منذ إعلان اتفاق المصالحة بين السلطة وحماس (نيسان/أبريل 2014)، ثم تشكيل حكومة الوفاق الوطني، لم يخل تصريح لرئيس الحكومة الإسرائيلية ب. نتنياهو من شجب الاتفاق والضغط على رأس السلطة لإلغائه. وصار مشروع استعادة وحدة المنطقتين الفلسطينيتين وشعبهما هاجسه اليومي على الرغم من تأكيد الرئيس الفلسطيني أن حكومة الوفاق الوطني تتبنى برنامج الرئيس وسياسته.
ووجد نتنياهو في اختفاء المستوطنين الثلاثة في 12 حزيران/يونيو الماضي فرصة ثمينة لاتهام حماس بخطفهم وشن حملة اعتقالات واسعة في الضفة لمناضلي حماس والجهاد شملت أكثر من ستمائة من كوادر الحركة وقادتها، بمن فيهم أعضاء في المجلس الوطني وأسرى محررون في "صفقة جلعاد شاليط".
وفي الوقت نفسه توالت الغارات الجوية على القطاع بحجة الانتقام من حماس، أوقعت قتلى وجرحى ودماراً، وبلغ عددها 34 غارة جوية، عشية العثور على جثث المستوطنين المتوارين (30/6). وكانت حماس وحركات المقاومة الأخرى ترد على الغارات الإسرائيلية بقصف صاروخي على المنطقة الجنوبية من إسرائيل.
وفي الثاني من تموز/يوليو عثر على جثة الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير من القدس الذي خطفه متطرفون إسرائيليون وعذبوه وأحرقوه حياً. وقد أحدث ذلك موجة غضب عارمة في الضفة والقطاع، تجلت في تظاهرات وصدامات مع جنود الاحتلال، اعتبرها مراقبون ومحللون إرهاصاً بانتفاضة ثالثة.
وفي فجر الثامن من تموز/يوليو بدأت إسرائيل حرباً جوية وبحرية على القطاع أطلقت عليها اسم "الجرف الصامد" هي الرابعة منذ سيطرت حركة حماس على القطاع عام 2007 وأقامت فيه حكمها. ("الشتاء الساخن" 27 شباط/فبراير 2008؛ "الرصاص المصبوب" 27 كانون الأول/ديسمبر 2008 - 8 كانون الثاني/يناير 2009؛ "عمود السحاب" 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2012. وقد انتهت هذه الأخيرة بتفاهمات بوساطة مصرية (الرئيس السابق محمد مرسي) - أميركية، قضت بوقف إطلاق النار بين حكومتي حماس وإسرائيل (21 نوفمبر).
وفي اليوم الأول من القتال (8/7) واجهت إسرائيل المفاجأة الكبرى التي شهدت على فشل ذريع لأجهزة مخابراتها. فقد انهمرت على مختلف المدن والبلدات: تل أبيب وحيفا وأسدود والقدس وديمونة ومطار بن - غوريون إضافة إلى مناطق الجنوب، الصواريخ البعيدة والمتوسطة والقصيرة المدى، لتحدث حالة ذعر غير متوقعة، فتتوقف الحياة العامة في إسرائيل، إذ تدوي صفارات الإنذار بين ساعة وأخرى ويهرع الناس إلى الملاجئ.
وفي اليوم الثامن للعدوان الإسرائيلي (الثلاثاء 15 تموز/يوليو) كانت المصادر الإعلامية تحصي سقوط أكثر من مائتي شهيد وأكثر من ألف مصاب وحدوث دمار كبير في مختلف أنحاء القطاع، بينما أعلنت إسرائيل مقتل مواطن واحد.
وفي هذا اليوم أيضاً أعلن العهد الجديد في مصر مبادرة لوقف إطلاق النار حظيت بموافقة فورية من الحكومة الإسرائيلية ومن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتبناها مجلس الجامعة العربية المنعقد في القاهرة على مستوى وزراء الخارجية. وفي المقابل سارعت "كتائب القسام" إلى رفضها، دون أن يصدر موقف رسمي واضح من قيادة حماس. أدى ذلك إلى استئناف الغارات الجوية الإسرائيلية الكثيفة، كما استمر إطلاق الصواريخ من غزة في اتجاه إسرائيل.
والواقع أن كلا إسرائيل وحركة حماس في مأزق، في هذه الحرب التي أجمع المراقبون والمحللون قبل بدئها على أن أحداً من أطراف الصراع لم يكن يرغب فيها: لا إسرائيل تريدها ولا حماس ولا السلطة الفلسطينية، كل منها لأسبابه الخاصة.
مأزق إسرائيل أنها تريد إضعاف حماس لا القضاء عليها، لأن هذا يتطلب اجتياحاً برياً مكلفاً من جهة أولى، وخوفاً من الفوضى التي تنجم عن إنهاء سلطة حماس في غزة والقوى الأكثر تطرفاً التي يمكن أن تسيطر من جهة ثانية، كما أن استمرار الانفصال بين غزة والضفة يشكل هدفاً رئيسياً لإسرائيل، من جهة ثالثة. ومأزقها في أنها تدمر وتقتل، وهذا ما تفعله في حربها الوحشية ضد المدنيين الذين يعيشون في سجن كبير لا يتوفر فيه الحد الأدنى من أسباب العيش الكريم. لكن ذلك لا يقلل تنامي قدرات المقاومة التي كشفت في المواجهة الراهنة عن مستوى جديد من عوامل القوة قد يكون من أهم نتائجه المستقبلية إرساء ميزان ردع متبادل.
وبدأت إسرائيل تلمح إلى برنامج معركتها السياسية المقبلة: طرح موضوع تجريد غزة من السلاح، فضلاً عن الهدف الدائم: إنهاء الوحدة بين الضفة والقطاع قبل أن تستقيم أمورها ويشتد عودها.
أما مأزق حماس والحركات الجهادية الأخرى في غزة فهو الحصار وانسداد الأفق والانهيار العربي الشامل، أي الظروف التي لا تساعد على نهوض متصاعد وثابت ومتراكم المكاسب.
يضاف إلى هذا المأزق الخاص بحماس والقوى الجهادية الأخرى، مأزق فلسطيني عام وهو الانقسام الواضح بين السلطة ومَن تمثل التي تتبنى نهج المقاومة الشعبية السلمية، (دون تنفيذ) وبين حماس والجهاد اللتين تتمسكان باستراتيجية الكفاح المسلح.
وهذه الخيارات لا يمكن لأحد أن يحسمها غير الشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، ومناطق 1948، والشتات، بدءاً بترسيخ وحدة الضفة والقطاع وإجراء الانتخابات، وتجديد منظمة التحرير مجلساً وطنياً وقيادة شرعية شاملة لكل شرائح الشعب الفلسطيني ومناطق انتشاره.
وإذا كان البرنامج المباشر للصراع السياسي/الدبلوماسي الذي ستخوضه إسرائيل في المرحلة المقبلة: تجريد القطاع من السلاح، فإن البرنامج الوحيد الذي ينهض بحركة التحرير الوطني الفلسطيني هو الوحدة، ثم الوحدة، ثم الوحدة. وأي حديث عن انتصارات خارج هذا الهدف المركزي والحتمي، يظل هشاً بدون أرضه الصلبة: وحدة الشعب والوسائل والأهداف.