السؤال ليس لماذا اندلعت الثورات العربية، بل لماذا تأخرت اربعة واربعين عاما عن موعدها؟
السؤال ليس كيف نجحت الشعوب في اسقاط جدار الخوف، بل كيف استطاع الخوف بناء ممالك الصمت العربية طوال خمسة عقودً؟
هذان هما السؤالان الكبيران، الذي يشكل الجواب عليهما مدخلاً لفهم موقع الخامس من حزيران في تاريخنا العربي المعاصر.
ليست الثورات العربية رداً مباشراً على الهزيمة المروعة التي منيت بها الجيوش العربية في حرب حزيران 1967، ولا يمكن وضعها في هذا السياق، لكنها في المقابل اسقطت النظام العربي الجديد الذي اسسته الهزيمة.
هكذا وبدل ان نشهد مع الهزيمة الحزيرانية هزيمة النظام، شهدنا تأسيس نظام الهزيمة.
اسقطت الهزيمة القناع عن الديكتاتورية العسكرية، وكشفت ان عقب أخيل الناصرية يتجسد في مصدر قوتها. اي ان نقطة الضعف القاتلة كانت الجيش الذي كان مصدر شرعية المشروع السياسي الشعبوي برمته. نجاحات مصر الناصرية وخطابها القومي، وانجازاتها على الصعيد الاجتماعي، لم تكن كافية كي تحجب الطبيعة الانقلابية للنظام التي قادت الى هزيمة لم تكن حتمية بأي حال من الأحوال.
وللأسف فإن الدرس الذي استخلصه عبدالناصر، عبر الغاء اقطاعات الجيش، لم يكن كافياً، لأن موت ناصر المفاجيء عام 1970، اعاد الواقع السياسي الى المربع الأول، وقاد الى ترجمة الهزيمة في اتفاقات كامب دايفيد، وهي اتفاقات ابرمت بعد انتصار عربي جزئي!
كان لا بد من حرب تشرين 1973، كي تتحول الهزيمة الى نظام سياسي جديد، قائم على ديكتاتوريات لا تستخدم سوى لغة العنف والقمع، وتجهز على المنجزات الاجتماعية القليلة التي حققتها في مرحلتها الشعبوية.
لم تكن الهزيمة حتمية، لذا لا يمكن مقارنتها بنكبة 1948. في النكبة كان المشرق العربي خاضعا لأنظمة لم تستكمل تأسيسها، بعضها غارق في الفساد، وبعضها الأخر يفاوض الاسرائيليين سرا على تقسيم فلسطين، مثلما اوضح المؤرخ الاسرائيلي آفي شلايم. وكانت المحرقة النازية الوحشية عائقا امام اي موقف عقلاني اوروبي في فلسطين، اضافة الى اجتماع مصالح القوتين العظميين الجديدتين على تقليص نفوذ الاستعمار القديم... اما الهزيمة الحزيرانية، فكانت فضيحة عسكرية وسياسية واخلاقية، على كل المستويات. ميزان القوة العسكري لم يكن في صالح اسرائيل مثلما كان الوضع عام 48، بل يمكن القول ان شبه تكافوء عسكري كان قائما على المستوى النظري. لكن ما كشفته الهزيمة ليس بلادة القيادات العسكرية العربية فقط، بل عجزها الكامل بسبب الطبيعة الاقطاعية المافيوية للجيوش ما جعل الهزيمة فضيحة لم تستطع بلاغة ناصر الخطابية اخفاءها.
لكن الكارثة حلت حين تحولت الهزيمة الى نظام سياسي. فبعد غياب ناصر تحوّل مغتصبو السلطة الى مجموعة من صغار الطغاة الذين يجدون شرعيتهم في شعارات قومية ضبابية، ويؤسسون لأنظمة المافيا، التي وصلت الى ذروتها في التهريج الدموي ومشاريع التوريث.
هذا النظام العربي الذي يتداعى اليوم امام اعيننا، هو ابن الهزيمة واحد ابرز نتائجها. لذا سوف يكون سقوطه المتأخر، اعلانا بولادة مرحلة جديدة في العالم العربي، لا بد وان تكون انعكاساتها كبيرة على القضية الفلسطينية وعلى الصراع العربي- الاسرائيلي.
اليوم فقط يبدأ الخامس من حزيران في التحول الى ذاكرة. كان لا بد من سقوط نظامه كي نقرأ الهزيمة بعيون نقدية، ونستخلص منها درسها الأكبر، وهو ان الديكتاتورية لا تصنع سوى الهزيمة.
اما لماذا تأخرت الثورات العربية خمسة عقود، فهذا هو السؤال الأكبر بعد سقوط انظمة الهزيمة، والجواب عليه سوف يكون مؤشرا لمستقبل العرب، وهم يصارعون كي يبدأوا حريتهم ويصنعوا الديموقراطية.