الشجاعية .. الحي النازف باستمرار
التاريخ: 
22/07/2014

 بعد أكثر من ثلاثة عشر يوماً من الحرب على غزة لا يعرف كثير من سكان حي الشجاعية شرقي المدينة ما حدث!! أو السبب في ذلك، ولِمَ كل هذه القسوة، كما لا يعرف كثيرون منهم ما حلّ بذويهم. وحتى لحظة كتابة هذه السطور لا يزال  أفراد من عائلات عديدة (عياد، جندية، التركماني، السكافي، الظاظا، المبيض، الغرابلي، الضبة، السرسرك وغيرهم) تحت الأنقاض، في حين لا يُعرف مصير كثيرين من ذويهم، وذلك جرّاء الحصار الذي فُرض عليهم بعد نزوح عشرات الآلاف منهم، فضلاً عن عدم معرفة مصير البيوت التي تركوها مجبرين. ولم تفلح عشرات المناشدات التي أطلقها النازحون إلى الصليب الأحمر والأونروا في إخراج المحاصرين، أو الشهداء، أو إنقاذ الجرحى والمصابين.

بدأت القصة حين وصل تهديد إسرائيلي إلى مستشفى الوفاء الطبي الواقع أقصى شرقي الشجاعية، بضرورة إجلاء النزلاء والعاملين وكل من يوجد فيه. لكن المسؤولين عن إدارة المستشفى والمرضى، وفق شهود عيان وعدد من العاملين هناك، رفضوا الخروج وأصروا على البقاء لأسباب متعددة، منها أن كثيرين من النزلاء لا يمكنهم الخروج بسبب وضعهم الصحي (المستشفى مخصص لكبار السن، ولأصحاب الإعاقات الحركية بالدرجة الأولى)، وكذلك لأسباب فلسطينية بحتة، كالصمود والثبات في الأرض وعدم الركون أو التنازل لمصلحة الاحتلال الإسرائيلي.

لكن الاحتلال أصر على تهديده بإجلاء المستشفى، الأمر الذي يبدو أنه كان يخطط لأن تكون المنطقة نقطة ارتكاز له في عمليته البرية لاجتياح أطراف من قطاع غزة ( وهو ما حدث بعد ذلك). فأطلق عدداً من قذائف الدبابات صوب المستشفى، وهو ما دل على إصراره على الإجلاء. غير أن العاملين فيه ونزلاءه لم يبرحوا المكان، وما زادهم شجاعة هو قدوم عدد محدود من المتضامنين الأجانب (ليسوا عرباً) للإقامة به (يلجأ الفلسطينيون إلى مثل هذه الأساليب للحد من إجراءات الاحتلال القمعية بحق المواطنين). ويقول أبو كريم العجلة، عامل البناء، إنهم كانوا يتواصلون مع المتضامنين بحكم مجاورتهم المستشفى. وكان المتضامون الأجانب يشترون حاجاتهم من المنطقة المجاورة ويتحدثون مع السكان ويتبادلون معهم عبارات الصمود. لكن تعنت الاحتلال فاق كل خطوة قد يتخذها الفلسطينيون لتعزيز صمودهم. وهكذا أجرى الاحتلال اتصالات بالمتضامنين وهددهم بضرورة مغادرة المكان وإجلاء المستشفى وإلاّ سيتم هدمه على رؤوس قاطنيه من دون أي تردد، وتم إعطاء مهلة حتى الساعة الثامنة مساء. وفي منتصف الليل بدأ الهجوم على المستشفى، فشبت النيران في الطبقة الرابعة، الأمر الذي دفع بالمتضامنين الأجانب إلى المغادرة، ثم كان قرار الإدارة بالمغادرة إلى مستشفيات أُخرى وسط المدينة.

تزامن هذا كله مع اتصالات مسجلة عبر الهواتف الثابتة بسكان حي الشجاعية وحي التفاح للمغادرة، لكن بحسب محمد السكافي، وهو شاب في العشرين من العمر، كانت هذه الاتصالات مألوفة، وبالتالي لم يُكترث لها، ولم يعتقد السكان أنها جدية، وستتسبب  بهذه المجزرة ، بينما تقول السيدة أم فراس أبو القمبز وهي شابة في أواخر العشرينيات من عمرها إنها وأهل بيتها يزيدان عن الخمسين فرداً، ولذا قررت البقاء في المنزل مع عائلتها، وذلك لعدم وجود بديل يتسع لعائلتها ولسائر أفراد عائلتها الممتدة.

وفجر السبت (19/7/2014) سمع أهالي الشجاعية والتفاح عدداً كبيراً من القذائف يسقط بشكل متواصل، ولم يتصور كثيرون منهم، بحسب اللقاءات التي أجريت معهم، أن تكون هذه القذائف، فوق رؤوسهم، وإنما على أراض خالية، لكنهم تفاجأوا بأن الموت يحيط بهم من كل مكان، وفق أبو علاء عبيد الذي يعمل موظفاً في ديوان موظفي السلطة الفلسطينية.

غادر أكثر من 100,000 نازح منازلهم، بحسب تصريحات الأمم المتحدة نتيجة الهجوم العسكري الإسرائيلي الواسع الذي بدأ في 8 يوليو/تموز الحالي. وقال المتحدث باسم الأونروا كريستوفر غونس، لدى إعلانه فتح 69 ملجأً إضافياً في القطاع، إن هذه الأعداد تشكل منعطفاً في عمل الوكالة "لأن عدد الأشخاص الهاربين الساعين للعثور على ملجأ لدى وكالتنا بات ضعف العدد الذي سجل خلال آخر نزاع سنة 2009." وكذلك وفقاً لمدير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان.

وهكذا انطلق النازحون على غير هدى يهربون من الموت الذي يطاردهم، من كل حدب وصوب، ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم!! فخرجوا يحملون فوق رؤوسهم قطعاً بيضاء من القماش، ليعلنوا أنهم ليسوا أكثر من ناجين يبحثون عن فرصة جديدة من الحياة، لكن القذائف التي تحمل الموت تجاهلت هذه المحاولات اليائسة، وصبت حممها فوق الرؤوس، فتعثر هؤلاء بجثث ذويهم. ويقول أبو سلمان إنه تعثر بأكثر من جثة لجيرانه وأقاربه على الأرض من دون أن يجرؤ على مجرد التوقف لتفحص الجثة وما إن كان فيها، أو في غيرها، نفس ينبض!

يصف علاء الغرابلي، من جهته، ما حدث بأنه هتلر أميركا (يقصد ألمانيا)، ويضيف أن الاحتلال تعلم هذه التصرفات من ذلك الرجل النازي ، وطبقها بكل تفصيلاتها على شعب أعزل، فقتل مَنْ قتل وأصاب مَنْ أصاب.

ما إن نجا هؤلاء من الموت المحقق واجتازوا بر الأمان عند أطراف الحي ، حتى تفرق الجمع كل إلى غايته، وانقسموا إلى عدة أماكن لجوء، فمنهم من قرر الذهاب إلى أقاربه في وسط مدينة غزة، وقد يكون هناك متسع لمبيت ليلة أو ليلتين، وقسم آخر لجأ إلى مستشفى الشفاء في المدينة، وهو أكبر مستشفيات القطاع، وأقام بفنائه الخلفي، أمّا القسم الأكبر فتوجه إلى مدارس الأونروا، والتي فُتحت أبوابها منذ اليوم الأول للحرب، الأمر الذي أثار استغراب كثير من السكان، وخصوصاً أن أبوابها لم تُفتح أيام المنخفض الذي ضرب غزة الشتاء الماضي، وتسبب بغرق عشرات الأسر، الأمر الذي اضطر الأهالي وقتها إلى كسر الأبواب وفتحها بالقوة.

آوت العائلات الكثيرة الأقراد أصلاً عدداً غير كبير من ذويها، وقدمت له ما تستطيعه، الأمر الذي يشكل عبئاً اقتصادياً كبيراً، ولا سيما في شهر رمضان، وهو ما يسبب حرجاً للعديد من العائلات، سواء تلك التي آوت، أو حتى التي لجأت، نظراً إلى الوضع الاقتصادي المتردي أصلاً قبل الحرب وبعدها.

ولم يكن الوضع في المدارس أحسن حالاً مما سبق، إذ لم يقدم في الليلة الأولى إلى النازحين أكثر من الغرف (الصفوف الدراسية)، فافترشوا الأرض والتحفوا بالسماء، وقدم لهم أهل الخير بعض المساعدات والأغطية، واستطاع بعضهم أن يستعير من أقربائه في مناطق مجاورة عدداً من الأغطية وبعض أنواع الأطعمة، وفي وقت السحور لم يلتفت إليهم أحد. ويقول كل الشهود إن أحداً لم يكترث لهم، فصاموا من دون تناول طعام السحور، بل لم تتوفر لهم المياه. وفي ذلك يقول محمد الددة، أحد المشرفين على مدارس الزيتون جنوبي المدينة، إن الوكالة لم تكن مهيأة لكل هذه الأعداد، ويفيد أن مدرسته تتكوّن من 32 غرفة تقريباً يقيم بها ما معدله 70 فرداً داخل كل غرفة، رجالاً ونساء وأطفالاً، والعدد في ازدياد حتى هذه اللحظة، ولن تستطيع المدرسة استيعاب مزيد من النازحين. وقد رأى كاتب هذه السطور بعينه النازحين وهم يرجون القائمين على المدرسة مجرد استيعابهم فيها ليس أكثر. ويلفت الددة النظر إلى أن كل الكميات من المياه (لم تقدم أصلاً) والطعام لن تكفي، لأن الشعور بالذعر والخوف والحاجة سيطغى على أي شعور آخر، ولن تجدي كل محاولات التوجيه والإرشاد بضرورة توفير المياه وعدم استخدامها إلاّ عند الضرورة. ويوضح أن الوكالة قدمت إلى كل المدارس عدداً من مواد التنظيف، وُزع داخل دورات المياه وأماكن متعددة من مراكز الإيواء، وأيضاً بعض قوارير المياه الفارغة وسلموها للنازحين ليتدبر كل أمره فيما يتعلق بالمياه، لأن الأونروا لا توفرها، بل المجتمع المحلي (المتبرعون). وبسبب الأوضاع الأمنية لم يسارع المعنيون إلى التبرع بالمياه، الأمر الذي أدى إلى استخدام النازحين المياه المالحة، في هذا الحر الشديد ونهار رمضان الطويل.

يقول أبو علي المبيض، بدوره، إنه أرسل زوجته وأخواته إلى دورات المياه ليقوموا بتنظيفها مؤكداً أن العلاقة بجميع النازحين هي علاقة تكافل وتوادّ في هذا الوقت العصيب، موضحاً أنه في الليلة الثانية تم توزيع شيء من طعام السحور عليهم، عبارة عن حلاوة وبعض الخبز، بينما لا يوجد أي أغطية أو فرشات تكفي هذا العدد الكبير، ولذا يتقاسم النازحون كل شيء.

يؤكد أبو محمد جندية، من جانبه، أن المسؤولين عن هذه المدرسة لا يملكون أي إمكانات. وبما أنه يقطن في الشارع الشرقي، ومنزله على الحدود تماماً مع الأراضي الإسرائيلية، فقد رأى أن سيارات الإسعاف لم تتمكن من الدخول من أجل النازحين، فبدأ الرجال والنساء يحملون أطفالهم على ظهورهم لمسافة تزيد على 3 كم.

ويؤكد سمير الزربتلي أن عدداً كبيراً من العائلات قُتل، كعائلة عياد التي هربت من شارع المنصورة تجاه وسط الحي وكانت تركض بكل سرعة، فسقطت على أفرادها قذيفة فعاجلتهم بالموت السريع. ويوضح الزربتلي أن العائلة تتكون من الأب والأم وثلاثة أطفال قضوا على الفور.

وفي السياق ذاته، لم يجد كثيرون بداً من التوجه إلى الحي مرة أُخرى محاولين إحضار بعض الحوائج، كالأغطية وما خف وزنه وغلا ثمنه، ليعينهم في هذه الأزمة. وتمكن البعض من العودة جالباً ما تيسر، والبعض الآخر لم يتمكن فحوصر من جديد، وقُتل عدد منهم أيضاً، والذين عادوا افترشوا الأرض مرة أُخرى راضين بالسترة بحسب تعبير عدد منهم.

وتقول أم علي جندية إن المقاومين منعوها من العودة، مؤكدين أن هناك قنّاصة اعتلوا عدداً من المباني، وأن أحداً لا يستطيع إنقاذها لو أصيبت، مع أنها كانت تحتاج إلى كثير من الأغراض اللازمة للأطفال بصورة خاصة، كالحليب والحفاضات، فضلاً عن الطعام والشراب والملابس.

ويطالِب كثيرون من النازحين بهدنة تعيد إليهم الهدوء الذي افتقدوه مطالبين بحل ينهي هذه الحرب التي سلبتهم كل شيء. وتقول الحاجة أم سمير التي نزحت هي وأكثر من 30 فرداً من عائلتها وجيرانها إن أبسط المقومات الأساسية للحياة غير متوفرة، وليس هناك مياه أو خبز أو طعام للكبار أو للصغار، وإن الوضع في مراكز الإيواء كارثي.

الطفل علي الذي لا يتجاوز عمره العشرة أعوام يفضل البقاء هنا في المدرسة عن العودة إلى المنزل، مؤكداً أن هناك ضرباً (قصفاً) في كل أنحاء منطقته حيث يسكن. أمّا الطفلة الصغيرة روند جندية (12عاماً) فتقول إن النصر سيكون لنا، لأننا ندعو الله أن ينصرنا.

وفي هذه الأثناء، صرح الناطق باسم وزارة الداخلية إياد البزم أن الوزارة تحاول تأمين مراكز الإيواء عبر عناصرها المنتشرين في الشوارع بزي غير رسمي (تستهدف طائرات الاحتلال عناصر الشرطة الفلسطينية ومراكزها في كل عملية عسكرية)، ويتواصلون إمّا بالهواتف النقالة وإمّا اللاسلكية. وأكد البزم أن الأمن داخل المدارس مستقر، ولم تحدث أي مشكلة، وأن مصاب الناس في الشجاعية وغيره أكبر من صغائر حياتهم الأُخرى، مشدداً على أن هناك نوعاً من التنسيق بين الداخلية والأونروا لتوفير الأمن والمتابعة بصورة عامة على مراكز الإيواء، لمنع استغلال حاجات الناس، أو محاولات ابتزازهم. ولم تسجل الداخلية أي حادثة استدعت تدخل الوزارة.

وأوضح البزم أن عنصرين من عناصر الوزارة من الدفاع المدني والخدمات الطبية تم استهدافهما وهما يقومان بإجلاء الجرحى والمصابين من الحي، فاستشهدا على الفور، كما أعربت الداخلية عن استنكارها اتهام الأونروا بقيام المقاومة بتخزين عدد من الصواريخ داخل مراكز الإيواء وطالبت بإثبات الحالة، وتسليم هذه المتفجرات ومحاسبة المتسببين بها، لكن الأونروا، بحسب البزم، تهربت من ذلك، وانتهت القصة بلا شيء. وأبدى البزم استغرابه لهذا الاتهام من دون أن يكون لديه تفسير عن سببه، أو عن عدم التعاون في هذه القضية بصورة خاصة، ولا سيما أن الاحتلال استهدف مراراً عدداً من مراكز الإيواء تحت تهم وذرائع متنوعة.

وكان المدير العام لعمليات الأونروا في غزة روبرت تيرنر قد طالب في وقت سابق بتوفير المستلزمات الطبية والمعونات لمستشفيات قطاع غزة، مع تأمين ممر آمن للفرق الطبية وسيارات الإسعاف التي تتعرض للاستهداف الإسرائيلي.

وأكدت الأونروا أن مخزونها من الأغطية والمعدات الصحية في القطاع نفد، وأوضحت أنها تواجه صعوبات كبيرة في تلبية حاجات الآلاف ممن شردهم العدوان الإسرائيلي. وناشدت الوكالة الجهات الدولية المانحة لدعمها بمبلغ ستين مليون دولار لإغاثة قطاع غزة نتيجة ما يتعرض له من هجوم إسرائيلي.

وأكدت منظمة الصليب الأحمر الدولي، بدورها، أن الوضع الإنساني في غزة صعب جداً. وقالت الناطقة الإعلامية باسم المنظمة نادية الدبسي إن تدهور الأوضاع الأمنية يشكل تحدياً لهيئات الإغاثة في تقديم مساعداتها بالقطاع، في ظل تزايد عدد المحتاجين إلى المساعدة. ولفت نظر كاتب السطور أن عدداً من المساجد نظم حملات تبرع لجمع الأموال لسد العوز الذي يعيشه حي الشجاعية وأحياء أُخرى في مدينة غزة، وناشد عبر مكبرات الصوت الخاصة بالمساجد المتبرعين بضرورة إخراج صدقاتهم وزكاتهم لهؤلاء النازحين.

وسمي حي الشجاعية نسبة إلى شجاع الكردي الذي استشهد هناك في معركة بين صلاح الدين الأيوبي والصليبيين سنة 1239م، كما يوضح المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض. ويقع الحي على أطراف المدينة، وهو متاخم للحدود الإسرائيلية، وفيه معبر المنطار المغلق منذ أكثر من ثمانية أعوام، الأمر الذي يجعله هدفاً دائماً لقوات الاحتلال في أي عملية عسكرية قد تشنها على غزة منذ الانتفاضة الثانية التي بدأت سنة 2000.

وقد اجتاحت عشرات الدبابات والآليات العسكرية يوم الأحد (20/7/2014)، المناطق الشرقية من مدينة غزة، بغطاء نيران المدفعية الثقيلة، وتسبب الهجوم باستشهاد ما لا يقل عن 120 فلسطينياً، بحسب الناطق باسم وزارة الصحة في إحصاءات أولية تزداد كل يوم بسبب الحصار المفروض على حي الشجاعية جاعلة الأحد أكثر الأيام دموية منذ بداية الحرب على غزة المحاصرة قبل أكثر من أسبوعين.

عن المؤلف: 

نور أنور الدلو: صحافي - غزة.