تمرد يفتح على مستقبل خطر
نبذة مختصرة: 

امتازت الاحتجاجات التي شهدتها المخيمات رفضاً لإجراءات وزارة العمل اللبنانية بحق العمالة الفلسطينية، بتنظيمها من قبل الشبان وبمشاركة فاعلة من الشابات والنساء، ومن دون قيادة صريحة لهذا الحراك الذي لم يكن انتهى بعد عند كتابة هذه الأسطر. ومن قلب هذه الاحتجاجات اخترنا تحقيقاً عن مجريات الانتفاضة، وست شهادات لشبان وشابات شاركوا وكانوا فاعلين فيها.

النص الكامل: 

  لم يكن يوم الاثنين الموافق فيه 15 تموز / يوليو 2019، يوماً عادياً في مخيمات لبنان، فقد تعودت تلك المخيمات أن تنام على خبر اندلاع اشتباك في عين الحلوة بين مجموعات ضئيلة العدد من الإسلاميين المتطرفين المتحصنين في بضع مربعات سكنية تجاور حدود المخيم المراقَبة من طرف الجيش اللبناني بكثافة، وتصحو على توسع في الاقتتال، ثم لاحقاً على تسوية تُبقي خطوط الجبهات قائمة في انتظار يوم رصاص آخر.

 

خروج مخيم عين الحلوة عن بكرة أبيه في إحدى التظاهرات الاحتجاجية

 

وتعودت أن تقرأ وتسمع التعبئة العنصرية وخطابات الكراهية التي تصدر عن كبار السياسيين في لبنان، وتردُّد أصدائها في وسائل الإعلام التي تتقصد التعمية على الحقائق ونشر الشائعات ومفردات العنصرية وخطابات الكراهية. وطبعاً مع حفظ الامتنان لكثير من المثقفين والناشطين اللبنانيين الذين يتضامنون مع اللاجئين الفلسطينيين ضد تلك الحملات الظالمة كافة.

كما تعودت أن تصحو على إجراءات أمنية تشدد الحصار المتصاعد منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، بحيث بات مخيم عين الحلوة عبارة عن سجن محاط بسور يرتفع بين 5 و6 أمتار، ويعلوه أبراج مراقبة يصل ارتفاعها إلى 10 أمتار.

تُغمض المخيمات أعينها وتفتحها على "ستاتيكو" الضعف الرسمي والفصائلي الفلسطيني، المستسلم وغير المبادر والساكت عن الحق، وعلى "ستاتيكو" آخر مُلّ منه، هو حب بعض الأحزاب والتنظيمات اللبنانية لفلسطين، وكراهيتها جهراً أو ضمناً للفلسطينيين.

في 15 / 7 / 2019، تمردت المخيمات على نفسها أولاً، وعلى مَن يُفترض أنهم حُكّام زواريبها، وعلى الخارج الذي يحاصر فقراءها بأسوار كونكريتية، أو بجدران متماسكة من العنصرية والكراهية.

كانت إجراءات وزارة العمل التي جاءت في سياق خطة للحدّ من العمالة الأجنبية غير الشرعية، والتي طالت اللاجئين الفلسطينيين، النقطة التي أفاضت كأس المهانة المتمادي منذ تطبيق اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بينما من المعروف أن الحملة كانت تستهدف العمالة السورية، وقد ترافقت مع ارتفاع منسوب الشعبوية العنصرية ضد السوريين، وخصوصاً في أجواء القوى السياسية الطائفية المسيحية.

فوجئت المخيمات بنفسها، وفاجأت الآخرين، عندما رفضت النوم ليل 14-15 / 7 / 2019، وباشر لاجئوها تحركات عفوية جماعية عبر تظاهرات جابت ما وسع من أزقتها وضاق. وفي عين الحلوة خرجت التظاهرات من الأزقة متجهة إلى مداخل المخيم المغلقة ببوابات والمحروسة، بعد حصاره بالجدار، ليعلن شبانه ونساؤه حصار حصارهم... كأنهم يستعيدون قصيدة "سقط القناع" لشاعرهم محمود درويش، في حصار بيروت:

 

حاصـــــــــــر حصارك لا مفـر

سقطت ذراعك فالتقطها

واضــرب عدوك .. لا مفر

وسقطتُ قربك، فالتقطني

واضرب عدوك بي.. فأنت الآن حــر

 

يوم عاد العمّال وبأيديهم غرامات وفي عيونهم رعب...

خرج ب. ع. صباح يوم 11 / 7 / 2019 من مخيم نهر البارد نحو عمله في منطقة عكار في شمال لبنان، حيث حضر مفتشو وزارة العمل بمؤازرة قوة أمنية عمد عناصرها إلى اعتقال عمال سوريين مخالفين في إقاماتهم، أو يعملون من دون إجازة عمل. ووفقاً لوالده، فقد جاء ابنه إلى المنزل مذهولاً بما رأى، وحدّث العائلة عن كيفية الاعتقال الحاطّ بكرامة الموقوفين السوريين الذين تم تكبيلهم بأصفاد حديدية، ودُفعوا بعنف إلى داخل سيارات القوة الأمنية المرافقة للمفتشين المدنيين.

يضيف والد ب. ع. أن مفتشي وزارة العمل سطّروا محضر ضبط بحق ابنه بلغت قيمة غرامته 2,500,000 ليرة لبنانية، بينما مرتّبه هو 500,000 ليرة لبنانية، وأنه رفض توقيع المحضر الذي كُتب فيه "امتنع عن التوقيع". وتم تهديد ب. ع. وزملائه من الأُجراء الفلسطينيين بضرورة تسوية أوضاعهم القانونية خلال شهر، وأنه إذا عادت فرق التفتيش ووجدتهم يعملون من دون تسوية أوضاعهم، فإنهم سيواجهون القمع الذي لاقاه الأُجراء السوريون.

ولأن الوالد يمتلك، استناداً إلى عمله، علاقات على مستوى رفيع، فقد جرى عرض قضية ب. ع. على وزير العمل الذي طلب أن يُحضر إفادة عمل فقط، كي يتم استخراج إجازة عمل له، وأنه لا داعي حتى لعقد العمل، لكن رب العمل رفض إعطاء الإفادة بداعي أن ذلك يضعه تحت مساءلة قانونية، ويضطره إلى دفع رسوم الضمان، علماً بأن التبليغ عن أجير أجنبي يعني أيضاً أن مرتبه يجب أن يتجاوز الحد الأدنى للأجور وهو قرابة 450$، فضلاً عن تعويضات متنوعة تضاف إلى الراتب الأساسي، فيصل إلى 600$ تقريباً.

فيما يتعلق بالغرامة التي فُرضت على ب. ع.، فقد نُصح بتقديم طلب استرحام لدى المدعي العام لخفض قيمتها، وهو ما تم، وبموجبه خُفضت الغرامة إلى 250,000 ليرة لبنانية، دفعها رب العمل الذي طلب من أُجرائه الفلسطينيين أن يتخلفوا عن الالتحاق بوظائفهم إلى حين انتهاء حمأة حملة وزارة العمل، وطبعاً من دون أجر.

المشهد نفسه تكرر في مؤسسات أُخرى في عكار وفي طرابلس، وفي منطقة كسروان حيث تم طرد 15 عاملاً من سكان مخيم نهر البارد، خوفاً من مداهمة مفتشي وزارة العمل. والأمر ذاته حدث في بيروت والبقاع، وفي الجنوب اللبناني: في صور، وخصوصاً في منطقة صيدا، حيث أعداد الفلسطينيين هي الأكبر في لبنان، وحيث لبنانيو صيدا تربطهم علاقات تاريخية بفلسطين والفلسطينيين، وطبعاً يستفيد أرباب العمل فيها من تشغيل الأجراء الفلسطينيين بمرتبات أقل كثيراً ممّا يُدفع للأجير اللبناني. وعليه، جرى طرد، أو الاستغناء عن مئات العمال، مثلما يؤكد الناشط الحقوقي والشبابي م. أ.، أو الطلب إليهم البقاء في منازلهم إلى حين توقف الحملة.

كما غُرّمت مؤسستان يملكهما فلسطينيان في منطقة الكورة في شمال لبنان، إحداها لشخص اسمه زياد عارف "الذي أكّد بداية أن تسجيل مؤسسته في الدوائر الرسمية، قبل عامين، حظي بتسهيلات إجرائية ملفتة. لكنه لفت إلى أن إغلاق مؤسسته، بسبب عدم إصدار إجازات عمل للعمال الفلسطينيين لديها، قد تم من دون إنذار مسبق." وأضاف عارف أن البطالة عالية في صفوف اللاجئين الفلسطينيين، مثلما هو معروف، "ومن حقنا محاولة التخفيف من حدة البطالة في أوساطهم، وأنه في حال استصدار إجازات عمل، فإن القانون سيلزمنا بطرد عدد من العمال الفلسطينيين. كما أن العامل الفلسطيني لا يستفيد من إجازة العمل، ولا اشتراك الضمان."[1]

 

عندما طفح الكيل

انتشر مقطع صوتي لعارف في مواقع التواصل الاجتماعي يشرح فيه ما حدث معه، كما انتشرت أخبار طرد الأُجراء الفلسطينيين، في وقت تشتد الأزمة الاقتصادية في لبنان، والتي يتأثر بها الفقراء بنسبة أكبر، ومن ضمنهم أفقر الفقراء، اللاجئون الفلسطينيون الذين تفوق نسبة البطالة الحقيقية بينهم الـ 60%.

لم يكن أحد يتوقع أن تكون ردة فعل اللاجئين الفلسطينيين بهذه الكثافة والإصرار: لا الفصائل الفلسطينية ومنظمات المجتمع المدني في المخيمات وخارجها، ولا الجهات الرسمية والإعلامية والشعبية اللبنانية بمختلف تلاوينها. فالجميع كان يعتقد أن مخيمات لبنان التي تكاد تخلو من شبانها الذين هاجر معظمهم، قد خمدت، وأن كل تحرك تضامني مع عذابات فلسطينيي الضفة وغزة والقدس التي شهدتها المخيمات في الأعوام الأخيرة، إنما يحركها هذا الفصيل أو ذاك، أو بتوافق بين الفصائل. ما حدث في انتفاضة المخيمات، خرج عن سيطرة الفصائل، وعن قبضة الأجهزة العسكرية والأمنية اللبنانية التي لها في داخل المخيمات كثير من صلات التواصل والتحريك.

شيئاً فشيئاً تصاعدت نار الاحتجاجات وشملت جميع المخيمات: المداخل أُقفلت، والتظاهرات عمّت الشوارع الضيقة والأزقة المُعتمة، لكن ما جرى في مخيم عين الحلوة كان الأكبر والأوسع والأكثر رعباً لمختلف الفصائل الفلسطينية والجهات السياسية اللبنانية. يمكن القول إن احتجاجات 11 مخيماً، من الشمال إلى بيروت فالجنوب اللبناني، وصولاً إلى البقاع، كانت تحت السيطرة حتى إن خرجت قليلاً عن قدرة الفصائل على استيعابها؛ وحده مخيم عين الحلوة خرج طوال 11 يوماً عن السيطرة تماماً، ولم تخبُ جذوته إلاّ بعد وضع الفصائل يدها على الاحتجاجات، وهو تدبير يراه بعض الناشطين على أنه خديعة فصائلية، وتراه الفصائل إعادة تنظيم لاحتجاجات ليس ممكناً أن تتواصل بالوتيرة نفسها مدة أطول.

 

لماذا عين الحلوة؟

تخضع مخيمات اللاجئين الفلسطينيين منذ حرب المخيمات (1985 – 1987) لحصار (باستثناء مخيمات الشمال) يتفاوت إحكامه أو تخفيفه بناء على تقديرات سياسية وأمنية (كان هذا التقدير بيد الاستخبارات السورية في بيروت قبل خروج القوات السورية من لبنان في سنة 2005، وبيد الاستخبارات اللبنانية اعتباراً من تلك السنة)، وربما لشعبوية داخلية تفاقمت، وخصوصاً بعد الانتخابات النيابية في سنة 2018، والتي أفرزت شبه تعادل بين القوتين المسيحيتين الكبريين: "التيار الوطني الحر" الذي أسسه رئيس الجمهورية ميشال عون ويرأسه صهره جبران باسيل وهو وزير الخارجية في الحكومة، و"القوات اللبنانية" التي يرأسها سمير جعجع، وبين الرجلين والحزبين ثارات من معارك دامية في سنة 1990، أُطلق عليها اسم "حرب الإلغاء". وقد جرى تخفيف الحصار في محيط مخيمات بيروت في نهاية ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، لكن أُحكم حول مخيمات الجنوب، وتصاعد عبر إقفال جميع المنافذ واختصارها بواحد أو اثنين.

ففي كانون الثاني / يناير 1997 بدأ حصار مخيمات صور (الرشيدية والبص وبرج الشمالي) فسدّ الجيش اللبناني مداخلها، ومنع إدخال مواد البناء إليها. وفي سنة 2002 بدأ حصار مخيم عين الحلوة، بينما اندلعت في سنة 2007 معارك نهر البارد بين تنظيم "فتح الإسلام" الإرهابي (المكوّن والمُسيّر استخباراتياً)، وبين الجيش اللبناني، فدُمر المخيم، وأعيد بناؤه جزئياً، ومنع إدخال السلاح اليه وحوصر بالكامل مذّاك. وفي تشرين الثاني / نوفمبر 2016، بدأ الجيش اللبناني ببناء جدار فاصل عند حدود مخيم عين الحلوة، اكتمل في سنة 2018، فبات المخيم أشبه بقرية من قرى الضفة الغربية المحاصرة بجدار الفصل العنصري مع أبراج شاهقة وبوابات حديدية تُقفل وتُفتح بقرار من حواجز الجيش اللبناني الموجودة على تلك البوابات.

مخيم عين الحلوة هو أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان، ووفقاً للتقديرات فإن عدد سكانه يتجاوز 90,000 نسمة، يتكدسون في مساحة لا تتجاوز 1,5 كم²، وتُقدّر نسبة البطالة الحقيقية فيه بـ 65% من حجم قوة العمل (جزء من الشباب الفلسطيني يُحتسب كبطالة مقنّعة كونه يتلقى مساعدات من الفصائل، بعضها لا يتجاوز 100$ شهرياً، وقسم آخر كونه يعمل في غير مهنته وبمرتبات ضئيلة).

وبسبب التكدس الكبير، والبطالة المرتفعة، والجدار المحكم حول المخيم، وإجراءات الدخول والخروج القاسية، ووجود مجموعات متطرفة في داخله، فإن احتمالات حدوث إشكالات واشتباكات مسلحة أمر منطقي. وبخلاف ما يُشاع، فإن تلك المجموعات ليست كثيرة العدد، لكن ثمة صعوبة في محاربتها كون منازل المخيم متلاصقة، وقد أثبتت ذلك الاشتباكات التي دارت بين "فتح" وتلك المجموعات، والتي أبرزت حجم الدمار والخسائر في كل جولة من دون قدرة على الحسم.

ومع أن علاقات الفصائل جيدة بمختلف الأحزاب اللبنانية الممسكة بالسلطة في لبنان، إلاّ إنها لم تتمكن، أو ليس لديها إرادة، في استخدام صداقاتها في التخفيف من الإجراءات المهينة للكرامة الإنسانية التي يعانيها سكان المخيم. أمّا تحكّم بعض الفصائل في كثير من الشبان من خلال المساعدات المالية التي تقدَّم لهم، فلم يُفد كثيراً، وأظهرت الانتفاضة أن الثقة بالفصائل ضعيفة.

هذه الأسباب كلها، علاوة على الدعاية العنصرية عبر وسائل الإعلام وتصريحات بعض السياسيين اللبنانيين ضد الفلسطينيين، وخطاب الكراهية المنتشر، جعلت من عين الحلوة المخيم الأكثر صخباً في الاحتجاجات الأخيرة.

 

التباس القوانين وضعف المعرفة فيها والتحريض و"خديعة" الفصائل!!

لدى اندلاع الاحتجاجات في مخيمات لبنان، لوحظ بين الشبان الفلسطينيين الذين تصدّوا لقرارات وزارة العمل، ضعف المعرفة في حيثيات القوانين المتعلقة بالعمالة الفلسطينية في لبنان، فسلّطوا الأمر على الوزير نفسه، وانقاد كثيرون من المحتجين خلف تحريض إعلامي من وسائل إعلام "ممانعة"، إحداها عنونت: "حملة وزير القوات: (البعبع) الفلسطيني مجدداً"،[2] وبمشاركة من بعض الفصائل الفلسطينية في تصوير الأمر كأنه محصور بوزير العمل، حتى إن دعوات وُجهت إليه لتغيير القانون.

من الضروري في هذا السياق التـأكيد أنه لا سلطة للوزير تخوّله إصدار أو تعديل قانون، بل إنه محصور بمجلس النواب اللبناني، عبر مشروع قانون ترسله الحكومة، أو اقتراح قانون يقدّمه 10 نواب.

وتجدر الإشارة إلى أن قانونَي العمل والضمان الاجتماعي اللبنانيَّين جرى تعديلهما في سنة 2010 بقانونَين حملا الرقمين 128 و129،[3] وتمت الإشارة (في نص قانوني) لأول مرة إلى الفلسطينيين، عبر السماح لهم بالعمل في بعض الوظائف شرط الحصول على إجازة عمل مجانية، لكن برسوم تُدفع للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتبلغ 23,5% موزّعة على النحو التالي: 9% مرض وأمومة (7% من صاحب العمل، و2% من الأجير)؛ 6% تعوضات عائلية (من صاحب العمل)؛ 8% نهاية الخدمة (من صاحب العمل)؛ 0,5% لإدارة الصندوق (من صاحب العمل).[4] ولا يستفيد الأجير الفلسطيني سوى من تعويض نهاية الخدمة.[5]

وبحسب وزارة العمل ووزيرها، فقد تم تطبيق القانون خلال الحملة الأخيرة، وهذا صحيح، لكن الثغرة كانت، أن مسوغات الحملة القانونية التي تضمنها نص صدر عن وزارة العمل، غاب عنه تماماً ما يتعلق بالفلسطينيين في القانون، فاعتُبروا خلال التنفيذ من ضمن العمالة الأجنبية.[6]

بالعودة إلى القانونَين 128 و129 / 2010، فإنهما لم يقدّما صفة واحدة للشخصية القانونية للاجىء الفلسطيني. فقانون الضمان الاجتماعي قارب شخصيته القانونية إلى شخصية لاجىء بإلغاء مبدأ المعاملة بالمثل للفلسطينيين المسجلين في سجلات وزارة الداخلية اللبنانية، بينما قانون العمل فرض عليهم استخراج إجازة عمل معاملاً إياه معاملة الأجانب، لكن مع فارق عدم دفع رسوم إجازة العمل (وهي رسوم غير رسوم الضمان الاجتماعي).

وبسبب من التحريض، والشعبوية السائدة بين السياسيين اللبنانيين المسيحيين، وغياب المعرفة الحقوقية، وضعف تمكين اللاجئين بحقوقهم من طرف الفصائل وهيئات المجتمع المدني والأهلي المفترض أنها تعي تلك الحقوق، تم – في بداية الاحتجاجات - اختصار الأمر بإجراءات وزارة العمل، المتخذة وفق القانون اللبناني، بينما الحقيقة تتعدى ذلك إلى غياب شبه كامل لمجمل حقوق الإنسان بالنسبة إلى اللاجىء الفلسطيني في لبنان.

ومن المفيد توضيح أنه، وقبل تعديل قانونَي العمل والضمان، عمد المشرّع اللبناني في سنة 2001 إلى منع اللاجئين الفلسطينيين من تملّك شقة، في نص (حمل الرقم 296 / 2001) لا مثيل له في العالم، جاء فيه: "لا يجوز تملّك أي حق عيني من أي نوع كان لأي شخص لا يحمل جنسية صادرة عن دولة معترف بها، أو لأي شخص إذا كان التملك يتعارض مع أحكام الدستور لجهة رفض التوطين."[7] وعلى الرغم من عدم ورود اسم الفلسطيني صراحة، فإن كل كلمة فيه تدل على الفلسطيني الذي حُرم، ليس فقط من التملك ما بعد صدور القانون، وإنما حُرم الورثة من حق تسجيل العقارات بأسمائهم، الأمر الذي اضطر الكثيرين إلى بيع عقاراتهم بأسعار بخسة، أو تسجيلها بأسماء لبنانيين، وأحياناً فقدوها بسبب استيلاء أولئك عليها.

إذاً، غُلِّب اختصار الحقوق كلها بحق العمل، واختصار حق العمل بحملة وزارة العمل وإجراءات الوزير، وبالتالي ضاعت المطالبة بجميع الحقوق، وغُيّبت الجهة المتوجب التوجه إليها فيما يتعلق بتلك الحقوق، أي الحكومة اللبنانية ومجلس النواب؛ وكون الوزير محسوباً على جهة سياسية على خلاف وصراع مع قوى لبنانية أُخرى، وللطرفين حلفاء بين الفصائل، فإن الضوء تركز على هذا الوزير بصفته ممثلاً لجهة سياسية، الأمر الذي دفع هذه الجهة إلى مؤازة الوزير، ظالماً كان أم مظلوماً، بينما كان الأجدى، فلسطينياً، تحييد الانقسامات اللبنانية عن مطالب الحراكات الشبابية، وعدم نقل الانقسام الفلسطيني إلى الساحة الفلسطينية في لبنان، حيث سُجل تدخّل طرفي الانقسام: "فتح" ممثلة في عزّام الأحمد الذي أجرى محادثات رسمية وسياسية مع الأطراف اللبنانية، ووفد من "حماس" برئاسة عزت الرشق أجرى بدوره محادثات تناولت الشأن نفسه.

أمّا الفصائل، فسعت، ومنذ البداية، للحدّ من جذوة الاحتجاجات وإدارتها، أو لركوب موجة الاحتجاجات كي تكون في الواجهة، قبل أن تتمكن من وضع الاحتجاجات تحت السيطرة.

في اليوم العاشر لاحتجاجات المخيمات، وإقفال مداخل مخيم عين الحلوة، وكان يوم الجمعة الموافق فيه 26 / 7 / 2019، والذي شهد خروج المخيمات كلها بتظاهرات شارك فيها الآلاف، ضغطت الفصائل على شباب الحراك الاحتجاجي في عين الحلوة كي تُفتح المداخل يوم السبت من الصباح حتى السادسة مساء، فانسحب الشباب، وحلّ مسلحو الفصائل مكانهم، وعند الساعة السادسة مُنع شباب الحراك من إعادة إقفال المداخل، فتمّت السيطرة على الاحتجاج قبل أن يتحقق أي مطلب، حتى ولو كان معنوياً.

 

النار تحت الرماد

تمت السيطرة على الاحتجاج، لكن النار بقيت مشتعلة تحت الرماد، وضجّت وسائل التواصل الاجتماعي التي استخدمها شبان الحراك بكثافة، بكلمة "غدر"، وببثّ لقطات لتظاهرات بعد منتصف ليل السبت – الأحد تندد بغدر الفصائل وتشتمها، حتى إن بعض الناشطين على تلك الوسائل أعلن قبوله بـ "صفقة القرن"، بعدما كانت المخيمات قد فاضت بالمحتجين على الصفقة وعلى ورشة البحرين.

إلاّ إن مسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان مروان عبد العال، رأى أن الأمر ليس غدراً ولا استيلاء على الاحتجاجات ولا إدارتها، وإنما تنظيمها بما لا يسمح لأي طرف، داخلي أو خارجي، لاستخدامها في زعزعة أمن المخيمات، وإدخال الفلسطينيين في أتون مشكلات أمنية مع القوى العسكرية والأمنية اللبنانية.

وأعطى عبد العال مثلاً فحواه ما حدث في مخيم برج البراجنة، عندما أشعل مراهقون متهورون إطارات مطاطية ودحرجوها في اتجاه نقطة للجيش اللبناني الذي التزم الهدوء على الرغم من ذلك، فقام عناصر من الفصائل ومن الشبان الذين يشرفون على التظاهرة، بإبعاد هؤلاء عن الاحتجاجات، وجرى تلافي إشكال أمني كبير. ومن أجل مزيد من تأكيد أن التظاهرات لا تستهدف أحداً، وإنما هي تطالب بالحقوق، تم توزيع الورود على نقاط الجيش اللبناني كله على امتداد المخيمات، من الشمال إلى الجنوب.

كما يشير عبد العال إلى أن المخاوف باتت حقيقة عندما تم اغتيال الشاب حسين علاء الدين الملقب بـ "أبو حسن الخميني"، على يد مجموعة العرقوب الإرهابية، خلال تظاهرة في 2 / 8 / 2018.

وفي أعقاب عملية الاغتيال هذه، رُفع الغطاء عن مجموعة العرقوب، من طرف الأجهزة الأمنية اللبنانية ومن جانب الفصائل أيضاً، مثلما قال غ. ع. وهو متابع دائم لما يحدث في المخيمات، الأمر الذي مكّن من قتل بلال العرقوب واعتقال ابنيه يوسف وأسامة وتسليمهما إلى استخبارات الجيش اللبناني.

وتساءل غ. ع. وآخرون عن هذه السهولة التي مكّنت من إنهاء حالة الإرهابي العرقوب وأبنائه ومؤيديه الذين لا يزيدون على 20 عنصراً، والذين كان في السابق من المستحيل إنهاء حالتهم، مشيراً إلى أن مسألة المجموعات الإرهابية الموجودة في بعض مربعات عين الحلوة، برمّتها مسألة عليها أكثر من علامة استفهام، وتحمل مؤشرات إلى استخدامات أمنية محلية وإقليمية لها، وبالتالي، فإن وجودها في المخيم مفروض فرضاً على الفصائل وعلى الأهالي.

وبالعودة إلى ملاحظات عبد العال، فإنه أشار إلى أن استمرار إقفال مداخل عين الحلوة يسبب صعوبات كبيرة لسكان المخيم، وقد سُجلت حوادث مثل عرقلة تحرك طبيب من المخيم وإليه، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية داخل المخيم إلى أكثر من 10 أضعاف ثمنها الأصلي، علماً بأن سوق عين الحلوة كانت تجذب اللبنانيين من الجوار لأن أسعارها أقل كثيراً من الأسواق اللبنانية. وبالتالي توجب تنظيم الاحتجاجات لأسباب كثيرة، حفاظاً على الحراكات نفسها، وحفظاً للشباب الذين بادروا إلى إطلاقها بشكل عفوي وتجاوب معهم أهالي المخيمات.

قضية أُخرى كانت تُثار في تغريدات ومشاركات الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي، وهي التساؤل عن سبب التأخر في تضامن فلسطينيي الداخل معهم، والذي جاء لاحقاً عبر رسالة وجّهها باسم فلسطينيي الداخل محمد بركة، وتظاهرة يوم جمعة في غزة أُطلق عليها "تظاهرة جمعة مخيمات لبنان"، بعدما كان القطاع شهد فرحة بفوز منتخب الجزائر بكأس أفريقيا قبل أن يتنبّه الغزّيون إلى ما يحدث في مخيمات لبنان. كانت التغريدات تسأل: لماذا لا تتضامنوا معنا ونحن خرجنا نتضامن معكم في كل وقت؟

 

مستقبل أحلاه هجرة

لقد تمكنت الفصائل من تدجين الاحتجاجات في داخل المخيمات، لكنها أفلتت من يد الفصائل في خارجها، وبأشكال جديدة أو متجددة، فكان من ضمن ما اقترحه شباب الحراك، في الأيام الأخيرة قبل وضع اليد الفصائلية على حراك عين الحلوة، التوجه إلى الحدود اللبنانية - الفلسطينية ومحاولة الدخول إلى فلسطين، وإذا تعذر الأمر فالطلب من الأمم المتحدة، عبر القوات الدولية في الجنوب اللبناني، نقل اللاجئين الفلسطينيين إلى دول تحترم حقوق الإنسان.

هذه الدعوة التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، استدعت تحرّكين: أحدهما فلسطيني عبّر عنه وجود مسلح كثيف على مداخل المخيم، قال ناشطون في المخيم إنه من عناصر "فتح"، وآخر لبناني تمثل في اجتماع طارىء لمجلس الأمن الفرعي في الجنوب اللبناني في مدينة صيدا، وفي إعلان عدم عدم السماح بالتظاهرات ومظاهر الاحتجاج في صيدا التي كان من المقرر أن تنطلق منها حافلات تحمل المشاركين، وعبرها تمر حافلات قادمة من بيروت والشمال والبقاع.

لم تتجسد فكرة المسيرة إلى الحدود اللبنانية - الفلسطينية، لكنها لم تخبُ، إذ لا يزال شبان من الحراك الشبابي، وفق ما أبلغوه لـ "مجلة الدراسات الفلسطينية"، يضعون خططاً عملية مستفيدين من تسرّعهم في الدعوة الأولى، من أجل إتمام الفكرة وتجسيدها.

أمّا المظهر الآخر اللافت، فكان اعتصام أمام السفارة الكندية فاق المشاركون فيه 800 مشارك، وذلك بدعوة من أفراد مجموعة تشكلت وأطلقت على نفسها اسم "الهيئة الشبابية للجوء الإنساني – لبنان"، وأوصلوا خلاله رسالة إلى الحكومة الكندية، بقبول هجرة اللاجئين الفلسطينيين من لبنان ومن سورية إلى كندا. وقد تسلمت موظفة في السفارة مذكرة بهذا الشأن، وعدت بإيصالها إلى الجهات المختصة.

وخلال إنجاز هذا التحقيق، كانت الهيئة الشبابية تباشر تنظيم اعتصام آخر مقرر أن يتم أمام السفارة الأسترالية، ووفقاً لبعض المشاركين في تنظيم الحملة، وبناء على ما وصلهم من موافقات على المشاركة، فإن العدد ربما يفوق الـ 5000 مشارك.

اللافت للنظر في الحراك الجديد المطالب بحق الهجرة، هو الازدياد الكبير بعدد المشاركين، إذ في سنة 2014 كانت قد ظهرت مجموعة شبابية طالبت بالحق في الهجرة، ونظمت اعتصاماً أمام السفارة الكندية، لكن عدد المشاركين فيه لم يصل إلى 30 مشاركاً.

وبغضّ النظر عن بيانات التهويل الفصائلية (وخصوصاً بيان أصدرته حركة "فتح" في لبنان)، واتهام المنظمين بأنهم عملاء وينفذون خططاً ترتبط بـ "صفقة القرن"، وأن المشاركين مغرر بهم. أو ما صدر في صحف لبنانية من اتهامات للسفارة الكندية بترتيب وتنظيم وتمويل الاعتصام لتهجير الفلسطينيين خدمة لـ "صفقة القرن"،[8] فإن الثابت هو وصول اللاجئين الفلسطينيين إلى مستوى من الإحباط وفقدان الثقة بممثليهم السياسيين، وبخطابات حق العودة اللبنانية والعربية، وإلى مستوى يدفعهم إلى التفكير في التجمهر عند نقطة الناقورة الحدودية في محاذاة الحدود الفلسطينية، والاعتصام أمام سفارات تعتمد نظام الهجرة، كي يغادروا بلداً لم ينظر إليهم يوماً كبشر، وإنما كورطة أمنية واجتماعية.

 

 

[1] أحمد الحاج علي، "وزارة العمل تضيع بين حق الدولة وحقوق الفلسطينيين"، موقع "المدن" (16 / 7 / 2019)، في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/y2382x37

[2] فراس الشوفي، "حملة وزير القوات: 'البعبع' الفلسطيني مجدداً"، "الأخبار" (بيروت)، 18 تموز / يوليو 2019، في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/y5xq3enz

[3] انظر نصَّي قانون الضمان الاجتماعي (128 / 2010) والعمل (129 / 2010)، مثلما وردا في الجريدة الرسمية، في موقع لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني، في الرابط الإلكتروني التالي:

https://tinyurl.com/y4uxrybg

[4] انظر توزيع نسب الاشتراكات، في موقع لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/yxtkyww7

[5] انظر النسبة التي يستفيد منها الأجير الفلسطيني، في موقع الضمان الاجتماعي في الرابط الإلكتروني التالي: https://www.cnss.gov.lb/index.php/pubcirculars/pubcirc0437

[6] انظر خطة وزارة العمل والإعلان بشأن مباشرة الحملة ويومياتها، في الموقع الإلكتروني للوزارة في الرابط التالي:

https://www.labor.gov.lb/LatestNewsDetails.aspx?lang=ar&newsid=15201

[7] انظر النص الكامل للقانون 296 / 2001، في موقع مجلس النواب اللبناني في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/yyoqbtvv

[8] فراس الشوفي، "كندا تنظم تظاهرات لهجرة الفلسطينيين من لبنان: شراكة كاملة في صفقة القرن"، "الأخبار" (بيروت)، 8 آب / أغسطس 2019، في موقع "الأخبار" في الرابط الإلكتروني التالي:

https://tinyurl.com/yxh77wrv

السيرة الشخصية: 

منير عطاالله: صحافي لبناني.