صمود استثنائي تلتهمه المحاور
التاريخ: 
01/08/2014
المؤلف: 

 على الرغم من الصمود الاستثنائي لأهل غزة الذي أذهل العالم وعدّل بعض المعادلات والحسابات السياسية، فقد لخصت الحرب الإسرائيلية على القطاع هشاشة المشروع الوطني الفلسطيني، حيث بدا مرة أُخرى منقسماً بين واقعين أحلاهما مر:

الأول: واقع التلاشي السياسي التام لفريق سياسي فلسطيني ووقوفه موقف المتفرج الضعيف الذي لا حول ولا قوة له، ولا سند شعبياً له، ولا سند إقليمياً في مواجهة هول الجريمة الإسرائيلية المتمادية. إلاّ إن هذا الفريق عاد فاستمد من المقاومة البطولية لأهل غزة نفساً سياسياً سعى لتوظيفه قدر الإمكان لمصلحة تعزيز الوحدة الوطنية والحد من الشرخ الذي كانت تتوخاه إسرائيل وبعض الأنظمة العربية. وتجلى ذلك بتضامن أهل الضفة مع القطاع والمواقف الوحدوية لعدد من قادة السلطة الذين تخلوا عن انتقاداتهم السابقة لحركة "حماس" .

الثاني: الواقع المقابل الذي بدا كأن لا خيار له سوى الانتحار سياسياً وعسكرياً في مواجهة لا الهجمة الإسرائيلية فقط، بل أيضاً أمام الحصار المتعدد الوجوه عربياً وإقليمياً بسبب مواقفه السياسية من تطورات ما يطلق عليه اسم "الربيع العربي"، ولا سيما من مصر. لكن صمود القطاع وجهوده الكبيرة في بناء منظومة مقاومة أنزلت خسائر فادحة نسبياً في صفوف المهاجمين، دفعت بعدة أطراف إلى مراجعة مواقفها من الحركة الإسلامية الفلسطينية ومما يجري في القطاع، وتالياً تعديل خطابها مع الفلسطينيين وإزاء الإسرائيليين.

كما كشفت الهجمة على القطاع المدى الذي بلغه الاستقطاب الإقليمي الذي أتاح لإسرائيل الاستمرار في عدوانها وارتكاب جرائمها من دون بروز جبهة إقليمية موحدة تضغط من أجل وقف الحرب. فالعرب المشرذمون بفعل تحولات "الربيع العربي" لا يستقرون على رأي واحد. وما اقترحته مصر من مبادرة لوقف النار لم تتحمس لها قطر وتركيا، القوتان اللتان تدعمان مشروع "الإخوان المسلمين" في المنطقة التي تعتبر حركة "حماس" جزءاً منه.

عجز رافضو المبادرة المصرية في الوقت نفسه عن صوغ مبادرة يمكن أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ من دون موافقة مصر. وفي أجواء الاحتقان هذه تجدد السجال بين أنقرة والقاهرة، ولم يتورع رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان عن وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بـ"الطاغية"، واتهام الحكومة المصرية بعرقلة التوصل إلى هدنة في غزة من أجل ضرب "حماس".

الأنكى من ذلك، أن الوسيط يكون، عادة، دولة محايدة في الصراع العربي - الإسرائيلي، لا دولة عربية يُفترض أنها معنية بهذا الصراع وطرف فيه. فالوسيط، مثلاً، يمكن أن تكون البرازيل أو الهند أو جنوب إفريقيا أو حتى الاتحاد الأوروبي، لكن ليس مصر، كبرى الدول العربية، والتي تملك كثيراً من أوراق القوة التي يمكن أن تفرضها على الإسرائيليين، مثل التلويح بقطع العلاقات الدبلوماسية، أو دعوة مختلف الفصائل الفلسطينية إلى القاهرة لتوحيد موقفها وتعزيز الوحدة الفلسطينية وعقد مصالحة مع "حماس". وكان لجهد كهذا، لو تم، أن يُعبِّد من جديد طريق عودة مصر إلى دورها الريادي الإقليمي المفقود، والذي لم يعد حاجة مصرية فحسب، بل أيضاً حاجة عربية ملحة في ظل التجاذبات الإقليمية على الساحات العربية. ولا شك في أن غزة هي البوابة المثلى لعودة كهذه.

وإلى المأزق الإقليمي، يقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية عاجزين عن التأثير في إسرائيل، في حين لا يبدو أن ثمة نفوذاً يُذكر للأمم المتحدة، وهو ما يترك تل أبيب طليقة اليدين في تدمير غزة وإضعاف الموقف الفلسطيني عموماً. وجدير بالإشارة إلى أن التراخي الأميركي أمام رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، فيما يتعلق بعملية السلام ووقف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية تحت ذرائع شتى، جعل الحكومة الإسرائيلية تقدم على إعلان الحرب ضد غزة في وقت كانت الضفة الغربية على أهبة انتفاضة ثالثة عقب قيام مستوطنين بقتل الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير من مخيم شعفاط انتقاماً من مقتل ثلاثة مستوطنين بعد خطفهم قرب الخليل. وهذا التوتر كله تسببت به إسرائيل من خلال إحراج الفلسطينيين إلى درجة إخراجهم من المفاوضات بعد مصادقة سلطات الاحتلال على بناء آلاف الوحدات الاستيطانية في القدس الشرقية والضفة الغربية.

واختارت إسرائيل بعد ذلك الهروب إلى الأمام من خلال شن الحرب على غزة لخلق أمر واقع جديد في ظل وضع إقليمي مؤات لها من أجل جني ثمار الفوضى التي تضرب المنطقة وتجعلها منشغلة بحروب داخلية، ولا سيما الدول العربية الرئيسية الثلاث: العراق وسورية ومصر. لا بل جاء صعود التيارات الجهادية التي تضع في سلم أولوياتها أجندات لا علاقة لها بالصراع العربي - الإسرائيلي، ليزيد الطين بلة، من حيث إثارة صراعات مذهبية لا تخدم في النهاية القضايا الوطنية والقومية، وفي مقدمها القضية الفلسطينية. وهكذا تجد إسرائيل فرصتها اليوم من أجل تصفية القضية الفلسطينية بأهون السبل من خلال الاستفراد بالفلسطينيين الذين فقدوا عمقهم الاستراتيجي المتمثل في العراق وسورية ومصر. 

كذلك ترى إسرائيل أن حربها على غزة الآن لا تخدم فرض أمر واقع جديد على الساحة الفلسطينية فحسب، بل أيضاً إن الحرب الإسرائيلية هي عنصر تشويش على المفاوضات النووية بين إيران ومجموعة الدول الخمسة زائد واحد. ومعلوم أن نتنياهو يخشى أن تسفر المفاوضات النووية عن اتفاق يفضي إلى الاعتراف بإيران دولة نووية، وأيضاً إلى أن يقر بدورها الإقليمي الذي توسع بعد سقوط نظام طالبان في أفغانستان ونظام صدام حسين في العراق.

ويسعى نتنياهو بشتى الوسائل للحيلولة دون التوصل إلى اتفاق بين إيران والغرب، لأن هذا سيستتبع تطبيعاً بين طهران وواشنطن من شأنه أن يفرض خريطة علاقات جديدة في الشرق الأوسط، لن تكون فيها مكانة إسرائيل كما هي الآن. لذلك تخدم الحرب الإسرائيلية على غزة مساعي نتنياهو لتخريب احتمالات الاتفاق الذي سيترك تبعات سياسية في أكثر من اتجاه.

لكن ما يساعد إسرائيل في تحقيق أجندتها هو عدم الاتفاق إقليميا على أن الحرب الإسرائيلية يجب أن تتوقف، وأن ذلك يتطلب من القوى الإقليمية جميعاً القفز فوق كثير من التناقضات والخصومات فيما بينها وصولاً إلى صيغة من شأنها إعطاء الأولوية لدعم الشعب الفلسطيني وعدم استخدام الساحة الفلسطينية منصة لتصفية حسابات على خلفية الخلافات فيما بين المحاور التي أفرزتها اضطرابات "الربيع العربي" في الأعوام الثلاثة الأخيرة.

وفي حال استمرار التجاذب، فإن الفلسطينيين هم الذين سيدفعون مزيداً من الأثمان في عالم عربي أضاع بوصلته لا منذ ثلاثة أعوام فقط، بل منذ أكثر من 67 عاماً، عندما أتاح التشرذم العربي وصراع المحاور فيه أمام إسرائيل لتغتصب فلسطين. ولم يتغير المشهد العربي اليوم، وإنما زاد عجزاً وتشرذماً، بحيث بات قيام واقع مغاير يكاد يكون ضرباً من المستحيل.

عن المؤلف: 

أمين قمورية: صحافي في جريدة النهار.