وقع الانتفاضات الشعبية الديمقراطية على الحركة السياسية الفلسطينية
التاريخ: 
22/07/2011
المؤلف: 

 بان المشهد الفلسطيني باهتاً أمام الانتفاضات العربية الشعبية الديمقراطية. الحدث الأبرز، حتى اللحظة، تمثل بإعلان حركتي فتح وحماس موافقتهما، بالخطوط العريضة، على إنهاء حالة الانقسام، وهو الإعلان الذي دفع بالبعض إلى اعتبار أن توصل أكبر تنظيمين فلسطينيين لهذا الإعلان هو بحد ذاته ثورة وإن لم تأخذ الأشكال التي اتخذتها الانتفاضات الشعبية العربية. 

الاتفاق حدث هام ويلقى التأييد الشعبي الواسع، ليس لأنه يهدف إلى توحيد الحركة الوطنية الفلسطينية فحسب، بل للتوجس أيضاً من تعدد التحديات والمعوقات أمام تنفيذه. وهي تحديات وعقبات داخلية (لاعتبارات وتطلعات تخص كلاً من الفريقين المتنافسين وتطلعهما إلى السلطة)، وخارجية (ليس أقلها موقف كل من إسرائيل والولايات المتحدة اللتين بدأتا فور الإعلان عنه عرقلة استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية).

الاتفاق بالخطوط العريضة أتى على خلفية التحولات الثورية التي شهدها ويشهدها العالم العربي، وعلى خلفية المتغيرات في اصطفاف القوى العربية الناتجة عن زوال نظام مبارك نتيجة الانتفاضة الشعبية المصرية، وما تشهده سورية من حراك شعبي ديمقراطي. الانتفاضات الشعبية العربية لقيت وتلقى تأييداً شعبياً فلسطينياً واسعاً، خاصة أنها قادت إلى رحيل ديكتاتوريات لم تكن صديقة لشعوبها ولا للقضية الفلسطينية، ولاستبشار الفلسطينيين بأن الديمقراطيات العربية ستكون سنداً فعلياً لنضال الشعب الفلسطيني.

بهتان حالة الحراك الفلسطيني (الشبابي والشعبي) قياساً بما جرى ويجري في العالم العربي يجد تفسيره في عدد من العوامل التي تخص واقع وبنية الحركة السياسية الفلسطينية وتشتت تجمعات الشعب الفلسطيني على حقول سياسية عدة. لقد كانت تأثيرات الانتفاضات الشبابية والشعبية العربية محدودة على الحراك لفلسطيني لأسباب من أبرزها:

أولا، من أبرز العوامل التي جعلت الحراك الشبابي (والشعبي)  الفلسطيني أكثر تعقيداً من مثيلاته في الدول العربية التداخل بين القضية الديمقراطية (بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية) والقضية الوطنية (قضية تحرر وطني من استعمار استيطاني). هذا صعّب على الحراك الشعبي امتلاك شعار قادر على التعبئة الشبابية والشعبية. وزاد من تلك الصعوبة تباين الظروف السياسية والاجتماعية للتجمعات الفلسطينية الرئيسية (مناطق 1948، الضفة والقطاع، ومناطق اللجوء والشتات). هذا الوضع عكس نفسه في ترتيب أولويات التوجهات السياسية الوطنية والاجتماعية في هذه التجمعات (التركيز على حق العودة في الشتات وعلى تحرير المخيمات من الوصاية الأمنية، إنهاء الاحتلال الاستيطاني لدى الفلسطينيين في الضفة الغربية ورفع الحصار عن قطاع غزة لدى فلسطينيي القطاع، والخلاص من التمييز العنصري  وفرض الإقرار بالحقوق القومية للأقلية الفلسطينية في إسرائيل): يربط بين  مجمل هذه الأهداف النضال من أجل التحرر الوطني ومن أجل تقرير المصير.

كان من السهل استيعاب مطلب الحراك الشبابي المطالِب بإنهاء الانقسام من قبل حركتي  فتح وحماس فكلاهما أيد هذا المطلب، وكلاهما أيد  مطلب إنهاء الاحتلال  الذي رفعته مجموعات من الشباب في الضفة والقطاع وفي الخارج. كما كان إجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني من الأمور التي اتفقت عليها التنظيمات السياسية الفلسطينية في اجتماعات القاهرة، وانتخابات أعضاء المجلس الوطني أمر ينص عليه القانون الأساسي لمنظمة التحرير. بتعبير آخر لم تشكل الشعارات التي رفعها الشباب الفلسطيني في رام الله وغزة تحدياً جدياً للسلطة في كل من الموقعين. هذا لا يعني أن الحراك الشبابي رغم محدوديته  وعدم تحوله إلى حراك شعبي كان عديم  التأثير في  تهيئة أجواء الإعلان عن الاتفاق على الخطوط العريضة للمصالحة بين فتح وحماس، لكن العامل الأهم والأكثر وزناً يعود إلى التحولات الديمقراطية في المنطقة، وتحديداً ما حدث في مصر وما يمثله الحراك الشعبي في سورية. ومن اللافت أن أياً من التنظيمين  المذكورين  لم يأخذ موقفاً مؤيداً للانتفاضات الشعبية الديمقراطية وأهدافها من حيث المبدأ.

ثانياً، يوجد حضور ملموس وواسع نسبياً (مقارنة ببقية الدول العربية) للفصائل السياسية بين صفوف الشعب الفلسطيني؛ فما زالت نسبة عالية من الجمهور الفلسطيني  (وإن شهدت بعض التراجع في السنوات الأخيرة) تؤيد أحد الفصائل السياسية (الغالبية من هؤلاء تؤيد إما حركة فتح أو حركة حماس). هذه الفصائل بقيت حذرة من الحراك الشبابي (وتحوله إلى حراك شعبي) إذ رأت فيه منافساً لدورها وسلطتها مما دفعها إلى السعي إلى استيعابه أو تقييد حركته. ما يلفت الانتباه أن نسبة الشباب (ما بين سن 18 وسن 35) الذين فقدوا الثقة بالتنظيمات السياسية في تزايد، وبلغت، في الأشهر الأخيرة من العام الحالي، وفق بعض استطلاعات الرأي نحو 60%.

ثالثاً، واجهت الحركة الشبابية بشكل خاص وتحركات نشطاء المجتمع المدني بشكل عام، سلطتين  متنافستين، الأولى مازالت تقبع تحت استعمار استيطاني منذ العام 1967، والثانية تعيش حالة حصار عسكري خانق منذ عدة سنوات.  هذا الحال وضع قيوداًً على سقف المطالب الاجتماعية، وإن أبقى المجال متاحاً للتحرك في  قضايا قمع الحريات الديمقراطية وقضايا الفساد وغياب استراتيجية واضحة وموحدة للخروج من المأزق الوطني بالإضافة إلى الضغط  المتصل من أجل إنهاء الانقسام في الحقل السياسي الوطني.

رابعاً، لا تشكل ظاهرة الانتفاضة الشعبية (التي يقوم الشباب بدور رئيس فيها) ظاهرة جديدة في التاريخ السياسي الفلسطيني. فقد قامت انتفاضات فلسطينية ضد الاستعمار والاحتلال من أجل التحرر الوطني. لكن الأوضاع الإقليمية والدولية (حيث الخلل الفادح في ميزان القوى) والذاتية الفلسطينية لم تمكن الانتفاضتين الأخيرتين (الأولى اندلعت في أواخر العام 1987 والثانية في أواخر أيلول 2000) من تحقيق أهدافهما في دحر الاحتلال.

خامساً، لا بد من الإشارة إلى أن السمة الريعية للسلطة السياسية (الاعتماد على الريع من بيع المواد الخام أو المساعدات الخارجية وليس عبر الحصول على جزء من فائض إنتاج المجتمع عبر الضرائب المباشرة وغير المباشرة) وبخاصة إن ترافقت مع تدني درجة اندماج المجتمع اقتصادياً وتواصله جغرافياً  تعيق تنامي الحراك الشعبي، كما تمنح السلطة قدرة أعلى على رشوة شرائح من المجتمع (عبر رفع الرواتب أو المساعدات للعائلات المستحقة أو تقليص الضرائب، الخ). وكل من السلطتين (في الضفة وفي قطاع غزة) لها سمات ريعية (الاعتماد على المساعدات والريع الخارجي). وربما كان هذا وراء التردد في طرح شعار حل السلطتين لما سيترتب عليه لناحية البطالة وتراجع الخدمات العامة وزيادة التجزئة الجغرافية، وبخاصة إن لم تسبق هذا الإجراء إعادة بناء منظمة التحرير على أسس ديمقراطية كمؤسسة وطنية جامعة وممثلة لتطلعات مكونات الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية وخارجها.

الأثر الأبرز والأكثر مباشرة على الحركة السياسية الفلسطينية يتمثل في سقوط نظام حسني مبارك في مصر، وتداعيات هذا على صعيد اصطفاف القوى الإقليمية (على ما يعرف بمعسكري الاعتدال والمقاومة) والذي غذّى في السابق حالة الاستقطاب الحاد بين فتح وحماس وقيام سلطتين متنافستين تحت الاحتلال وتحت الحصار.  لقد لاحظنا السرعة التي تم فيها البعد في تفكيك الاستقطاب بمجرد تفكك الاصطفاف الإقليمي على أثر سقوط نظام مبارك في مصر وانشغال سورية بحراكها الداخلي. وما إن تفكك الاستقطاب الإقليمي المغذي للانقسام الفلسطيني حتى بدأت الضغوط  والتهديدات الإسرائيلية والأميركية من أجل إبقاء الانقسام الفلسطيني لما يشكله من مصدر ضعف بنيوي للحركة الوطنية الفلسطينية.

مع استعادة مصر لدورها الإقليمي كمركز للعالم العربي ومع بداية تبلور اصطفافات إقليمية جديدة وتحديداً بين مصر وتركيا وإيران وما يعنيه هذا من مواجهة  لدور إسرائيل وسياسة الولايات المتحدة إزاء المنطقة، بات بالإمكان الحديث عن بدء مرحلة جديدة أمام الحركة الوطنية الفلسطينية ستتضح معالمها مع اتضاح معالم الاصطفاف الجديد في المنطقة. وأمام  الحركة الفلسطينية فرص تتسع وتضيق وفق قدرة قيادتها على تجديد نفسها انسجاماً مع التحولات المتولدة عن  الثورات الشعبية الديمقراطية العربية، وما تمثله من موازين قوى جديدة سوف تفاقم من عزلة إسرائيل الإقليمية والدولية وترسخ من خسارة الولايات المتحدة لمواقع هامة في المنطقة لن يكون من السهل استعادتها  أو التعويض عنها رغم أنها ستحاول ذلك جاهدة. إدراكاً لهذا  باتت أوساط الشباب الفلسطيني في الضفة والقطاع  وكذلك أوساط من المجتمع المدني تعد العدة ليكون دورها في الأشهر المقبلة التعبئة الداخلية  للضغط على حركتي فتح وحماس من أجل تطبيق بنود اتفاق المصالحة بما فيها تشكيل حكومة وفاق وطني وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ومجلس وطني جديد، إدراكاً منها للصعوبات الكبيرة المتوقعة أمام تنفيذ الاتفاق، سواء من شرائح اجتماعية في الضفة والقطاع لها مصلحة في مواصلة الانقسام، أو من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، وبعض الدول العربية التي تفقدها المصالحة مواقع تدخل في الحياة السياسية الفلسطينية تخدم استراتيجياتها.

من البديهي أن تدعم التحولات الديمقراطية في الإقليم العربي دمقرطة بنى التنظيمات السياسية (الفصائل) الفلسطينية وتدفع نحو تحفيزها لتجديد قياداتها والتخلي عن حالة الخمول والتكلس التي أصابتها. كما ستوفر الحوافز لإعادة بناء منظمات المجتمع المدني غير السياسية على أسس ديمقراطية، وتحديداً الاتحادات الشعبية والنقابات العمالية والمهنية. كما من المتوقع أن تساهم التحولات الديمقراطية في الدول التي تقيم فيها تجمعات فلسطينية (في المخيمات وخارجها) في تعزيز الترابط بين مكونات الشعب الفلسطيني وتسهيل  التفاعل بينها  ورفع الوصاية الأمنية عن المخيمات الفلسطينية ومنح أبنائها حقوقهم المدنية والسياسية. لقد خلّف انسداد الأفق السياسي أمام قيام دولة فلسطينية بالمفهوم الوطني الفلسطيني بفعل السياسة الإسرائيلية الاستعمارية والعنصرية تعاضداً أوسع وتفاعلاً آخذاً في الاتساع بين الفلسطينيين على جانبيّ الخط الأخضر. كما ولّد إدراكاً أعمق بما قاد إليه اتفاق أوسلو من تمزق وإحباط، وبضرورة تمتين الصلات بين التجمعات الفلسطينية، وخصوصاً بين الشباب.

ويتضح هذا من الاستخدام المتزايد لشبكات التواصل الاجتماعي الشبابية وللتواصل بين منظمات المجتمع المدني الفلسطينية وعقد الندوات والمؤتمرات المشتركة. كما فتحت الانتفاضات الشعبية الديمقراطية، والسلمية منها تحديداً، نقاشاً واسعاً حول أشكال المقاومة الأكثر تلاؤماً مع خصوصيات كل تجمع فلسطيني (داخل فلسطين التاريخية وخارجها). كما طرحت أهمية أن تحافظ المقاومة، بأشكالها المختلفة، على ارتباط وثيق ومتجدد مع قيم التحرر والمساواة والعدالة الاجتماعية.