حكومة نتنياهو- ليبرمان: أساليب مبتكرة للتنكيل بالأسرى الفلسطينيين
التاريخ: 
03/09/2011
المؤلف: 

 تمهيد:

منذ نكبة الفلسطينيين وقيام دولة إسرائيل، العام 1948، على أرضهم، وعلى حساب حقوقهم، اشتد الصراع، وأصبح السجن، (كما الاستشهاد والجرح والنفي)، مفردة مرافقة للفلسطينيين كظلهم.

تشير أحدث الإحصاءات إلى أن نحو 800 ألف فلسطيني اعتقلوا لفترات متفاوتة، أي ما نسبته 25% من الفلسطينيين المقيمين في فلسطين، علاوة على الآلاف من المواطنين العرب. وتفيد إحصاءات مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، أن عدد الأسرى الفلسطينيين، (حتى بداية شهر تموز/يوليو 2011)، يقرب من 5550 أسيراً وأسيرة، يتوزعون على 23 سجناً ومعتقلاً ومركز توقيف وتحقيق.

ويرتبط التفاوت في عدد الأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية بتغير كثافة الاعتقالات شبه اليومية، المرتبطة بدورها بتحولات حدة الصراع. وكمثال، فقد سجلت سنوات الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى (1987-1993)، ارتفاعاً مذهلاً في عدد الأسرى الفلسطينيين، حين لم يعد بمقدور عشرات السجون القائمة استيعاب عشرات الآلاف من المعتقلين الجدد، ما اضطر سلطات الاحتلال إلى افتتاح عدد جديد من المعتقلات العسكرية، كان بينها معتقل النقب الصحراوي ذو الطاقة الاستيعابية العالية، والذي افتُتح العام 1988.

وبعد توقف الانتفاضة، بعد اتفاق أوسلو العام 1993، وتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية العام 1994، أغلقت سلطات الاحتلال هذه المعتقلات قبل أن تعود وتفتحها من جديد في أعقاب اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول/سبتمبر 2000.

سياسة إسرائيل تجاه الإفراج عن الأسرى   

انتهجت إسرائيل سياسة عدم الإفراج عن الأسرى من دون انتهاء مدة الحكم الصادر بحقهم، إلا في حالتين:

الأولى: الإفراجات التي تتم ضمن ما يسمى بسياسة "حُسْنِ النوايا" ذات الأغراض السياسية، وتقتصر على الإفراج عن أسرى من ذوي الأحكام الخفيفة، وممن تبقى شهور، وأحياناً أيام، على انتهاء مدة محكومياتهم. ومثال ذلك، ما تم من إفراجات عامي 2003، و2007، في إطار إبداء "حسن النية" تجاه الرئيس الفلسطيني، أبو مازن، وسياسته السلمية، وجاءت، وإن بأعداد أقل، على غرار الإفراجات التي تمت بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، التي وإن شملت عدداً كبيراً من الأسرى، غير أنها تمت في إطار سياسة "حسن النوايا". حيث كانت إسرائيل وأجهزتها الأمنية وقتها، هي من حدد عدد ونوعية الأسرى المُفرج عنهم، ولم يشمل الإفراج ذوي الأحكام العالية والمؤبدة، أو ذوي "الأيدي المُلطخة بالدم" وفقاً للتصنيف الأمني الإسرائيلي، الذي يضمر التحريض وتبرير القمع، وحال دون اشتمال إفراجات أوسلو على ما يُعرف بقدامى الأسرى، منهم 367 أسيراً، كانوا قد اعتقلوا قبل توقيع الاتفاق، وما زالوا في السجن، على الرغم من مرور عقود على اعتقالهم.

الثانية: الإفراجات التي تُجبر الحكومات الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية على تنفيذها، مقابل الإفراج عن جنود إسرائيليين، وقعوا في الأسر أثناء الحروب، أو تعرضوا للأسر جراء عمليات مقاومة خاصة تستهدفهم.     

إزاء هذه السياسة الإسرائيلية الثابتة تجاه الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين والعرب، أصبح أسرُ جنود إسرائيليين واختطافهم، الإمكانية الوحيدة لإجبار الحكومات الإسرائيلية على الإفراج عن آلاف الأسرى العرب والفلسطينيين، خاصة من ذوي الأحكام المؤبدة. فمنذ العام 1948، اضطرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى إبرام قرابة 35 صفقة تبادل للأسرى، إن كان مع الدول العربية أو مع فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية.

جندي إسرائيلي وآلاف الأسرى الفلسطينيين

واليوم تعود قضية الأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية إلى الواجهة، في ضوء تفاقم معاناتهم، جراء تعرضهم لحملة غير مسبوقة من إجراءات القمع والتنكيل، باشرت تنفيذها "مديرية مصلحة السجون العامة"، ترجمةً لقرار سياسي صريح، كانت قد اتخذته الحكومة الإسرائيلية، وأعلنه رئيسها، بنيامين نتنياهو، عبر وسائل الإعلام بتاريخ 25-6-2011، بمناسبة مرور خمس سنوات على أسر الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليط في 25-6-2006.

وترى المؤسسات الفلسطينية، الرسمية والشعبية، المعنية بمتابعة شؤون الأسرى الفلسطينيين، ومثلها ترى المجموعات الإسرائيلية الضاغطة لاستعادة الجندي غلعاد شاليط، أن قرار الحكومة الإسرائيلية تصعيد وتيرة ونوعية إجراءات القمع والتنكيل بحق الأسرى الفلسطينيين، هو قرار سياسي انتقامي، يجتر وسيلة ضغط مكرَّرة فاشلة، كانت جربتها الحكومة الإسرائيلية السابقة لتحسين شروط  صفقات تبادل الأسرى. وترى هذه المؤسسات، أيضاً، أن قرار حكومة نتنياهو، إنما جاء للتهرب من مسؤولية فشلها في استعادة الجندي شاليط بوسائل أمنية من جهة، وإفشالها لإتمام صفقة مبادلته بالإفراج عن أسرى فلسطينيين من جهة ثانية.

تهيئة إعلامية

كان لافتاً للنظر خلال الشهرين الأخيرين الحملة التحريضية التي شنتها وسائل الإعلام الإسرائيلية بأشكالها المختلفة، فضلاً عن ما يواليها من وسائل إعلامية أجنبية وفي مقدمتها الأميركية، غير المسبوقة على الأسرى الفلسطينيين، عبر نشر تقارير وصور تُظهر كأنهم يعيشون، خلافاً للجندي الإسرائيلي شاليط، في "بحبوحة" منقطعة النظير، ويتمتعون بشروط اعتقال غاية في الإنسانية.

أكثر من ذلك، جرى تصوير هؤلاء الأسرى وكأنهم يشكلون خطراً على أمن دولة إسرائيل ومواطنيها، حتى وهم داخل قضبان السجن، جراء ما يقومون بتهريبه من أجهزة اتصال خلوية حديثة، تعلم أجهزة الأمن الإسرائيلية أنها محدودة أولاً، وأن استخدامها يقتصر على الأغراض الإنسانية ثانياً، وأن وجودها أصبح ذريعة لشن حملات من المداهمات الليلية لغرف الأسرى وزنازينهم، تتم خلالها عمليات تخريب للمقتنيات، وتفتيش عار مهين للأجساد ثالثاً، علماً أن لجوء الأسرى الفلسطينيين إلى تهريب هذه الأجهزة كان نتيجة حرمانهم من حق الاتصال بذويهم، كحق متاح للأسرى اليهود، وللأسرى الجنائيين عموماً.

لقد تجاهل قرار الحكومة الإسرائيلية، وتجاهلت الحملة الإعلامية التي هيأت له، بصورة متعمدة، الإشارة إلى ما يتعرض له الأسرى من عمليات قمع وتنكيل، وانتهاك للحقوق، وإجراءات عقابية، تشمل كافة مناحي الحياة: التدني الكمي والنوعي للتغذية والعلاج الطبي، والتقييد المُبرمج للتنقل والحركة داخل السجن، المحدودية في مدة زيارات الأهل وعدم انتظامها، والصرامة في القيود على التعليم ونوعية الكتب المسموحة، والضآلة في مدة ونوعية الرياضة المسموح بها، والقسوة في إجراءات سياسة العزل والحبس الانفرادي لسنوات، والمرارات التي يسببها الاكتظاظ السكني، والتقييدات المفروضة على مدة وكيفية النزهة اليومية، الكثافة والقسوة في تفتيش الغرف والمقتنيات والجسد، وعمليات الاعتداء والضغط الجسدي والنفسي المبرمجة، و...الخ

وتشير التقارير والدراسات التوثيقية، (الزاخرة بالشهادات والصور والأرقام)، الصادرة عن المؤسسات الحقوقية المعنية بمتابعة انتهاكات حقوق الأسير الفلسطيني، إلى فظاعة ما ترتكبه "مديرية مصلحة السجون العامة" الإسرائيلية من عمليات تنكيل وقمع ممنهجة بحق الأسرى الفلسطينيين. فقد "حوصر الأسرى في تفاصيل حياتهم، وطبقت إجراءات مشددة على حركتهم وأحاديثهم، وتمت ملاحقة كتاباتهم وأقلامهم ودفاترهم... ضُربوا بالغاز والعصي وأعقاب البنادق، حُشروا في زنازين ضيقة، عاشوا بين الرطوبة والحشرات وقلة العناية الطبية، حُرموا من زيارات أهاليهم لسنوات عديدة. لقد عُزلوا تماماً عن العالم، سُحبت مقومات الحياة منهم وصولاً إلى السجائر وشفرات الحلاقة، وعوقبوا بإغلاق صنابير الماء وقطع الإنارة عن غرفهم وزنازينهم، وعانوا من البرد القارس والحر الشديد، تعفنوا بسبب قلة النظافة والاستحمام وانتشار الأمراض...حاول السجانون أن يدوسوا على كرامتهم الإنسانية بالتفتيش العاري المذل، وذاقوا مرارات الجوع والحرمان والمصير المجهول، وقعوا تحت رحمة بطش السجانين وقسوة المحققين وعنصرية القضاة في المحاكم العسكرية وغياب القانون". (مقتطف من تقرير صادر عن نادي الأسير الفلسطيني عام 2006).

نضال مديد ومكتسبات مُنتزعة مُهددة

وتناسى قرار حكومة نتنياهو، وتناست الحملة الإعلامية الإسرائيلية التي تجنَّدت لصالحه، أنه إزاء هذا الواقع غير الإنساني، لم يبقَ أمام الأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية سوى تنظيم أنفسهم وتوحيد صفوفهم، وممارسة أشكال متعددة من الخطوات النضالية، لتحسين شروط اعتقالهم، كان خوضُ عشرات الإضرابات المفتوحة والجزئية عن الطعام عنوانها الأبرز.

وبهذا النضال المديد، تمكَّن الأسرى الفلسطينيون، وإن لم ينجحوا في فرضِ التعامل معهم كأسرى حرب على أساس اتفاقية جنيف، من فرضِ التعامل معهم كجسم منظَّم مناضل، وانتزاعِ العديد من المكتسبات والإنجازات لتحسين شروط اعتقالهم. لكن هذه المكتسبات والإنجازات ظلت تخضع للسحب من قِبَلِ "مديرية مصلحة السجون العامة"، الذراع التنفيذية للسياسة الرسمية الإسرائيلية تجاه الأسرى، التي لا تعترف أن للأسرى الفلسطينيين حقوقاً، بل احتياجات "ممنوحة" يجري التراجع عنها كلياً أو جزئياً، ويتم استخدامها كأوراق ابتزاز مع الأسرى، كجماعة حيناً وكأفراد حيناً آخر، ما يجعل موضوع تحويل المكتسبات النضالية المُنتزعة إلى حقوق موضوعاً نضالياً صراعياً مفتوحاً ودائماً. وذلك ارتباطاً برفض السياسة الإسرائيلية التعامل مع الأسرى العرب والفلسطينيين كأسرى حرب، وبالتالي عدم الإقرار بما تقره لهم الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية من حقوق.

ففي أحسن الحالات يسمي الإسرائيليون الأسرى الفلسطينيين بـ"السجناء الأمنيين"، تمييزاً لهم عن الأسرى الجنائيين، لكن في جميع الحالات، ظلوا يسمونهم بـ"المُخربين" تارة، وبـ"الإرهابيين" تارة أخرى، لتسويغ وتبرير ما ارتكب بحقهم، ولا يزال، من أشكال القمع والتعذيب والتنكيل، أسفرت فيما أسفرت، وفقاً لمعطيات وزارة شؤون الأسرى والمحررين في السلطة الفلسطينية، عن استشهاد 187 أسيراً منذ العام 1967، كرقم لا يشمل نحو 50 شهيداً جرى إعدامهم ميدانياً بعد إلقاء القبض عليهم خلال سنوات انتفاضة أيلول/سبتمبر 2000.

مرتكزات السياسة الإسرائيلية لتبادل الأسرى:

تشير المراجعة المتأنية لما تم من صفقات تبادل للأسرى مع الحكومات الإسرائيلية، إلى وجود مرتكزات ثابتة، نظَمَت، ولا تزال، السياسة الإسرائيلية، (بمعزل عن تبدُّل اللون الحزبي للحكومات)، في إبرام هذه الصفقات، ولعل أهم هذه المرتكزات:

1: اللجوء إلى استعادة الأسرى والمختطفين من الجنود الإسرائيليين بالقوة كخيار أول، يتلوه التبادل كخيار ثاني، وبعد فشل الخيار الأول فقط.

2: التشدد إلى أقصى الحدود قبل الإقدام على خيار التبادل في حال جرى الاختطاف داخل فلسطين المحتلة، حتى لو أدى الأمر إلى قتل "الخاطف" و"المخطوف" معاً، كما حصل مع الجندي الإسرائيلي المُختطف، نحشون فاكسمان، الذي قتلته مع مختطفيه من الفلسطينيين قوة عسكرية إسرائيلية العام 1994 في بلدة بير نبالا الواقعة بين رام الله والقدس.

3: رفض التعامل مع العرب كطرف واحد، والإصرار على إبرام الصفقات مع كل طرف عربي على حدة، والتشدد ما أمكن حيال اشتمال صفقات تبادل الأسرى مع أطراف عربية على أسرى فلسطينيين.

4: التمييز في صفقات التبادل التي تخص الأسرى الفلسطينيين بين فئة وأخرى، والتشدد ما أمكن قبل الإفراج عن ذوي الأحكام المؤبدة، أسرى القدس والأسرى من الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1948، على اعتبار أنهم "مواطنون إسرائيليون". وكانت صفقة التبادل الشهيرة التي جرت العام 1985، قد كسرت هذا التمييز، وشكلت سابقة، ما زالت تثير جدلاً داخل إسرائيل، بعد ما أفرجت إسرائيل بموجبها مرغمة عن (1155) أسيراً عربياً وفلسطينياً من كافة فئات التصنيف الإسرائيلي للأسرى.  

5: اشتراط الإفراج بتوقيع كل مُفرج عنه على تعهد بعدم العودة للنضال، كتعهد يضمن إعادة مدة محكوميته بأثر رجعي، في حال نكث بالتعهد.

6: التشدد ما أمكن لتحويل الإفراج إلى عقوبة إبعاد إلى خارج فلسطين.

7: في جميع الحالات فإن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية هي صاحبة القرار النهائي في تحديد كيفية الإفراج، وعدد ونوعية الأسرى المُفرج عنهم، في صفقات التبادل.

8: استخدام الضغط على الأسرى كوسيلة من وسائل تحسين شروط صفقات التبادل.

جديد قرار حكومة نتنياهو - ليبرمان وتداعياته:

تشير غالبية التحليلات، إن لم يكن كلها، إلى أن قرار حكومة نتنياهو تصعيد إجراءات القمع والتنكيل بحق الأسرى الفلسطينيين بصورة غير مسبوقة، يتجاوز المُعلن من أهدافه، أي استخدام هذه الإجراءات القمعية كوسيلة لفرض الشروط الإسرائيلية في صفقة تبادل الأسرى، خاصة بعد ثبوت فشل هذه الوسيلة في عهد الحكومة الإسرائيلية السابقة. وترى هذه التحليلات أن قرار حكومة نتنياهو ضد الأسرى الفلسطينيين، إنما يتجاوز المعهود من ثوابت السياسة الإسرائيلية القمعية تجاه هؤلاء الأسرى، بل، ويفوق، أيضاً، مرتكزات تشددها المعروفة فيما يتعلق بإبرام صفقات تبادل الأسرى.

وتستنتج هذه التحليلات، ومن بينها تحليلات إسرائيلية متنوعة المشارب، أن قرار حكومة نتنياهو ضد الأسرى الفلسطينيين، إنما يعكس ما يتميز به أقطابها، وفي مقدمتهم الفاشي أفيغدور ليبرمان، من عنصرية عدوانية متطرفة، استباحت كل ما هو فلسطيني، وعربي عموماً، ما أفضى إلى تصنيف هذه الحكومة على أنها من أكثر، إن لم تكن، أكثر، حكومات إسرائيل في تطرفها السياسي، المشحون بتشدد أيديولوجي صهيوني عنصري غير مسبوق، أدى إلى اضطرار حتى رؤساء أجهزة عسكرية وأمنية إسرائيلية، معروفين بدمويتهم، إلى إعلان التحذير من غلواء هذه الحكومة وقلة مسؤوليتها ومغامراتها غير محسوبة العواقب، بما في ذلك رفع وتيرة المواجهة مع الفلسطينيين، وتصعيد الاعتداءات عليهم واستفزازهم، على كافة الصُّعد.

ويرى الكثير من المحللين والخبراء والمراقبين أن مبدأ القبول بمبادلة عدد أقل من الجنود الإسرائيليين بعدد أكبر من الأسرى العرب والفلسطينيين، هو مبدأ قديم، وكان مؤسس دولة إسرائيل، بن - غوريون، هو أول من أقره، ليس فقط بدافع الاستجابة لمزاج الشارع الإسرائيلي، وضغطه لاستعادة أي جندي إسرائيلي يتم أسره أو اختطافه، بل، أيضاً، بدافع التأكيد على أن المجتمع الإسرائيلي، بكل مكوناته، يصطف خلف جيشه، بما يحيل إلى حقيقة أن إسرائيل، إنما هي دولة يقودها جيش، بل، وأنشأها، كما مجتمعها، أيضاً.

تلك هي المنطلقات العامة لتطرف السياسة الإسرائيلية، التي لا تستثني وسيلة، حتى الإجرامية منها، في سبيل استعادة الأسرى والمخطوفين من جنودها. وهي المنطلقات ذاتها التي تنطلق منها حكومة نتنياهو، إنما بغطرسة وعنجهية أعلى تميزانها، انعكست في اختيارها الهجوم القمعي الشامل على الأسرى الفلسطينيين، كخيار أول، بعد فشلها في الخيار الأمني، وإفشالها لخيار التفاوض، لمعالجة قضية الجندي غلعاد شاليط وسبل استعادته.

لكن ما غاب عن هذه الحكومة، التي يسيطر التطرف الأيديولوجي العنصري على ممارساتها السياسية، إنما يتمثل، كما يشير المحللون، في عدم تقديرها الدقيق، إلى ما يمكن أن تقود إليه هجمتها القمعية الشاملة ضد الأسرى الفلسطينيين، من استثارة لردود فعل، ربما لا تقتصر على ما بدأه الأسرى من خطوات نضالية احتجاجية متدرجة، التي يمكن في حال تصاعدها، أن تشعل الشارع الفلسطيني بكامله. وذلك بفعل ما تحظى به قضية الأسرى ومعاناتهم من مكانة وحساسية في الوجدان والضمير والعقل الشعبي الفلسطيني، المشبع أصلاً بالغضب، القابل للاشتعال، جراء ما تقوم به حكومة نتنياهو من استباحات بحق الفلسطينيين على كافة المستويات، في ظل حراك شعبي عربي ناهض غير مسبوق، تبقى القضية الفلسطينية، تقدم الأمر أم تأخر، نواة مضمرة فيه.

على هذا، يرى المحللون أن قرار حكومة نتنياهو تصعيد الهجوم على الأسرى الفلسطينيين، ينطوي، في الظرف والتوقيت والقسوة والموضوع، على احتمالات تصعيد أشمل. ويذكِّر هؤلاء المحللون، بتجارب سابقة من اشتعال الشارع الفلسطيني، بشرارات تصعيد القمع الإسرائيلي ضد الأسرى الفلسطينيين. وفي أقله، يورد هؤلاء المحللون تجربتين:

التجربة الأولى: حصلت قبل نشوء السلطة الفلسطينية، وتمثلت في الهبة الشعبية في آذار/مارس ونيسان/أبريل 1986، التي أشعل التضامن مع الأسرى في إضرابهم المفتوح عن الطعام في حينه شراراتها الأولى، وكانت بمثابة بروفة مهدت للانتفاضة الشعبية الكبرى، (1987-1993).

أما التجربة الثانية: فقد حصلت بعد نشوء السلطة الفلسطينية، وتمثلت في الهبة الشعبية في أيار/مايو 2000، التي، أشعل التضامن مع الأسرى في إضرابهم المفتوح عن الطعام أيضا، شراراتها الأولى، وكانت كذلك بمثابة بروفة مهدت لانتفاضة الأقصى (2000-2004).