي عملياً إلى اعتبار جميع البشر في الماضي، حتى الأكثر روعة بينهم، مجرمين بدءاً بالمفكرين اليونان القدماء المؤيدين للعبودية. لكن لا يوجد أيضاً أي سبب لإنكار هذه الوقائع مثلما يفعل في الغالب المنظّرون العرب والمسلمون؛ فهم عندما يرسمون لوحة مثالية مبالغاً بها للمجتمع المسلم في العصور الوسطى الذي ينعم بالعدل والإحسان والوئام ـ خلافاً لشهادات ملايين المراجع العربية ـ إنما يثيرون ارتياب غير المسلمين الذين سيراودهم الشك في أن الوضع كان أسوأ ممّا يوصف. وبذلك ينتهي بهم الأمر، مثل كثير من مروجي الدعاية، إلى الحصول على نتيجة هي تماماً عكس ما كانوا يصبون إليه.

كان من المحتم أن يترك هذا كله تأثيراً في النفسية الجماعية، لكن يجب هنا التأكيد أن إرث الماضي ذاك كان في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في طور الزوال، ولا سيما في دول الشرق الأوسط. غير أن أحكام الماضي انتعشت على نحو ما بتأثير من معاداة السامية الأوروبية، هنا وهناك، والصهيونية بصورة خاصة هي التي أشعلت الجمر الكامن تحت الرماد. وما كان يمكن أن تجري الأمور بشكل مغاير لأن مجموعة من اليهود الذين رفعوا صوتهم زاعمين أنهم الممثلون الحقيقيون والوحيدون لليهود، جاءت تطالب بأرض عربية بلا جدال، وأعلنت إرادتها انتزاعها من العالم العربي وإقامة دولة أجنبية عليها. وما كان يمكن لذلك سوى أن يستفحل عندما حققت هذه الجماعة من اليهود مخططاتها باستخدام القوة، وبمساعدة القوى العظمى في العالم المسيحي.

إن الكفاح العربي ضد الصهيونية، على غرار النضالات الأيديولوجية كلها، يوظف جميع الوسائل المتاحة، لكن الجيد جداً في الأمر هو أن هذا الصراع الأيديولوجي لم يلجأ في أغلب الأحيان إلى سلاح الكراهية العرقية والدينية، إذ جرى غالباً توجيه الهجمات ضد المسؤولين المباشرين فقط عن تغريب فلسطين العربية، وتحديداً أعضاء الحركة الصهيونية.

غير أنه كان من المحتم أن يستعيد أولئك العرب الأكثر تأثراً بالتوجه الديني الإسلامي في خضم الحماسة للنضال الأيديولوجي ضد الصهيونية، الأحكام المسبقة القديمة ذات الصبغة الدينية أو الشعبية ضد اليهود عامة. وكان من المحتم أن يربط بعضُ المنظمات الإسلامية الأصولية، الصهيونيةَ بصفات الشر العامة المفترضة لدى اليهود واليهودية، وأن تستعيد الجماهير المسلمة التي تم تحشيدها في مواجهة الصهيونية، المخزون الثقافي الشعبي المتعلق باليهود، وتجعله جزءاً من هذا الكفاح.

إنني أستعيد كل هذا من باب التحذير، ذلك بأن الدعاية الصهيونية تؤدي عملها من خلال تبيان أن معاداة السامية، وكراهية اليهود عامة، هي الحافز وراء جميع المساعي التي يبذلها العرب وغيرهم في مواجهة الصهيونية. فالدعاية الصهيونية، في الوقت الحالي على الأقل، تدرك تماماً أن معاداة السامية تثير كثيراً من الاشمئزاز والنفور لدى أغلبية الرأي العام الأوروبي والأميركي، ويكفي اتهام أي تصريح أو عمل بأنه معاد للسامية لتأليب هذا الرأي العام ضده.

على العرب وبعض من أصدقائهم أن يدركوا أنهم يساعدون في الواقع الدعاية الصهيونية المعادية للعرب في كل مرة يدينون فيها عملاً أو طرحاً صهيونياً عندما ينسبونه، أو يبدون كأنهم ينسبونه، إلى الشر المتأصل في الشعب اليهودي، وعبر السعي لمقارنته بأحداث مماثلة في التاريخ اليهودي، أو القول إن اليهود استحقوا الاضطهاد الذي مورس بحقهم، أو أن هذا الاضطهاد لم يحدث، أو التقليل من حجمه.

ولا يساعد بتاتاً القول، قبل أو بعد طرح مثل هذه الأفكار: "نحن لسنا معادين للسامية، وإن العرب لم يكونوا قط، ولن يكونوا يوماً معادين للسامية." فكم قابلت من الأشخاص الذين أكدوا في البدء ثقتهم بمثل هذه التصريحات، ثم سمعوا لاحقاً في الأوساط العربية تعليقات انتقادية وساخرة وعدائية وحقودة ومهينة أو افترائية بحق اليهود عامة. لقد استخلصوا أن الدعاية العربية ضللتهم، وأن الصهيونيين كانوا على حق في نهاية الأمر، جزئياً على الأقل، عندما قالوا إن معاداة السامية تقف في النهاية خلف هذه الدعاية. وارتأوا أن البؤر الصهيونية التي تراسل بالبريد أعداداً كبيرة من الأشخاص، أو تبيع ترجمة المنشورات المعادية لليهود التي يتم توزيعها في البلاد العربية،[11] تكشف بذلك عمّا يجري في الواقع. وفي كل مرة تنشر دول عربية "بروتوكولات حكماء صهيون" على سبيل المثال، والتي يُعرف تماماً في أوروبا وأميركا[12] أنها من تزوير الشرطة السرية في روسيا القيصرية، وفي كل مرة يأخذ مؤلفون عرب على عاتقهم ترويج مثل هذه الأعمال المزورة، فإنهم إنما يصبّون الماء في طاحونة الدعاية الصهيونية التي تتلقفها وتسارع إلى تسليط الضوء عليها كلها. يكمن السؤال فيما إذا كان العرب راغبين في مواصلة تقديم هذه المساعدة الثمينة للصهيونية.

ج) من المفهوم أن يشعر العرب بالسخط جرّاء حجم تضامن يهود العالم مع إسرائيل، وهذا ظاهرة مؤسفة، لكنه في الوقت نفسه محتوم على نحو ما. يجهل السواد الأعظم من اليهود تفصيلات الاستعمار الصهيوني في فلسطين (لكن كم من العرب أو غيرهم لديهم اطلاع جيد على ذلك؟)، ويحمل معظمهم الذكريات المؤلمة للاضطهادات التي تعرضوا لها في الماضي، ويصدقون ما تروجه الدعاية الصهيونية من أن إقامة دولة يهودية ستضمن عدم تكرارها، ويبدون ارتياباً إزاء أي هجوم على اليهود. ردات الفعل هذه يمكن أن تصدر عن أي شعب لديه حد أدنى من السمات المشتركة. وقريباً ممّا قاله إيليا أرنبورغ، فإن ديكتاتوراً ما، إذا قرر اضطهاد أصحاب الشعر الأحمر، فستنشأ حركة تضامن بين كل مَن لديهم شعر أحمر. وأود أن أضيف: إنهم سيرتابون وسيعتبرون أي طرح انتقادي لأصحاب الشعر الأحمر أو حتى لأي رجل أصهب أو امرأة صهباء، تلفيقاً.

وإذا كنا نفهم سخط العرب إزاء مثل هذه الظاهرة، والذي قد تتراجع حدّته في حال كانت الظروف ملائمة، فإن عليهم أن يفهموا أن أي طرح يستهدف اليهود عامة سيؤدي إلى عكس غايته، بل سيعزز هذا التضامن. إذ كيف يمكن لأي يهودي ـ بمعنى واحد من المعاني العديدة للكلمة ـ أن يقف متفرجاً أمام تأكيدات عربية تتعلق بالطبيعة الشريرة لكل اليهود؟ كيف لا يدفعه هذا إلى أن يعطي أذناً صاغية أكثر تجاوباً مع الطروحات الصهيونية؟

لدينا هنا أيضاً، وللأسف، ظاهرة محتومة إلى حد ما. فالمجتمع الشرق الأوسطي، وخلافاً لكثير من المجتمعات الأوروبية، ولا سيما الفرنسية منها، هو مجتمع تؤثر فيه الطوائف الدينية في المؤسسات السياسية (institutionnellement multiconfessionnelle). فالنكات والسخرية والملاحظات المتهكمة والبذيئة بدرجات متفاوتة، والتي تستهدف أفراداً من ديانات أُخرى، رائجة فيه منذ قرون، وبالكاد مَن يعيرها اهتماماً اليوم، ولا يظهر أثرها المؤذي إلاّ في بعض الحالات. أمّا في أوروبا، فهي تبدو خبيثة في حد ذاتها،[13] ورواجها الحالي يزيد من الحاجة إلى عدم مفاقمة انطباع سيىء أصلاً بنشر عبارات وكتابات كارهة فعلياً لليهود، حتى إن كان كاتبوها يدّعون العكس.

الملاحق

I

الترجمات الشرقية لكلمة "معاداة السامية" (antisémitisme)

"معاداة السامية" إذاً مصطلح أوروبي حديث. وكان على الشعوب غير الأوروبية أن تجد كلمات للتعبير عن هذا المفهوم الذي أدى دوراً مهماً في السياسة الأوروبية، أكانت هذه الشعوب تكنّ الكراهية لليهود أم لا، وحتى إن كانت لا تعرف مَن هم اليهود. وتماشياً مع الممارسات الاعتيادية للاستعارات اللغوية، تبنّت هذه الشعوب الكلمة الأوروبية نفسها، أو أحد أشكالها، وكيّفتها في النهاية مع اللفظ الملائم محلياً (مثلما حدث مع الكلمة الروسية antisemitizm التي ظلت على حالها كما في الفرنسية، أو اليونانية الحديثة antisêmitismos)، أو من خلال ترجمتها.

كشفت العملية الأخيرة نفسها عن انعطافات (تغيرات) أيديولوجية، وهي متغيِّر اعتمدتها اللغة في تاريخ يصعب تحديده من دون الخوض في بحث معمق وشائك. ففي العربية على سبيل المثال، تُرجمت كلمة معاداة السامية إلى "اللاسامية" التي تعني حرفياً "غير سامية". إنها ترجمة غريبة وغير متقنة، وسيكون من المفيد معرفة مَن هو أول مَن اقترحها، وما كان يجول في خاطره.[14] ربما فهم صاحب هذه الكلمة المستحدثة معاداة السامية الأوروبية بصفتها مطالبة باستبعاد "الساميين" (بمعنى اليهود) من المناصب الاجتماعية المهمة، أو من المجتمع ككل. كان هذا هو المقصود، لكن جزئياً. وربما استوحى ذلك من خلال "نسخ" صيغ موازية مثل "لا ديموقراطية" و"لا طائفية" وتعني "غير ديموقراطية" و"غير طائفية"، في حين أنها تعني في الواقع "مناهضة للديمقراطية" و"مناهضة للطائفية".[15] على أي حال، هذا هو المصطلح الوحيد المستخدم حالياً بالعربية، وكما بالنسبة إلى كلمة "antisémitisme" في أوروبا، فإن أصلها اللغوي الظاهر يؤثر في الفكرة التي كوّنها المتحدثون بالعربية عن المفهوم.

في موازاة ذلك، تُرجمت الكلمات الأوروبية إلى العبرية بطريقة ملفتة أيديولوجياً، إذ إن القواميس العبرية الحديثة غالباً ما تعتمد في الواقع على تكييف بسيط للعبارة. ففي حالة النعت "antisémite"، أُلصقت اللاحقة (suffixe) "ï" على الكلمة الأوروبية فأصبحت "أنتيشيمي" (antïshémï)، وفي الاسم "antisemitisme" زيدت لاحقة المعنى لتصبح "أنتيشيميوت" (antishémiyyût). لكن كان لدينا حتى قبل إقامة دولة إسرائيل[16] كلمات مثلsonêh Yisraêl و sin'at Yisraêl ومعناها على التوالي "عدو إسرائيل" و"كراهية إسرائيل". ومن هنا غموض الدلالات التي يمكن أن يثيرها ذلك.

II

مَن هو اليهودي

أظن أن من المفيد العودة مجدداً إلى تعريف كلمة "يهودي" نظراً إلى كثرة حالات الغموض المتعلقة بها، وإلى كون حالات الغموض هذه هي الأكثر جدية. عندما نقول أو نكتب "اليهود"، فإن ذلك يعني أننا يمكن أن نقصد مجموعات مختلفة، وإذا أردنا التفكير بشكل علمي وعقلاني، وباختصار بطريقة سليمة، فعلينا أن نحدد أيها نقصد. إن الغموض ينبع من دوافع أيديولوجية، ويخدم أهداف الدعاية الأيديولوجية.

كلمة "يهودي" يمكن أن تعني:

1) تاريخياً، فرداً ينتمي إلى الشعب القديم، أو الإثنية أو الأمة التي عاشت في الشرق الأدنى، وكانت تسمي نفسها أيضاً "بني إسرائيل" أو "العبرانيين"؛

2) عضواً، في السابق واليوم، ينتمي إلى مجتمع ديني منظّم يعلن رسمياً أنه يتحدر من الشعب القديم المعني، ويؤكد إيمانه ببعض الأفكار العقائدية (التوحيد بالله؛ الوحي الذي نزل على موسى في سيناء؛ شعب إسرائيل "المختار"؛ الطابع المقدس الذي بقي تماماً كما هو للأسفار العبرانية للعهد القديم التي يُفترض أنها تمثل كلام الله، والتي لم يتم تجاوزها أو تحريفها بأي وحي آخر، إلخ)، وكذلك التزامه بممارسة العديد من الطقوس المحددة؛ باختصار هو مخلِص لليهودية؛

3) فرداً كان أسلافه المعروفون ينتمون إلى هذا المجتمع، ويريد، وإن كان لم يعد ينتمي إليه (أو ليس بشكل كامل)، أن يشدد على هذا الأصل، مثلاً عبر الاستمرار في ممارسة بعض الطقوس الإيجابية أو السلبية لليهودية من دون إعطائها قيمة دينية خالصة، والانتماء إلى منظمات أُنشئت على أساس هذا الدين، إلخ؛

4) فرداً يتحدر أيضاً من أفراد من المجتمع اليهودي، لكنه ـ مع كونه يخفي أحياناً انتماءه هذا، وأحياناً يعترف به ليس إلاّ، وأحياناً يؤكده ـ يرفض أي فكرة أو ممارسة يستدعيها حصراً أصله المعني؛ وتشمل هذه الفئة عدداً كبيراً من الأفراد الذين يرفضون صراحة التعريف عنهم باعتبارهم "يهوداً" ـ نظراً إلى أن الرأي العام يعني بذلك كذباً أنهم ينتمون إلى الفئات الثلاث الأولى ـ ومع ذلك فإن هذا الرأي يقوم بالتصنيف على هذا الأساس؛

5) إن "اليهودي المجهول" مثلما يقول ر. بيرفيت ( Peyrefitte)، هو فرد ضمن الحالة السابقة، لكن، علاوة على ذلك، نسي الآخرون أصوله اليهودية عامة ولا يعرفها هو نفسه، وهي حالة شائعة سواء في أوروبا أو في العالم الإسلامي، نظراً إلى تكرار تغيير العقيدة على مدى التاريخ؛ ومع ذلك قد يحدث أن يُكتشف هذا الأصل ويُكشف عنه يوماً، وعندها، يتم تصنيف الرجل أو المرأة المعنية، في الفئة السابقة؛ ويمكن حتى أن يكون "الاكتشاف" الذي تم الحديث عنه خطأ (سواء عن قصد أو بغير قصد)، وعندها يتردد الرأي العام بشأن الحالة المطروحة.

 

 

* المقالة أساساً باللغة الفرنسية، وعنوانها:

“Quelques idées simples sur l’antisémitisme”, Revue d'Etudes Palestiniennes, no. 1 (Automne 1981), pp. 5-21.

ترجمة: صفاء كنج.

[1] يُعتقد أن مَن استحدث مصطلح "معاداة السامية" هو خبير الدعاية الألماني فيلهلم مار في سنة 1873، وقد جرى اعتماده سريعاً وترجمته إلى اللغات الأوروبية كافة. للمزيد، انظر الملحق رقم 1 في ختام المقالة بشأن ترجمة هذا المصطلح في الشرق المسلم، وكذلك:

Maxime Rodinson, Peuple juif ou problème juif? (Paris: Maspero, 1981), p. 268ss.

[2] يجب عدم استخدام مصطلح "الساميون"، مثلما يجب عدم استخدام مصطلح "الهنود الأوروبيون" (أو الآريون)، فهذه الكلمات ليس لديها أي تفسير علمي، بل يمكننا فقط الحديث عن شعوب تتكلم لغات سامية، أو شعوب تتكلم لغات هندية ـ أوروبية، إلخ. هذه المجموعات اللغوية موجودة فعلاً، فهناك عائلة من اللغات السامية المتقاربة، لكن الشعوب التي تتكلم لغات متقاربة قد تكون مختلفة تماماً، وكل منها بالتالي غير متجانس بدرجة عميقة مع غيرها. وتنتشر اللغات عادة عن طريق التماثل أو الغزو أو الهجرة إلخ، فالسود في هايتي مثلاً يتكلمون أشكالاً من الفرنسية، لكنهم مع ذلك، وبالتأكيد، ليس لديهم مورثات مشتركة مع فرنسيي فرنسا. أمّا الفرنسيون فيتكلمون لغة مشتقة من اللاتينية، وهي لغة أقلية صغيرة من الناس يعيشون في إيطاليا التي غزت بلاد الغال في القرن الأول قبل الميلاد. وقد اندثرت اللغة الغالية في فرنسا قبل أكثر من 16 قرناً، في حين أن عدد الفرنسيين ذوي الأصول الغالية هم أكثر كثيراً من المتحدرين من الرومان الذين يتكلمون اللاتينية. والأمثلة هي تقريباً بعدد الشعوب. يقول ألفرد هادون: "بالنسبة إليّ، فإن عالم اللغة ف. ماكس مولر الذي استحدث مصطلح "الآري"، كتب في سنة 1888 أن عالِم الإثنيات الذي يتحدث عن عرق آري، وعن عينين آريتين أو شعر آري، يرتكب خطيئة عظيمة مثلما يفعل لغوي يتحدث عن قواعد لغوية مستطيلة الرأس أو قصيرة الرأس." انظر:

Friedrich Max Müller, “Biographies of Words and the Home of the Aryas” (London: Longmans, Green and Co., 1888), p. 120, cited in par Alfred C. Haddon, History of Anthropology (London: Watts & Co., no d.), p. 97.

 

[3] المنتمون إلى الدول المسلمة ولا سيما العرب، لا يدركون في الغالب مدى قدم وعمق التيارات المعادية للدين ـ وعملياً بالتالي الميول المعادية للمسيحية ـ في أوروبا، وخصوصاً في فرنسا. فهم غالباً ما يعتقدون بأن اللادينية (irreligion) في المجتمع الأوروبي نمت مع كارل ماركس والماركسية، وهذا سوء فهم يفاقم الإرباك لدى كثير من المحللين. فماركس لم يفعل في هذا الصدد شيئاً غير تبنّي أفكار الربوبيين والملحدين (deists and atheists) الفرنسيين والإنجليز في القرن الثامن عشر، والتي تناولها الفلاسفة الألمان وصقلوها وطوروها، وهو بالكاد أسهب في هذه الكتابات وجعلها أكثر تماسكاً وانسجاماً على خطى لودفيغ فورباخ. لكن مساهمته الشخصية كانت في تقديم شرح فلسفي واجتماعي للدين أكثر ممّا هي في مهاجمة الدين التي كانت تمثل ظاهرة منتشرة بين اليسار الأوروبي كله، ولا سيما الاشتراكي.

[4] كلمة "غوي" معناها بالعبرية "شعب" أو "قوم"، وتُستخدم في العبرية القديمة للإشارة إلى أي شعب بما في ذلك قوم إسرائيل، لكن جمع هذه الكلمة "غوييم" ومعناها "الشعوب" أو "الأقوام" بات يُستخدم للإشارة إلى الشعوب الأُخرى أو "الأغيار". وفي اللغة العبرية ما بعد التوراة، باتت كلمة "غوي" تُستخدم بمعنى فرد من هذه الشعوب الأُخرى، وبمعنى آخر غير يهودي. وتتصل الكلمة العبرية بمصطلحات سامية مختلفة تعني داخل الشيء، أو "جُوّا" في العربية المحكية في الهلال الخصيب (ﭼُوّا بالجيم عير المعطّشة في مصر)، ومن هنا فكرة "القوم" أو "المجتمع".

[5] على الرغم من عدم إعطائهم الحقوق الحصرية تماماً بالوحي قبل النبي محمد، فإن اليهود القدماء أو "بني إسرائيل" كما ورد اسمهم في القرآن، كان لهم ميزات كبيرة من هذا المنطلق في نظر الإسلام.

[6] يمكن على سبيل المثال مراجعة ما يقوله عن ردة الفعل هذه مؤرخ اليهود الكبير سالو ف. بارون في النص الذي أستشهد به في كتابي "شعب يهودي أم مشكلة يهودية؟". انظر: Rodinson, op.cit., p. 301s.

فشعوب الصين أو الهند حيث تعيش مجموعات يهودية، لم تمارس سلوكيات معادية قط تجاهها تحديداً، كما أننا نعرف أن إيطاليا المعاصرة لم تشهد مواقف معادية للسامية. وحدها الضغوط التي مارسها هتلر على حليفه موسوليني دفعت هذا الأخير في النهاية، على الرغم من تحفظاته الشخصية وتحفظات شعبه، إلى سن قوانين بهذا المعنى، والعمل على نشر الأيديولوجيا المعادية للسامية.

[7] انتقدتُ قبل فترة طويلة انطلاقاً من وجهة النظر هذه موقف ليون بولياكوف مؤرخ معاداة السامية، وجمعت هذه الانتقادات في مقالة قصيرة مكثفة بعنوان: "بعض الطروحات النقدية عن النهج البولياكوفي"، نُشرت في الكتاب التكريمي الذي صدر عنه. انظر:

Maxime Rodinson, “Quelques thèses critiques sur la démarche poliakovienne”, in Maurice Olender ed., Pour Léon Poliakov: Le racism, mythes et sciences, (Bruxelles: Complexe, 1981), pp. 317-322.

 

[8] انظر بصورة خاصة التفنيد الحاسم في:

Nadine Fresco, “Les redresseurs de morts”, Les Temps modernes (June 1980), pp. 2150-2211; Pierre Vidal-Naquet, “Un Eichmann de papier”, Esprit, no. 45 (Sept. 1980), p. 52.

ومقالة ناكيه أعيد طباعتها في:

 Pierre Vidal-Naquet, Réflexions sur le génocide: Les juifs, la mémoire et Ie présent (Paris: Maspero, 1981), p. 195-272.

وتتضمن ملاحق مفيدة جداً. انظر أيضاً:

Rodinson, Peuple juif ou problème juif? op.cit., p. 325.

[9] إنه افتراء قديم يقول إن بعض المناسبات الدينية اليهودية يفرض على اليهود قتل مسيحي (غالباً ما يتم تحديد أنه طفل مسيحي) واستخدام دمه في إتمام بعض الطقوس. إنها استعادة لاتهامات مماثلة ساقها الوثنيون في الأزمان السحيقة ضد المسيحيين، وبدءاً من القرن الثاني عشر، في العالم المسيحي، غالباً ما كانت تُساق مثل هذه الافتراءات ضد اليهود لدى اختفاء أطفال، أو العثور عليهم قتلى. وبيّن العديد من الحكام المسيحيين، على الأقل خمسة من الباباوات وعدد من الحكماء اليهود والمسيحيين، خطأ هذه الاتهامات واتسامها بالغباء. وبالتالي، فإن من المفجع على سبيل المثال أن يلاحَظ خلال جلسة عامة لمنظمة اليونسكو بشأن الحقوق العربية في القدس في بداية سنة 1981، أن السياسي السوري معروف الدواليبي استشهد بتهمة مماثلة بصفتها حقيقة مثبتة، وهذه التهمة التي ساقها مسيحيون بتأييد من القنصل الفرنسي تتعلق باختفاء الرئيس الإيطالي للرهبان الكبوشيين ويدعى ب. توماسو في دمشق في سنة 1840 في ظروف مثيرة للريبة إلى حد كبير. وقد ثبُت خطأ هذا الاتهام منذ تلك الفترة (انظر: Samuel Posener, Adolphe Crémieux (1796-1880), Paris: Alcan, 1934, vol. I, chap. VIII, pp. 198-247). ومن المؤسف بالقدر نفسه أن أياً من منظّمي الاجتماع المذكور أعلاه لم يرَ من الملائم الاحتجاج أو توضيح الأمور، إذ تكوّن لدى المشاركين الانطباع بأن الرأي العام العربي في الإجمال كان يعتبر مثل هذه الافتراءات أمراً اعتيادياً. إن مثل هذه الأحداث الصغيرة هي التي تساهم في تكوين الرأي، وتُخلّف أكبر قدر من الأذى بالصدقية التي تحظى بها التظلمات العربية المشروعة. هل يمكن بهذه الطريقة تشجيع الجمهور الأوروبي على المشاركة في مثل هذه التظاهرات؟

[10] انظر:

Ignaz Goldziher, Muhammedanische Studien, vol. 1, Halle: Max Niemeyer, 1889 (reprinted by: Hildesheim: George Olms, 1961), p. 204s; Marius Canard, “Fâtimides”, Encyclopédie de l’Islam, 2nd edition, vol. 2 , 1965 ; pp. 870-882; De Lacy O'Leary, A Short History of the Fatimid Khalifate (London: Kegan Paul, Trench, Trubner and Co., 1923), p. 33s.

وبشأن "عبدالله بن سبأ" الذي يُزعم أنه أسس حركة شيعية متطرفة، ويقال إنه يهودي اعتنق الإسلام، انظر:

  1. G. S. Hodgson, Encyclopédie de l’Islam, 2nd edition, vol. 1, 1960, p. 52s;

وعن صورة اليهودي في "ألف ليلة وليلة"، انظر:

Oskar Rescher, Studien über den Inhalt von 1001 Nacht (Berlin: G. Reimer, 1919), p. 79ss.

 

[11] على سبيل المثال، وزع "مركز الشرق الأوسط للإعلام والتوثيق" في جنيف كتيّباً بالإنجليزية والفرنسية يتضمن المقتطفات الأشد عداء لليهود في أعمال المؤتمر الرابع لأكاديمية البحوث الإسلامية (في الأزهر)، والذي عُقد في القاهرة في أيلول / سبتمبر 1968. ونُشرت هذه الأعمال على ما يبدو في القاهرة في سنة 1970 في طبعة عربية من ثلاثة مجلدات، وفي طبعة إنجليزية من مجلد واحد. وصدر الملخص الفرنسي بعنوان (Les Juifs et Israël vus par les théologiens arabes, Genève: Editions de I'avenir, 1971)، وبالإنجليزية بعنوان Arab Theologians on Jews and Israel عن الناشر نفسه. بعض النصوص فقط كان معادياً للصهيونية، أو ينتقد اليهودية من منطلق ديني إسلامي، بينما بعضها يدعو بشكل عام إلى كراهية كل اليهود في كل زمان ومكان بسبب طبيعتهم الشريرة المفترضة. إن القارئ غير المسلم لهذه النصوص، والذي لا يملك وسيلة لمعرفة الظلاميين الذين صاغوها، ولا مكانهم في المجتمع ومدى تأثيرهم والظروف، إلخ، لا يسعه إلاّ أن يستخلص منها أن العرب عامة يكنّون حقداً دفيناً لليهود عامة، ويحلمون بإبادتهم.

[12] يروي نص هذا الكتاب حكاية خيالية عن مؤامرة أعدتها مجموعة من الزعماء اليهود للسيطرة على العالم. وتبيّن منذ فترة طويلة أنها وثائق مزيفة استوحتها الشرطة السرية في روسيا القيصرية من كتيّب لا علاقة له باليهود لا من قريب ولا من بعيد، كتبه مؤلف فرنسي يدعى موريس جولي ضد نابليون الثالث، بعنوان "حوار في الجحيم بين مونتسكيو وماكيافيللي" (1864). ويمكن الاطلاع على القصة الكاملة لهذا التزييف في كتاب نورمان كوهن الرائع "قصة خرافة" الذي تُرجم إلى الفرنسية. انظر:

 Norman Cohn, Histoire d 'un mythe: la conspiration juive et les Protocoles des Sages de Sion (Paris: Gallimard, 1967).

ونُشرت الترجمة العربية للبروتوكولات في دول عربية، وأحياناً من جانب حكومات عربية، وغالباً ما تستشهد بها الصحافة العربية، وكذلك مؤلفون عرب، كما لو أنها وثيقة صحيحة.

[13] كانت الإشارة في فرنسا إلى أحدهم على أنه "يهودي" ـ أو "إسرائيلي" (israélite)، وهي عبارة استُخدمت لفترة طويلة لتفادي الدلالات المسيئة لكلمة "يهودي" والمتوارثة تقليدياً ـ تُعتبر ولفترة طويلة وقحة أو تهجماً بحد ذاتها. من حيث المبدأ ـ وفقط من حيث المبدأ ـ كان محظوراً التمييز بين الفرنسيين على أساس الديانة (الحالية أو الموروثة). ومن جهة ثانية، لم يكن ممكناً نسبة ملحد أو شخص ينكر بإيجابية الديانات القائمة، إلى أي منها، أكانت اليهودية أم غيرها. هذا الموقف بعيد تماماً عن إدراك من تبنّوا الموقف الشرق الأوسطي... والبعض الآخر كذلك. فإذا أعلن شخص متحدر من أسلاف يهود أنه "بلا دين"، فإنهم يتهمونه بالإنكار المخزي في حين أنه لا يفعل سوى إعلان وضع محدد، من منظور المجتمع الفرنسي. يتحدث ألبير ميمي كيف يسخر الحرفيون اليهود في تونس من زبائنهم الأوروبيين عندما يسألونهم إن كانوا يهوداً، فيقولون: "نحن يهود بالمنشأ"، فيردّ الزبائن: "اللي عندهم أصل". كل يرى الأمور من منظور مجتمعه. ولا يمكن تقديم وصف صحيح لعدد كبير من الفرنسيين المتدينين إلاّ بالقول إنهم فرنسيون من أصل كاثوليكي (أو بروتستانتي).

[14] الإشارة الزمنية الوحيدة التي تمكنت من العثور عليها، والتي وردت فيها كلمتا "لا سامٍ" و"لا سامية"، هي قاموس ليون بيرشيه الذي يستند إلى مسح الصحف العربية خلال الأعوام السابقة. انظر:

 Léon Bercher, Lexique arabe-français: Avec un index français-arabe correspondant. Contribution à l'étude de l'arabe moderne (Alger: Jules Carbonnel, 2nd edition, 1942).

(راجع فيه ص 101 و189 و1364، والأصل رقم 764 ـ وليس 706 كما ورد في الملحق ص 19.

[15] انظر:

  1. Monteil, L'arabe moderne (Paris: Klincksieck, 1960), p. 138s.

وعلى العكس من اقتراح مونتي الإشكالي، في هذه الحالة على الأقل، فإنه لم يتم نسخ الكلمة المستحدثة من تجديدات التركية العثمانية، مثلما حدث في الغالب. والمصطلح العربي غير معروف بالتركية والفارسية، إذ إن كلمة "antisémitisme" تُرجمت، بصورة عامة، بعبارات تعني "العداء لليهود".

[16] انظر:

 Abraham Elmaleh, Nouveau dictionnaire complet français-hébreu (Jérusalem: 1933), col. 2242.

السيرة الشخصية: 

مكسيم رودنسون: ولد في باريس في سنة 1915، وتوفي في مرسيليا في سنة 2004، وكان مؤرخاً ماركسياً فرنسياً وعالم اجتماع ودراسات شرقية وأستاذ في الكلية العملية للدراسات العليا (Ecole Pratique des Hautes Etudes).