العدوان الإسرائيلي على غزة: تقويم مرحلي
التاريخ: 
17/07/2014
المؤلف: 

 لحظة كتابة هذه السطور، صبيحة اليوم الحادي عشر للعدوان الإسرائيلي المتجدد على غزة، باتت الأمور أكثر وضوحاً، وصار في الإمكان رسم صورة للوضع الراهن ميدانياً وسياسياً، وما حققه، أو لم يحققه العدوان.

ميدانياً، من المفروض أن يسود وقف لإطلاق النار من الساعة العاشرة صباح اليوم (الخميس، 17/7/2014) حتى الساعة الثالثة عصراً، بعد أن وافقت إسرائيل وفصائل المقاومة كلها على ذلك، بناء على طلب من الأمم المتحدة. وقد عُني منسق النشاطات العسكرية الإسرائيلية، يوآف مردخاي، بإيضاح أن هذا ليس هدفه، بل بادرة إنسانية، وأن الجيش الإسرائيلي سيواصل هجماته على القطاع بعد انتهاء الفترة المحددة، أو في حال خرق المقاومة وقف إطلاق النار، بينما أوضحت المقاومة أن موافقتها جاءت لإعطاء سكان القطاع فرصة لالتقاط الأنفاس والتزود بما يتيسّر من الحاجات المعيشية الضرورية ودفن شهدائهم كما يجب، وكذلك للأجهزة المعنية لإصلاح ما يمكن إصلاحه من البنية التحتية لشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، ولأي جهات عربية ودولية ترغب في تقديم أي معونات طبية وأدوية، نظراً إلى حاجة مستشفيات القطاع الماسة إليها.

سياسياً، وفي هذه الأثناء، تتواصل الجهود عربياً ودولياً، ومن جانب السلطة الفلسطينية، للتوصل إلى اتفاق لوقف القتال، وليس مجرد موافقة على وقف قصير المدى لإطلاق النار. ويؤدي الدور الرئيسي في هذه الجهود مصر، وثمة تحركات باهتة من جامعة الدول العربية وقطر وتركيا واللجنة الرباعية والولايات المتحدة وغيرها. وكان أهم ما أسفرت عنه هذه الجهود هو المبادرة المصرية التي قبلتها إسرائيل ورفضتها المقاومة الفلسطينية على الفور، لأنها صيغت في مشاورات بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة واللجنة الرباعية من دون الاتصال بـ"حماس"، ولأنها جاءت، في قضها وقضيضها، في مصلحة إسرائيل، إذ تعفيها من الإدانة والمحاسبة، وتلزم "الفصائل الفلسطينية كافة بوقف جميع الأعمال العدائية من قطاع غزة تجاه إسرائيل جواً وبحراً وبراً (وتحت الأرض)، مع تأكيد إيقاف إطلاق الصواريخ بمختلف أنواعها والهجمات على الحدود واستهداف المدنيين"، وذلك في مقابل مجرد وعد بـ"فتح المعابر وتسهيل حركة عبور الأشخاص والبضائع عبر الممرات الحدودية" ملغوم بالتحفظ: "على ضوء استقرار الأوضاع الأمنية على الأرض"، وتلويح بأن "باقي القضايا، بما في ذلك موضوع الأمن، سيجري بحثها بين الطرفين".

كل هذا من دون التطرق إلى رفع الحصار الخانق والتجويع المفروضين على سكان القطاع منذ سبعة أعوام، واللذين يُعتبران الهدف الأساسي للمقاومة، ومن دون أي ضمان لإيقاف الحملات العسكرية المتكررة ضده وعمليات القتل شبه اليومية للنشطاء المنتمين إلى فصائل المقاومة.

بالعودة إلى الوضع الميداني، في هذه الأثناء ما زالت إسرائيل تواصل حشد قواتها على حدود القطاع، وقد استدعت أكثر من 40 ألف جندي من جيش الاحتياط لمساندة القوات النظامية في استكمال أهداف العدوان، ونصبت حول مدنها ومنشآتها الحيوية بطاريات القبة الحديدية التسع الموجودة في حيازتها، وأعلنت أنها في حال استمرار الهجمات الصاروخية عليها ستصعد وتكثف هجماتها الجوية وقصفها المدفعي براً وبحراً على القطاع، ولن تتردد في القيام بحملة برية إذا لزم الأمر.

لقد ادعى رئيس الحكومة الإسرائيلية، مراراً وتكراراً، أن الهدف من وراء العدوان الذي سُمّي "الجرف الصامد" هو إيقاف إطلاق الصواريخ على المدن والبلدات الإسرائيلية، وأنه في حال التزمت المقاومة ذلك، ستوقف إسرائيل أيضاً الهجمات من جانبها.

هل كان هذا هو الهدف فقط؟ تكفي نظرة خاطفة إلى تصريحات القادة السياسيين والأمنيين، وما نشر في الصحف وصدر عن مراكز الأبحاث والدراسات المختصة بشأن دوافع العدوان وأهدافه، لإظهار صفاقة هذا الادعاء. ولا يتسع المجال هنا لأكثر من إيراد سريع لها من دون شرح، لتوضيح الصورة، ومَنْ يرغب في التوسع في معرفة دوافع العدوان وأهدافه يستطيع الرجوع إلى نشرة "مختارات من الصحف العبرية" التي تصدرها مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وإلى المقالات الأُخرى المنشورة في هذا الملف.

الهدف الأساسي هو: ردع المقاومة الفلسطينية في غزة عن التعرض لإسرائيل، وتلقينها درساً يثنيها، على الأقل لفترة طويلة، عن التفكير في مهاجمة مدنها وجنودها؛ تدمير أكثر ما يمكن من ترسانة "حماس" وفصائل المقاومة الصاروخية، بما في ذلك الصواريخ ومنصات الإطلاق، وقتل أكثر ما يمكن من قادة المقاومة وكوادرها؛ إضعاف سلطة "حماس" وقدرتها على الحكم، من دون إسقاطها خشية مما يمكن أن يحل محلها؛ إلزام "حماس" بلجم فصائل المقاومة الأُخرى ومنعها من مهاجمة إسرائيل؛ إلحاق أذى كبير بالمدنيين لدفعهم إلى معاداة "حماس" وفصائل المقاومة وكل ما تمثله هذه الفصائل وتدعو إليه؛ كسر اتفاق المصالحة بين "فتح" و"حماس" وإسقاط الحكومة التي تألفت بموجبه، وذلك بفعل الهوة التي ستتسع بين الحركتين بسبب التناقض الجذري بين موقف السلطة في رام الله وموقف المقاومة فيما يتعلق بالتعامل مع إيقاف العدوان.

باختصار، رأت القيادة الإسرائيلية أن "حماس" باتت، لأسباب معروفة، ضعيفة ومعزولة عربياً (وخصوصاً مصرياً)، ومفلسة مالياً وتجد صعوبة في القيام بأعباء الحكم، وأن الوقت ملائم جداً، من حيث الوضع الفلسطيني والوضع الإقليمي، لإضعافها عسكرياً، واتخذت من خطف المستوطنين الثلاثة في الخليل وقتلهم ذريعة لشن العدوان على غزة ومحاولة تحقيق أهدافها.

والهجمات على ماذا ومَنْ؟ طبعاً على الأهداف العسكرية للمقاومة: وهنا تدعي إسرائيل أنها دمرت عدداً كبيراً من الصواريخ، وقتلت كثيراً من الكوادر، وهدمت العديد من المقار والمنشآت التابعة للسلطة، وألحقت ضرراً جسيماً بالبنية التحتية المدنية، لكن ما حاولت التنصل منه هو الاعتداء الوحشي على المدنيين الأبرياء – حتى مساء أمس، أكثر من 220 شهيداً، معظمهم من النساء والأطفال (44 طفلاً آخرهم شهداء مذبحة الشاطىء المروعة الأربعة الذين استهدفتهم طائرة إسرائيلية على الرغم من وضوح هويتهم، و36 امرأة)، وأكثر من 1700 جريح، وتدمير نحو 400 منزل كلياً، وإلحاق تصدعات وأضرار بأكثر من 10,000 منزل، وهو ما أسفر عن استشهاد عائلات بأكملها وأفراد وتشريد لقاطنيها، وتهجير أكثر من 17,000 من سكان شمالي غزة وشرقيها أنذرتهم قوات العدوان بمغادرة منازلهم والتوجه إلى وسط القطاع وإلاّ تعرضوا للموت قصفاً، وها هم مشردون موزعون على مدارس الأونروا.

وماذا عن المقاومة؟ لم تفزع، ولم ترضخ، وواصلت إطلاق الصواريخ على مدن وبلدات جنوب إسرائيل ووسطها وشمالها (تل أبيب، القدس، حيفا، الخضيرة، عسقلان، أشدود وغيرها)، وهاجم فصيل تابع لها (كوماندوس بحري) قاعدة زيكيم العسكرية، وأرسلت إلى سماء العدو طائرة بلا طيار، وشنت هجمات محدودة برية هنا وهناك، والأهم من كل ذلك فاجأت العدو بصلابة إرادتها ونوعية أسلحتها وقدرتها على مواصلة إطلاق الصواريخ يومياً بالعشرات والمئات.

لم تكبد الصواريخ إسرائيل ضحايا بشرية يُعتد بها (قتيل واحد وبضعة جرحى)، ولم تُلحق بها دماراً كبيراً، لكنها أحدثت حالة من الخوف والقلق، وعرقلت مجرى الحياة العادية في مناطق وأوقات عديدة، وأدى استمرارها إلى جعل كثيرين يفكرون في جدوى العمليات العسكرية التي تقدم عليها دولتهم ولا تجلب لهم أماناً أو اطمئناناً أو حلولاً، وجعلتهم أيضاً يفكرون فيما يمكن أن يحدث إذا نشبت حرب مع حزب الله الذي يمتلك قيادة وتنظيماً وأسلحة وقدرة قتالية تفوق أضعافاً مضاعفة ما لدى المقاومة الفلسطينية.

وفي المقابل، أدى صمود المقاومة وأداؤها الصاروخي إلى انتعاش فكرة المقاومة والتحدي والتصدي في الأذهان فلسطينياً وعربياً، إلاّ من أعمت بصيرته ثقافة الاستسلام.

لقد حددت المقاومة الفلسطينية عدة شروط لوقف القتال، أهمها وقف العدوان العسكري وإطلاق الأسرى الذين حررتهم صفقة شاليط وأعادت إسرائيل اعتقالهم، والأهم من ذلك رفع الحصار عن القطاع. وهذا طبعاً ما لن تقبله إسرائيل.

إسرائيل لم تحقق بعد جُل أهدافها الرئيسية، وأهمه إيقاف الصواريخ وكسر إرادة المقاومة الفلسطينية. أمّا المقاومة فلم تلحق بإسرائيل ما يكفي من الأذى، بحيث تخضع لشروطها، أو تقبل الموافقة على حد أدنى مرضٍ لسكان غزة بعد كل التضحيات والمعاناة.

إذاً، ما سيحدث، وكيف ستتطور الأمور؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، لكن ما نأمله أن تستمر الوحدة الوطنية الفلسطينية، وهذا أضعف الإيمان، ذلك بأن المستهدف ليس "حماس"، بل الشعب الفلسطيني بأسره، وليس غزة فقط، بل القدس والضفة الغربية أيضاً، وأن حملتها العسكرية في الضفة الغربية قبل بدء العدوان لم تكن تستهدف "حماس" كوجود مادي فحسب، بل أيضاً وأساساً إرادة المقاومة ورفض الاستسلام والإصرار على تجسيد الحقوق التامة للشعب الفلسطيني.

عن المؤلف: 

أحمد خليفة: باحث في الشؤون الإسرائيلية والصهيونية في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت.