لعل أبرز تطور يمكن تسجيله في مستهل الأسبوع الثاني من الحرب العدوانية الحالية على قطاع غزة التي أعطتها إسرائيل اسم "الجرف الصامد"، يكمن في بدء العملية السياسية الموازية للعملية العسكرية بغية الوصول إلى تهدئة بصيغة تتجاوز تلك التي تم التوصل إليها في إثر العملية العسكرية السابقة "عمود سحاب" [تشرين الثاني/نوفمبر 2012]. وفي الوقت نفسه، يؤكد قباطنة المؤسستين السياسية والأمنية في إسرائيل أن العملية الحالية ستستمر طويلاً، ولا يستبعدون احتمال أن تشهد توسعاً وتكثيفاً، كما يؤكدون أن الخيارات جميعها مُدرجة في جدول الأعمال، بما في ذلك تنفيذ عملية اجتياح برية واسعة.
وفي ضوء ما تراكم من وقائع منذ بدء هذه العملية يتواتر الحديث عن المسائل التالية:
أولاً: ازدادت المؤشرات يوماً بعد يوم إلى وجود قناعة راسخة لدى معظم أصحاب القرار الإسرائيلي باستحالة تحقيق حسم عسكري ضد المقاومة الفلسطينية في القطاع.
ولا نبالغ حين نقول إنه وفقاً لهذه المؤشرات أدركت المؤسستان السياسية والأمنية في إسرائيل مسبقاً استحالة تحقيق حسم، ولذا حدّدتا للعملية العسكرية الحالية "هدفاً متواضعاً"، هو إعادة الهدوء إلى مناطق الجنوب، ووقف إطلاق الصواريخ.
والافتراض السائد أن هذه القناعة جاءت حصيلة استخلاص الدروس من حروب شبيهة في الماضي، بما في ذلك ضد القطاع نفسه.
ومع ذلك كانت هناك أصوات دعت إلى الحسم العسكري لدرجة احتلال القطاع مرة أُخرى، على غرار وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان الذي أعلن فك تحالفه مع حزب الليكود ضمن حزب "الليكود- بيتنا"، وطلب في اجتماعات المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية- الأمنية التصرف هذه المرة على نحو مغاير، وحث على اقتحام غزة براً وتحقيق حسم، محذراً الوزراء من أن الثمن الذي يمكن أن تدفعه إسرائيل في المستقبل، عندما يصبح في حيازة حركة "حماس" عشرات ألوف الصواريخ طويلة المدى، سيكون أشد وقعاً من الثمن الذي قد تدفعه الآن وفي حيازة الحركة 3 آلاف صاروخ كهذا. وعلى الرغم من ذلك فإن ليبرمان ما زال، بحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، يعبّر عن موقف أقلية في الحكومة، في حين تسعى الأغلبية فيها لتحقيق الردع لا الحسم.
وهذا ما أثبته آخر تصريح صدر عن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في اجتماع الحكومة الإسرائيلية بتاريخ 13 تموز/ يوليو 2014، والذي شدّد فيه على أن هدف العملية العسكرية يتمثل في استعادة الهدوء فترة طويلة [في منطقة الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة] بموازاة إلحاق ضرر كبير بحركة "حماس" وغيرها من المنظمات "الإرهابية" في القطاع، كما شدّد على أن الجيش الإسرائيلي يستعد لجميع الاحتمالات.
ثانياً: وما يؤكد أيضاً أن هذه العملية تسعى لتحقيق ردع، إعلان قيادة الجيش الإسرائيلي فور البدء بشنها أنها أعدت عملية تتصاعد بالتدريج وفقاً للتطورات في الميدان، وذلك لاعتقاد هذه القيادة أن المقاومة ستقبل بالتهدئة سريعاً، وبالتالي لن تضطرها إلى الانتقال إلى مرحلة أُخرى.
بموازاة ذلك، جرى التلميح إلى أن حركة "حماس" تواجه في الوقت الحالي ضائقات اقتصادية وداخلية وسياسية غير مسبوقة في حدتها، الأمر الذي دفعها إلى تصعيد إطلاق الصواريخ في اتجاه الأراضي الإسرائيلية، ولن تلبث أن تذعن لتهدئة جديدة غير مشروطة. لكن ما يتبين حتى الآن ليس فقط أن هذه الحركة لم تتخل عن شروطها للعودة إلى تفاهمات ما بعد عملية "عمود سحاب"- وفي مقدمها شرط إطلاق إسرائيل الأسرى المحررين في "صفقة غلعاد شاليط" الذين اعتقلتهم بعد خطف ومقتل المستوطنين الثلاثة من غوش عتسيون في أواسط حزيران/ يونيو الفائت- بل أيضاً أن لديها مفاجآت لم تكن إسرائيل على علم بها، وتنوي أن تستعملها كي تكون لها الكلمة الأخيرة.
ثالثاً: من اللافت أيضاً أنه بالتزامن مع الحديث عن احتمال اقتراب التوصل إلى تهدئة تسعى آلة الحرب الإسرائيلية لجباية ثمن باهظ من المقاومة، يكون بوسع إسرائيل أن تسوّقه على أنه صورة انتصار في هذه الجولة الجديدة من المواجهة العسكرية، كما يكون بوسعها أن تستعمله كرافعة لإملاء شروطها للتهدئة المقبلة.
وما يعزز هذا الانطباع أن نخبة كبيرة من المسؤولين الأمنيين السابقين، وفي مقدمهم وزير الدفاع السابق ورئيس هيئة الأركان العامة السابق شاؤول موفاز، والرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية ["أمان"] والرئيس الحالي لـ"معهد دراسات الأمن القومي" عاموس يادلين، والقائد السابق للمنطقة العسكرية الجنوبية يوآف غالانت، أشاروا على نتنياهو بوقف العملية العسكرية والاكتفاء بما حققته من ردع. واقترنت مشورة بعضهم [موفاز] بإطلاق حملة سياسية دولية وعربية لجعل قطاع غزة منطقة مجردة من السلاح، من خلال تكرار خطة تجريد سورية من ترسانة الأسلحة الكيميائية التي في حيازتها.
رابعاً: غسل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يديه على نحو مسبق من أي جرائم حرب يمكن أن ترتكب ضد المدنيين، وحمّل المقاومة الفلسطينية مسؤولية سقوط ضحايا من المدنيين بذريعة أنها تختبئ عمداً وراء ظهورهم وأنها تستعملهم كدروع بشرية.
ولدى متابعة تصريحات نتنياهو منذ بدء العملية، يمكن ملاحظة لازمة تتكرر فيها فحواها ضرورة إدراك العالم نظام نشاط "حماس" الذي يقوم في رأيـه أساساً على اختباء عناصرها في المساجد وتخزين السلاح تحت المستشفيات وإقامة مقار القيادة في البيوت، أو بالقرب من روضات الأطفال، الأمر الذي يعني أن هذه الحركة تستخدم السكان المدنيين في غزة دروعاً بشرية وتُنزل عليهم كارثة، وبناء على ذلك فإنها تتحمّل بصورة حصـريـة المسؤولية الكاملة عن أي خسائر تلحق بالمدنيين في غزة.
كما أنه يحرص على أن ينبّه إلى أنه في الوقت الذي تستخدم عناصر "حماس" سكان غزة دروعاً بشرية، يفضل قادتها وقادة المنظمات الأُخرى الاختباء تحت الأرض، أو الهروب إلى الخارج وترك المدنيين عمداً على خط النار، وإلى أن الفارق الجوهري بين إسرائيل و"حماس" يكمن في أن الأولى تستخدم المنظومات المضادة للصواريخ للدفاع عن سكانها المدنيين، في حين تستخدم الحركة سكان غزة المدنيين لحماية مخزونها الصاروخي.
خامساً: إن أكثر صورة ظهرت لنتنياهو في وسائل الإعلام الإسرائيلية أنه "فنان ضبط النفس".
وأشارت تحليلات إسرائيلية إلى أن هذه الصورة تؤدي إلى خسارته نقاطاً كثيرة في الأوساط السياسية اليمينية المؤيدة له. ففي هذه الأوساط أطلقوا عليه صفة "المنضبط"، ويعتقد كثيرون في حزبه، الليكود، أنه كان متردداً، وأنه عندما قرر العملية فعل ذلك بحرص شديد، لكن أغلبية الإسرائيليين تقدّر سلوكه بحسب آخر استطلاعات الرأي العام.
كما تحظى سياسة نتنياهو هذه بدعم المعارضة "اليسارية"، ولا سيما حزبي العمل وميرتس، التي تكرر منذ بدء العملية ضرورة معاقبة "حماس" والسعي أيضاً لعملية دبلوماسية بمساعدة السلطة الفلسطينية وأطراف عربية أُخرى في مقدمها مصر.
سادساً: يبقى السؤال عن مدة هذه العملية العسكرية وإلى أي مدى يبقى المسار الذي قد تتخذه مفتوحاً. وتتجه الأنظار بصورة خاصة إلى احتمالات حدوث عملية برية.
وتشير التقديرات السائدة إلى أن احتمالات القيام بعملية برية واسعة تزداد كلما ارتفع حجم قوات الجيش الإسرائيلي المرابطة في منطقة الحدود بين إسرائيل والقطاع.
ومع ذلك، من اللازم أن نشير إلى أنه في إطار عملية "عمود سحاب" قبل نحو عامين تكوّن انطباع بأن ثمة تخطيطاً لعملية اجتياح برية، لكن، في الواقع، فإن قوات الجيش لم تدخل فعلاً إلى المدن ومخيمات اللاجئين. ومع أن "حماس" تضررت كثيراً، إلاّ إنها لم تتلق ضربة قاصمة، ولم يندلع قتال حقيقي. ومن غير المستبعد أن يتكرر هذا السيناريو الآن.