الذهاب للأمم المتحدة: بداية جديدة أم استئناف قديم؟
التاريخ: 
16/09/2011
المؤلف: 

 

في 28 من شهر أيلول/سبتمبر الحالي تتقدم السلطة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة بمشروع الاعتراف بالدولة الفسطينية في حدود 67. وهذا قرار تأخر كثيراً. أكثر من 110 دول تعترف بالدولة الفلسطينية منذ سنوات. وفي هذه الحالة سيحظى المشروع بموافقة الغالبية الساحقة في الجمعية العامة، وإن كان لن يمر في مجلس الأمن لسبب وحيد، هو الفيتو الأميركي.

قرار السلطة تأخر كثيراً لأنه كان سينقذ القضية الفلسطينية لو أخذ به قبل عقد من الزمن من لعبة مفاوضات صممت لكي تكون متاهة سياسية وزمنية لا حدود لها. وجاء التأخير نتيجة تضافر عوامل عدة يأتي في مقدمها ضعف الأداء السياسي للقيادة الفلسطينية، والذي ترتب عليه الارتهان لسياسات مدمرة كثيرة فلسطينية، وعربية وغير عربية، وبالأخص منها السياسة الأميركية.

في البداية، ومع قناة أوسلو ارتكب الفلسطينيون خطأ الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، عندما قبلوا أولاً بفكرة المفاوضات المفتوحة من دون هدف سياسي محدد، ومن دون جدول زمني محدد أيضاً. وثانياً قبلوا بالرعاية الأميركية الحصرية للمفاوضات، وبالتالي الانزلاق في خطأ إقصاء الأمم المتحدة عن القضية الفلسطينية. ثالثاً تخلى فريق أوسلو عن خيار المقاومة كسند لخيار المفاوضات السياسي. وفوق ذلك، وهذا رابعاً، تم التهاون في قناة أوسلو بمبدأ ربط المفاوضات بوقف الاستيطان في كل الأراضي المحتلة من دون استثناء.

نتيجة لكل ذلك دخلت القيادة الفلسطينية في لعبة مفاوضات محكومة بتصور إسرائيلي ينطلق من رفض فكرة الدولة الفلسطينية، ويعتبر المفاوضات عملية مرنة ومفتوحة، ويجب ألا تكون مقيدة بأهداف سياسية معينة، أو جداول زمنية محددة، وأن يكون هدفها الأول والأخير معالجة مسألة الأمن الإسرائيلي.

ولأن المفاوضات ارتكزت منذ بدايتها، بدعم أميركي واضح، إلى هذا التصور، فقد تحقق الهدف المنشود من ورائها حتى الآن، وهو التأجيل المستمر لتناول المسائل الأساسية مثل حدود الدولة، واللاجئين وحق العودة، والقدس مما جعل فكرة الدولة الفلسطينية مستحيلة المنال من خلال خيار المفاوضات.

كان من الطبيعي، ومن المتوقع منذ البداية، أن هذه المفاوضات لن تفضي إلا إلى شيء واحد: المزيد من مصادرة الأراضي الفلسطينية، والمزيد من الاستيطان. وكان من المذهل حقاً أن قبلت القيادة الفلسطينية الانخراط في لعبة سياسية مكشوفة مثل هذه، ولأكثر من عشرين سنة.

من هذه الزاوية تأتي الأهمية القصوى للأخذ بخيار طلب الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية، وهو الخيار الذي يبدو أن السلطة الفلسطينية قد استقرت عليه، بغض النظر عن الموقف الأميركي.

رفض إسرائيل القاطع للخطوة الفلسطينية، ومجاراة إدارة أوباما الأميركية لإسرائيل في ذلك، واستعدادها لاستخدام الفيتو في وجه العالم، دليل قاطع على صحة هذه الخطوة، وأنها تصب في المصلحة الفلسطينية. بل إن الخطوة الفلسطينية تأتي في توقيت مؤات مع تصاعد موجة الثورات الشعبية العربية، من حيث أن هذه الموجة توفر إطاراً سياسياً مناسباً، خاصة على المستوى الدولي: فالقضية الفلسطينية قضية شعب ظلم وانتهكت حقوقه، ومصمم على استعادة استقلاله وحريته، وحقه في تقرير المصير. وكذلك هي القضية المركزية للثورات العربية من حيث أنها تعبر عن تطلعات الشعوب العربية للحرية والاستقلال أيضاً.

وعلى مستوى ما يعرف بعملية السلام، تنبع أهمية الخطوة من أنها سوف تكسر الحلقة المفرغة التي تحيط بفكرة الدولة الفلسطينية، وهي الحلقة التي نشأت نتيجة اشتراط الولايات المتحدة والرباعية الدولية بأن قيام هذه الدولة والاعتراف بها لن يحصلا إلا من خلال المفاوضات، الأمر الذي يتطلب موافقة إسرائيل باعتبارها الطرف الآخر في هذه المفاوضات.

لكن إسرائيل ترفض في العمق فكرة الدولة الفلسطينية، ولا ترى أن من مصلحتها التوصل في هذه المرحلة إلى سلام دائم في المنطقة، ومفهوم المفاوضات مصمم بحيث لا يؤدي إلى هذه النتيجة. من هنا فإن الحصول على اعتراف الأمم المتحدة بهذه الدولة يكسر هذه الحلقة، ويخرج فكرة الدولة الفلسطينية من لعبة الشروط المستحيلة التي يقوم عليها خيار المفاوضات حتى الآن.

اعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية يجعل منها الطرف الآخر في المفاوضات أمام إسرائيل، بدلاً من السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير: دولة لها حدود معروفة، وعاصمة معترف بها دولياً. قد لا تحصل الدولة الفلسطينية على العضوية الكاملة في المنظمة الدولية، بسبب الفيتو الأميركي. لكن هذا لن يقلل من شرعيتها، ولا من أهمية المضي في المشروع إلى نهايته.

السؤال الأهم من كل ذلك، والذي يفرض نفسه على خلفية تاريخ الأداء الفلسطيني منذ تسعينيات القرن الماضي، ذو شقين: ماهو موقف حماس الحقيقي من هذه الخطوة؟ هل حصل شيء من التنسيق بين السلطة وحماس حول هذا المشروع؟ تفجير الوضع على الحدود بين مصر وغزة وإسرائيل، وما رافقه، وما سيترتب عليه من تداعيات عسكرية وسياسية، يحمل شكوكاً وتساؤلات ذات صلة لا يمكن إغفالها، أو التقليل من آثارها على القضية، ومن ثم على المشروع. يوحي تسخين هذه الجبهة الحساسة، وفي هذه اللحظة تحديداً، بأن مشروع السلطة طلب اعتراف أممي بالدولة الفلسطينية ليس ضمن حسابات حماس. بل يبدو أن حماس ترى في نجاح المشروع ما يصب في مصلحة السلطة، ويعيد الحياة لمنظمة التحرير، وأن كل ذلك سيكون على حسابها، وحساب مستقبلها السياسي.

من ناحية أخرى، ربما قيل إن التصعيد يهدف إلى تخفيف الضغط على الحليف السوري لحماس الذي يواجه ثورة شعبية، وضغوطاً إقليمية ودولية غير مسبوقة. التصور الأخير يبدو منطقياً في سياق الأحداث. مهما يكن، إذا صح أي من هذين التصورين، أو كليهما، فإنه يمثل قمة عدم المسؤلية، والإفلاس الأخلاقي من جانب حماس، بما يؤكد المقولة التقليدية بأن القوى الفلسطينية هي المسؤولة قبل غيرها عن تعثر القضية، وأنها بذلك تتواطأ مع خصوم الشعب الفلسطيني.

هناك سؤال آخر يتعلق بالسلطة الفلسطينية نفسها: هل أن ذهابها للأمم المتحدة لطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية يمثل تغيراً حقيقياً في موقف السلطة من مسألة المفاوضات، والمقاومة، والدور الأميركي؟ أم لا يعدو كونه مناورة سياسية للضغط على الإسرائيليين والأميركيين حتى يكونوا أكثر مرونة في مواقفهم من الفلسطينيين؟ بعبارة أخرى، هل خطوة السلطة هنا جزء من استراتيجيا فلسطينية جديدة للخروج من مأزق المفاوضات بشكل نهائي، أم تنويع سياسي على اللعبة القديمة ذاتها؟

إذا كانت المسألة مجرد مناورة للضغط، فهي لن تحقق الكثير، بل ستقنع كلاً من الأميركي والإسرائيلي بأن استراتيجيا المفاوضات المفتوحة لا تزال هي الطريق الأصلح. وبالتالي لن تؤدي لأكثر من العودة إلى المربع الأول، مربع المفاوضات المفتوحة. وبهذا تكون السلطة قد خدعت الشعب الفلسطيني، وتعاملت مع تطلعاته بأدنى درجات الإحساس بالمسؤولية. القضية الفلسطينية في حاجة إلى استراتيجيا جديدة تستند إلى عنصرين أساسيين: اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، ثم الانطلاق من ذلك للجمع بين المقاومة والمفاوضات. والمقاومة لا تعني العمل العسكري وحسب: هناك التظاهرات، والانتفاضات الشعبية، والعصيان المدني. في كل الأحوال لا بد في الأخير من إخراج القضية الفلسطينية من المأزق الذي بقيت أسيرة له منذ بدايتها: ضيق الأفق السياسي للفصائل الفلسطينية، والارتهان لوضع لا يتسع إلا لمقاومة من دون برنامج سياسي، أو لبرنامج سياسي من دون مقاومة. وما بينهما تستمر الصراعات الفلسطينية من دون أفق، وتستمر القضية في التآكل.

 

عن المؤلف: 

خالد الدخيل: كاتب وباحث سعودي، عضو مجلس تحرير "مجلة الدراسات الفلسطينية".