يمكن النظر إلى الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة على أساس أنها أحدث الأمثلة في الصراع الفلسطيني – الصهيوني/ الإسرائيلي الدائر منذ ما يزيد على القرن، في القدرة على "المراكمة". ففي صراع إحلال – وجودي بين طرفين تكون "المراكمة" لب الصراع وأساس التمكن من تحقيق الأهداف .والطرف الذي يتمكن من مراكمة أساس وجوده ويمنع الطرف الآخر من إنجاز ذلك، ينجح في تحقيق غايته. هذا هو جوهر المسألة.
صبت الحركة الصهيونية منذ الانتداب البريطاني، ثم إسرائيل بعد قيامها، جل قدراتهما وعملهما على تحقيق أمرين معاً: مراكمة أسس وجودهما في فلسطين ومعالمه من ناحية، وتفكيك قدرة الشعب الفلسطيني على حماية وجوده على أرضه ومراكمته من ناحية أُخرى. وبالتالي، في حين اتسم منحى الوجود الصهيوني – الإسرائيلي في فلسطين عبر العقود الماضية بالتراكمية التصاعدية، نجحت السياسات الصهيونية - الإسرائيلية في تقطيع أوصال التراكمية الفلسطينية، وهو ما اختزل الجهد الفلسطيني، بصورة عامة وأساسية، في منحنيات بقيت دائرية – لولبية تحاول أن تعيد، بين حين وآخر، إنتاج ذاتها بالعودة مجبرة إلى النقطة نفسها التي انطلقت منها سابقاً، وعلى الأغلب من نقطة تعود بالمحاولة ذاتها مسافة أكبر إلى الوراء.
منذ أشهر والأحداث في الأرض المحتلة تتصاعد، والضغط يتراكم، في اتجاه حدوث انفجار عام، على شاكلة الانفجارات السابقة المماثلة خلال العقود الثلاثة الماضية: إمّا على شكل انتفاضة جديدة، كانت ستكون الثالثة، لكن مع انحسار موقع حدوثها ليكون في الضفة والقدس فقط، بعد إجلاء الإسرائيليين عن غزة وبقاء الاحتلال متمثلاً في الحصار، وإمّا بحرب على قطاع غزة، ستكون الثالثة منذ سنة 2008. فالحكومة الإسرائيلية اليمينية – الاستيطانية استمرت، على غرار جميع الحكومات الإسرائيلية السابقة، تراكم الوجود التهويدي في القدس والضفة، عن طريق استيطان مكثف وملفّع بعملية تسوية سياسية مديدة وعدمية.
أفرغت إسرائيل عملية التسوية هذه من مضمونها قبل أن يجف حبر توقيع اتفاق أوسلو، وبالتالي بترت إمكان مراكمة القيادة الفلسطينية لتوجهاتها السياسية التي ما فتئت تراوح مكانها منذئذ. لقد حشرت إسرائيل القيادة الفلسطينية، وخصوصاً بسبب انتقالها لتوجد وتنشئ سلطة تحت الاحتلال، داخل مربع عملية تسوية سياسية لا يمكن أن يكون ناتجها إلاّ بالمواصفات والشروط الإسرائيلية التي لا تلامس الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية. وإمعاناً في تفكيك إمكان المراكمة الفلسطينية، فصلت إسرائيل القطاع عن الضفة، والضفة عن القدس، وقوّضت أي إمكان للتنمية المستديمة في الأرض المحتلة، وفرضت على القيادة الفلسطينية منع المقاومة المسلحة - بما يشمل حتى رشق الحجارة - التي انحسرت قدراتها الفعلية في مواجهة أماكن وجود الاحتلال على تخوم المدن الفلسطينية التي أصبحت مجرد معازل للعيش الفلسطيني.
أمّا قطاع غزة، الذي حوصر إسرائيلياً، فقد أصبح بالتدريج، بسبب الحصار أولاً، واختلاف الرؤى والمصالح بين حركتي "فتح" و"حماس" ثانياً، خارج نطاق سيطرة القيادة الفلسطينية، حتى حدث الانقسام وانقطعت هذه السيطرة بالكامل.
قامت حركة "حماس" وفصائل ومجموعات أُخرى في القطاع، بالأمر الوحيد الذي كان يمكن أن يميزها من السلطة في الضفة، والتي اعتبرتها "تسووية": التسلح بما أمكن لمقاومة إسرائيل. ومع أنه من المعلوم أن هذا التسلح، مهما تعاظم، كان لا يُتوقع منه إلحاق الهزيمة النوعية المطلوبة بإسرائيل لغرض فرض تسوية شاملة عليها تحقق أدنى المطالب الفلسطينية، على الأقل، إلاّ إنه بالتأكيد كان يمكن أن يؤرقها. وقد استغلت إسرائيل هذا التسلح لجر الفصائل في القطاع، بين فترة وأُخرى، إلى مواجهة قتالية غير متكافئة على الإطلاق، وذلك لتمنع المقاومة الفلسطينية المسلحة من مراكمة قدراتها، وتفرض عليها بعد كل مواجهة أن تعود فتبدأ عملية المراكمة من جديد. يضاف إلى ذلك أن إسرائيل وظفت هذه المواجهات القتالية بدرجة عالية من النجاح، للادعاء أمام الدوائر الرسمية الدولية أنها الضحية التي يتعرّض مواطنوها ومدنها للصواريخ الفلسطينية. وبالتالي، فإن كل مواجهة من هذا النوع، على الرغم من العنف الإسرائيلي الشديد وتقديم الفلسطينيين ضحايا بأعداد كبيرة وتحملهم خسائر مادية باهظة، كانت تُفقد الفلسطينييين جزءاً مهماً مما تمت مراكمته من تأييد وتعاطف على الصعيد الدولي الرسمي، على الأقل.
إذاً، لا تراكم مسموحاً به إسرائيلياً للفلسطينيين، لا على الصعيد السلمي، ولا على صعيد المقاومة المسلحة. هذه هي المفارقة، بل المصيدة التي يجد الفلسطينيون أنفسهم محصورين، بل مخنوقين، داخلها. وما يفاقم وطأة هذا الوضع الفلسطيني المأسوي الذي أوصلتهم إليه إسرائيل، هو ما يقوم به الفلسطينيون تجاه أنفسهم، من خلال شرذمتهم وانفصام خياراتهم بعضها عن بعض. فالتوجه السلمي غير مدعوم بقوة مقاومة فعالة للاحتلال، والمقاومة المسلحة غير مدعومة بأفق سياسي واضح. وكل خيار يسير في وقت واتجاه منفصلين أحدهما عن الآخر، بل حتى متعارض معه. وثمة حالة من الانفصام تزيد البلاء بلبلة ولا تقود إلاّ إلى العودة دائماً إلى المربع الأول، لنعاود الكرّة ونبدأ من جديد من حيث كنا ابتدأنا سابقاً.
في الآونة الأخيرة، وتحديداً منذ مطلع الربيع الفائت، وجدت الحكومة الإسرائيلية نفسها تواجه أوضاعاً مقلقة على الصعيد الدولي تحديداً، وهو ما تطلّب منها افتعال مواجهة مع الفلسطينيين هدفها تفكيك مراكماتهم على هذا المستوى. أولاً، لم تفلح محاولات هذه الحكومة تحميل الجانب الفلسطيني وزر انهيار جولة المفاوضات الأخيرة، وإنما على العكس، إذ جاءت ردات فعل عواصم غربية حليفة تقليدياً لإسرائيل لتحمّل الحكومة وسياساتها الاستيطانية مسؤولية هذا الانهيار. ثانياً، لم يرق لهذه الحكومة عدم رضوخ الرئيس الفلسطيني للشروط الإسرائيلية، ومجرد تذمره من انهيار المفاوضات وتوقيعه الانضمام إلى عدد من المعاهدات والهيئات الدولية. كما لم يعجبها ردة الفعل الباهتة من حلفائها الغربيين الذين لم يمارسوا الضغط المانع لهذا الانضمام. ثالثاً، لم تقبل هذه الحكومة المصالحة الفلسطينية وتأليف حكومة وفاق وطني. كانت إسرائيل تريد دائماً ضمان فصل دائم للضفة عن القطاع، سياسياً وجغرافياً، وذلك لفرض حل مركب للقضية الفلسطينية: كيان سيادي في غزة، وكانتونات غير سيادية في الضفة. لذلك، وجب على الحكومة الإسرائيلية العمل على إسقاط اتفاق المصالحة. رابعاً، بدأت حملة المقاطعة الدولية لإسرائيل تأخذ منحى تصاعدياً في المجتمعات الغربية، وهي مركز ثقل الدعم الخارجي التقليدي المضمون الذي تركن إليه، الأمر الذي أقلق الحكومة الإسرائيلية من النتائج المستقبلية السلبية لهذه المقاطعة.
وهكذا، وجدت الحكومة الإسرائيلية في حادثة اختفاء ثلاثة مستوطنين الذريعة الملائمة لبدء عملية تفكيك المراكمة الفلسطينية على الصعيد الدولي. واستغلت هذا الاختفاء وأطلقت في الضفة المحتلة عملية عسكرية هي الأشمل والأوسع والأعمق منذ سنة 2002. وكان الموقف الدولي بدايةً متعاطفاً مع إسرائيل، وبدا كأنها استطاعت الشروع في تفكيك المراكمة الفلسطينية، لكن اختطاف الفتى محمد أبو خضير وقتله حرقاً على يد مجموعة من المستوطنين، أعادا قلب الموقف الدولي للمصلحة الفلسطينية. وحينها وجدت الحكومة الإسرائيلية أنها في حاجة إلى تدخل جديد. وجاءت الحرب على غزة.
بدأت الحمم الإسرائيلية تنهمر بلا هوادة على أهل القطاع. وفي ظل المصالحة كان الجمهور الفلسطيني يتوقع أن "تنتفض" السلطة الفلسطينية وقيادتها لدرء العدوان الإسرائيلي عن غزة. لقد أزفت الساعة بالنسبة إلى الفلسطينيين كي تغيّر قيادتهم اتجاه المسار الذي حُشرت وحَشرت نفسها فيه من دون طائل، وحانت في نظرهم لحظة الضرورة للاستفادة من مكانة "الدولة المراقب" التي تم تضخيم إنجازها لتحقيق الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية وملاحقة إسرائيل بسبب جرائم الحرب التي تقترفها. وإلاّ فما فائدة هذا الإنجاز إن لم يتم توظيفه، وما هي الحالة والتوقيت الأكثر ضرورة وإلحاحاً لهذا التوظيف مما يجري لقطاع غزة حالياً؟!
كانت هذه الجرائم تتوالى مع تصاعد حدّة ووتيرة القصف الإسرائيلي المستمر لبيوت آهلة، يُقتل بسببها أطفال وشيوخ ونساء. وكانت المناظر مروعة ومستفزة. وفي خضم حالة غليان شعبي كهذه يتناسى الناس البدايات والنهايات والنتائج، ويتغاضون عن التحليل العقلاني، ويعيشون اللحظة. فالعواطف والانفعالات تسود وتقود المواقف الشعبية والشعبوية، وخصوصاً في خضم مثل هذه الحالات. فهناك قصف متصاعد تتعرض له غزة، وحالة احتقان وغليان يتفاعلان ويتفاقمان بين الفلسطينيين في القدس والضفة، ناهيك بالفلسطينيين في الخارج.
كان الوضع يحتاج إلى ردّ فلسطيني رسمي حازم وسريع يتسق مع فظاعة وفجاعة ما يجري للقطاع من ناحية، ويستجيب لنبض الشارع الفلسطيني الغاضب من ناحية أُخرى. وطبعاً، اتجهت الأنظار نحو السلطة ورئيسها.
لكن رد السلطة لم يأت سريعاً ولم يكن حازماً، وإنما بدأ متلكئاً وباهتاً أمام تصاعد حدة الأحداث. وعلى ما يبدو، فإن موقف السلطة الفلسطينية ابتدأ من خانة أن حركة "حماس" بالتحديد، تحاول جرّها إلى مربع عنف لا قدرة لها عليه، ولا يفيد القضية الوطنية على الصعيد الدولي في شيء. لذلك جاء خطابها الابتدائي مرتبكاً وملتبساً وضعيفاً، ولم يكن على قدر الحدث الذي انتقل بثقله إلى القطاع، وبشعبيته إلى المقاومة. ومع تصاعد شعبية المقاومة بصورة عامة، وحركة "حماس" تحديداً، بين الأوساط الفلسطينية المنتشية بصواريخ تصل إلى المدن الرئيسية في إسرائيل، والمغلولة في الوقت نفسه من قيادة لا تزال تحشر نفسها في تنسيق أمني "مقدّس"، وتكبل خياراتها بنفسها، وتراهن على مسيرة سياسية وهمية، بدأت السلطة تدافع عن ذاتها، وتحاول التقاط أنفاسها، وتغيّر مسار خطابها وتدخلاتها.
بدأت السلطة تحركاتها الدبلوماسية على مختلف الصعد: دعوة مجلس الأمن إلى الانعقاد؛ الطلب من سويسرا دعوة الأطراف السامية الموقعة اتفاقية جنيف إلى الالتئام؛ طلب انعقاد مجلس الجامعة العربية على مستوى الوزراء؛ اتصالات بأطراف عربية وإقليمية ودولية من أجل تأمين وقف لإطلاق النار. هذا إضافة إلى محاولات لتقديم ما يمكن توفيره لغزة من متطلبات لسد حاجات أساسية لقطاعات حيوية، مثل الصحة والشؤون الاجتماعية.
لم تشف هذه التحركات غليل كثيرين من الفلسطينيين الذين كانوا في أمسّ الحاجة إلى جرعة عز وكرامة تعيد إليهم بعض التوازن الذي فُقد جراء توالي تصاعد حدة التعنت الإسرائيلي وتغوّله الاستيطاني والقمعي من جهة، في مقابل التراجع في الموقف الفلسطيني من جهة أُخرى. فقد اعتبروا أن هذه التحركات تقليدية – روتينية، وليست على قدر الحدث أو على المستوى المتوقع والمطلوب، ولن تقود إلى النتيجة المتوخاة. وفي اعتقادي، لا تتوقف هذه النتيجة المطلوبة، بالنسبة إلى هؤلاء، عند حدّ إيقاف الحرب على غزة، ولملمة جروحها، والعودة إلى المربع الأول لتبدأ عملية المراكمة من جديد، ولتعود إسرائيل فتفتتها بعد حين. واضح أن ما تطالب به أغلبية متنامية بين الفلسطينيين هو أعمق من ذلك وأشمل؛ فهي تريد انعتاقاً من "زنزانة" التسوية السياسية العدمية التي حُكم على الشعب الفلسطيني وتطلعاته الوطنية الشرعية بالمؤبد فيها. ولتحقيق ذلك، هي تريد أساساً قيادة تقودها وتلتحم معها في عملية تحويل المسار.
مع تزايد جرعة الغضب في الأوساط الفلسطينية من فظاعة مشاهد ما يجري لغزة وفلسطينييها على يد آلة الحرب الإسرائيلية من جهة، وجرّاء ما يبدو من عجز فلسطيني رسمي عن التصدي لذلك من جهة أُخرى، اجتاح الفلسطينيين عموماً موجة من النقمة والتذمر، ناجمين عن حالة من الإحباط العميق. وعلاوة على ازدياد حالات المواجهة التي أصبحت نمطاً يومياً عند الحواجز مع قوات الاحتلال الإسرائيلية، والتصدي لها عندما تقوم باجتياحاتها الليلية للمدن والقرى في الضفة، وهي أيضاً أصبحت مسألة يومية، فقد نفست حالة الإحباط هذه عن نفسها بصبّ جام الغضب على السلطة ورئيسها. وعدا المقالات التي نُشرت في الصحف والمواقع الإلكترونية، فقد امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بالتعليقات التي تنتقد السلطة وتهزأ بها. وكان واضحاً أن السلطة ورئيسها هما أكثر المتضررين سياسياً جرّاء ما يحدث حالياً. فمكانة الرئيس، كما هي حال مكانة السلطة برمتها، قد تكون الآن لامست أدنى مستوياتها.
قد يقال إن الأوان قد فات على إمكان تدارك وضع النظام السياسي الفلسطيني بشكله الحالي، وقد يقال العكس. يتراوح الأمر حالياً بين التغيير والترميم، إذ لم يعد هناك متسع لبقاء الوضع على حاله المعتادة. وهذا طبعاً يتعلق بكيفية الأداء المقبل للرئيس وأركان السلطة الفلسطينية.
قد يقال أيضاً إن السياسة الحصيفة لقيادة حكيمة يجب ألاّ تنجرّ خلف نبض شارع مهتاج. ربما يكون هذا صحيحاً، وقد يكون لهذه القيادة رؤية حكيمة من منظور استراتيجي، لكن هذا لا يكفي، بحد ذاته، ليشكل أساس استراتيجيا العمل الفلسطيني المستقبلي التي يجب أن تقوم على المراكمة والحفاظ على ما يتم مراكمته. وهذه الاستراتيجيا لن يكون لها أدنى تأثير إن بقيت مختزلة في الرئيس ومختزنة عنده فقط، بل هي في حاجة إلى تأطير وأدلجة وتحشيد للرأي العام الفلسطيني الذي هو اليوم في واد، وقيادته في واد آخر.
لقد أصبح واجباً وضرورياً إعادة التوصل إلى حالة توافق عام، على الأقل من جانب أغلبية واضحة، على المسار الذي يجب انتهاجه مستقبلاً للتصدي الفعال للاحتلال وتحديد أفضل السبل للتخلص منه. لذلك، عندما تتوقف آله الحرب الإسرائيلية عن معاقبة قطاع غزة وتعذيبه، قد يكون أول وأهم درس مستفاد هو ألاّ نعود بالحال إلى ما كانت عليه قبل ذلك، وكأن شيئاً لم يحدث. المطلوب من القيادة الفلسطينية عندئذ هو تقديم مكاشفة حقيقية بشأن كيفية تفكيرها في ماهية استراتيجيا العمل الفلسطيني المستقبلي الذي لا يجوز أن يبقى على ما هو عليه الآن، وتفعيل سبل نقاش هذه الاستراتيجيا لتتحول إلى شأن عام، وتحظى بالتوافق الفلسطيني عليها. فالنجاح في تحقيق الهدف لا يتم إن لم تكن آلية تحقيقه واضحة ومحددة ومتفقاً عليها من الأغلبية الشعبية على الأقل.