على حافة الجرف: قراءة في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ونتائجه الأولية!
التاريخ: 
21/08/2014
المؤلف: 

 

من غير الواضح بعد، كيف يمكن أن ينتهي العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (2014). لكن ليس من الصعب التكهن بالسيناريوهات والاحتمالات. فإمّا أن يتوقف هذا العدوان (باتفاق أو من دونه) وإمّا أن يستمر (إطلاق نار متقطع، أو هجوم كاسح). وتقع قراءة هذه السيناريوهات خارج اهتمام هذه المقالة، التي تحاول أن تقدم قراءة في السياق العام للعدوان، ودينامياته ونتائجه الأولية على الأرض.

 

تقع هذه القراءة، خارج ما تناقلته وسائل الإعلام وخطابات السياسيين، فيما أسميه "أسطرة نموذج غزة". فأي قراءة على هذا الأساس لن تكون أكثر من انفعالات مرسلة ورغبات ذاتية، فيها كثير من الإسقاط والتخيل والتمني. أمّا قراءة العدوان من خلال تحليل بنود أي اتفاق يمكن التوصل إليه، فقراءة مؤجلة، إذ لم يوقَّع أي اتفاق بعد، وربما لا يوقَّع!

بدأ العدوان في الأسبوع الأول بالقصف المركز، جواً وبراً وبحراً، لمناطق زراعية ومنشآت عامة ومقار، وأدى إلى تدمير بعض "بيوت القادة" وفقاً للأوساط الأمنية الإسرائيلية. وفي المرحلة الثانية التي استمرت حتى بداية آب/ أغسطس شنت إسرائيل ما سمته "حرباً برية" بحجة البحث عن الأنفاق وتدميرها. وفي الواقع، لم تكن هذه حرباً برية بالمعنى المألوف، إذ لم تتوغل الآليات العسكرية والجنود إلاّ لمسافات محدودة ولغايات محددة، وذلك بعد أيام من القصف المدفعي العشوائي لأحياء كاملة، وارتكاب مجازر مروعة. المرحلة الثالثة، هي مرحلة التهدئة وإطلاق النار المتقطع والتفاوض غير المباشر في القاهرة بوساطة مصرية. وفي غضون ذلك، بدا قطاع غزة، الشريط الساحلي الضيق ذو المساحة التي لا تتجاوز 360 كيلومتراً مربعاً، كأنه تعرض لزلزال. أمّا المناطق شرقي شارع صلاح الدين، الطريق الرئيسي الذي يربط شمال القطاع بجنوبه، فكانت هدفاً للحرب البرية، وقد تحولت أجزاء واسعة منها إلى أراض محروقة ومدمَّرة (500 م من خط الهدنة وعلى طول الحدود)، وخالية من السكان (نزوح نصف مليون إنسان). وأمّا المناطق غربي صلاح الدين، فبدت أشبه بمخيم إيواء كبير، علاوة على أنها تعرضت للقصف المتواصل والمركز جواً وبحراً طوال فترة العدوان. 

الاقتلاع والتشريد

كان لافتاً في هذه الحرب أن إسرائيل استهدفت المدنيين على نطاق واسع، جامعة بذلك بين عقيدة الضاحية وارتكاب المجازر. وبعد فشل المبادرة المصرية الأولى، تلقى سكان حي الشجاعية اتصالات هاتفية تطلب منهم إجلاء منازلهم، واعتقد كثيرون أن هذه مجرد حرب نفسية فلم يستجيبوا. ومنذ مساء الخميس (17 تموز/ يوليو) حتى يوم الأحد (20 منه) بدأت المدفعية الإسرائيلية بقصف محدود ومتقطع استهدف بعض المنازل، ليتوسع يوماً بعد يوم إلى أن حدثت المجزرة. وغني عن البيان أن أياً من الأسباب والذرائع التي أعلنتها إسرائيل لم يكن صحيحاً، ولا يبرر هذه الجرائم التي وصلت إلى حد الإبادة الجماعية. كان الهدف واضحاً: ترويع المدنيين وترويضهم وكيّ وعيهم أولاً، وإجبارهم ثانياً على النزوح وترك بيوتهم. لقد أجبر العدوان، بتعمد واضح، السكان على اختبار أربع لحظات مروّعة، لن تمحى من ذاكرة الأحياء منهم: تدمير البيوت فوق رؤوس ساكنيها؛ الاندفاع على غير هدى خروجاً من البيوت في اتجاه الشوارع، وخصوصاً في الليل، بعد تحذيرهم بالإجلاء خلال خمس دقائق؛ النزوح الجماعي تحت نيران القصف، ومن فوق الجثث، وفي حالة من الذعر الشديد؛ العودة في أثناء فترات التهدئة إلى بيوت مدمَّرة كلياً أو جزئياً في مناطق مُسح بعضها عن الأرض، وتحت تهديد خرق التهدئة والتعرض للقصف، كما حدث في بيت حانون والشجاعية وخزاعة.

غياب "الحكومة" وعودة الصراع بشأنها

بعد توقيع "اتفاق الشاطئ" بدا واضحاً أن شروط نجاح المصالحة واستكمالها في طريق بناء استراتيجيا وطنية موحدة، غير متوفرة. وهذه الشروط هي: توسيع القاعدة الاجتماعية للمصالحة؛ تحييد أي جهة قادرة على تخريب العملية أو راغبة في ذلك؛ اتباع سياسة حذرة لا توفر لإسرائيل أي ذريعة لتقويض المسار. ولم يكن خافياً أن تقويض المسار سيجعل قطاع غزة "ضحية" مرة أُخرى، وأبشع صور ذلك عودة الفلتان والاقتتال أو الحرب. واللافت في الأمر، أنه في الفترة الفاصلة بين تأليف حكومة التوافق وبدء العدوان، برز بعض الإشكاليات وجرى تضخيمه، وحدثت "موقعة البنوك" على خلفية أزمة الرواتب، وتلكأت الأطراف عن تطبيق بنود الاتفاق. ومع اندلاع الهبّة الجماهيرية العارمة في أعقاب جريمة المستوطنين بإحراق الفتى أبو خضير، بدا أن قطاع غزة يعيش حالة من عدم اليقين والغضب. فـ"حماس" خرجت من الحكومة ولم تخرج من الحكم، كما جاء على لسان إسماعيل هنية، وحكومة التوافق لم تبسط سيطرتها بعد. وكان من غير المعروف ماذا سيحدث في اليوم التالي؟ فضلاً عن اليوم الذي يليه، بحسب نظرية فريدمان. وكانت نذر العدوان بادية، غير أن أحداً لم يحرك ساكناً في اتجاه تأمين الحد الأدنى من شروط الصمود وتعبئة المواطنين. واللافت أيضاً أن هذه الحالة لـ"غياب السلطة" انسحبت على فترة العدوان بدرجات متعددة، وتُرك الناس وشأنهم في تدبير أمور حياتهم تحت نيران الاحتلال. والمفارقة أن عودة "السلطة الفلسطينية" إلى قطاع غزة باتت من موضوعات التفاوض: تسيبي ليفني اقترحت عودة السلطة الفلسطينية مقرونة بنزع سلاح المقاومة؛ تسريبات مفاوضات القاهرة أعطت انطباعاً بأن النقاش يدور فقط حول تكليف السلطة دوراً إنسانياً وعملياً أكثر منه سياسياً؛ يقول بعض المؤشرات الميدانية إن "حماس" لا ترحب بوجود حكومة التوافق، ولا تنوي تسليمها زمام إدارة شؤون المجتمع والحكم. في كل الأحوال، تبذل إسرائيل قصارى جهدها لتكريس فصل قطاع غزة وانفصاله، ومن غير المرجح أن توافق على عودة السلطة الفلسطينية.

معضلة غزة والحل الوسط

شكل قطاع غزة، ولا يزال، معضلة بالنسبة إلى إسرائيل، من حيث ضيق مساحته مع كثافة سكانية هائلة؛ قلة الموارد والضغط الناجم عن ذلك؛ انتماء أغلبية سكانه إلى اللاجئين الذين يرون بقايا بيوتهم بالعين المجردة، الأمر الذي يؤجج إصرارهم على النضال من أجل العودة؛ وجود تشكيلات عسكرية مدربة ومجهزة وقادرة؛ احتمال أن تتحول غزة إلى رأس حربة مدعومة من دولة إقليمية قوية أو تحالف إقليمي قوي؛ وقوع قطاع غزة في منطقة تقاطع النيران بين إسرائيل ومصر. لهذه الأسباب، مضافاً إليها صلابة أهل غزة، وقدرتهم الفائقة على الصمود والتحمل والمقاومة، يبقى القطاع معضلة حقيقية، تسعى إسرائيل، مثلما فعلت دوماً، للتخلص منها.

في إطار التعامل مع هذه المعضلة بعد الفصل أُحادي الجانب، شنت إسرائيل ثلاث حروب، في سياق متصل من الحصار والتحكم في منافذ القطاع، حملت أسماء موحية بدلالات دينية واستراتيجية وأمنية؛ فمن الرصاص المصبوب، إلى عمود السحاب، إلى الجرف الصامد. ومَنْ يتابع قراءة التقارير الاستراتيجية والدراسات السياسية والمقالات الصحافية التي تناولت موضوع قطاع غزة من جانب الإسرائيليين، يمكن أن يقف على الخلاصة التالية للموقف الإسرائيلي محل الإجماع تقريباً في أوساط النخبة: نعم، إسرائيل قادرة على أن تحتل غزة في فترة قصيرة، وأن تجرد المقاومين من أسلحتهم، وأن تعتقلهم أو حتى تقتلهم، غير أن المشكلة ليست هنا، ولا حتى في أعداد القتلى من المدنيين، ولا في الخوف من غضب المجتمع الدولي المتوقع. المشكلة ذات بعدين: الأول، ماذا تفعل إسرائيل في اليوم التالي؟ أين تذهب بغزة؟ فهي لا تريدها تحت سيطرتها مرة أُخرى وقد انفصلت عنها؟ ولا تريدها جزءاً من دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/ يونيو. الثاني، لا يمكن تركها وشأنها لتنفجر في وجه إسرائيل. فإمّا أن يُلقى بها في البحر (أمنية رابين)، وإمّا أن تُدفع إلى الجوار (الحل الإقليمي). وكشف العدوان الأخير صعوبة تحقق الحل الإقليمي دفعة واحدة، فقد أبدت مصر، تحت قيادة عبد الفتاح السيسي، ممانعة قوية، وأجبرت الإسرائيليين على التفاوض، عبرها، مع وفد فلسطيني يمثل الشرعية الفلسطينية، وهو ما أربك إسرائيل، فوجهت رسالة غاضبة، لحظة وصول الوفد الفلسطيني إلى القاهرة، بارتكابها مجزرة رفح المروّعة بما لذلك من دلالات لا تخفى على أحد، ثم لجأت إلى المماطلة والتسويف، وغالب الظن أنها ستختار، في هذه الآونة، إبقاء غزة في حالة غير معرّفة، فلا هي تحت إدارة السلطة الفلسطينية الكاملة، ولا هي باتت تحت الوصاية المصرية المباشرة.

غزة على صفيح ساخن

لم تضع الحرب أوزارها بعد. إذ بينما تستمر المفاوضات المتعثرة في القاهرة، يواصل سكان غزة حياتهم الصعبة في ظل انعدام اليقين، والشعور بالقلق، وفي أوضاع إنسانية شديدة التدهور. وعبر كثيرون عن شعورهم بالصدمة التي لم يفيقوا منها بعد: "كأننا في حلم"، والحال أنهم يعيشون جدليات ومفارقات لم ترتق بعد إلى المستوى العقلي للمراجعة النقدية وتقويم الأداء وفهم ما يجري. وما زالت أغلبية السكان تعيش حالة الذهول الناجمة عن هول المعاناة وكثرة التحليلات الانفعالية والتقديرات الوهمية وانعدام المعيارية. وشيئاً فشيئاً بدأت الأمور تتضح، ليخرج الناس، أو بعضهم، من حالة القلق الوجودي إلى الانغماس في تدبير أمور الحياة اليومية، فوجدوا أنفسهم في معمعان "اقتصاد سياسي" للمساعدات الإنسانية التي انهالت من كل حدب وصوب، تكشَّف عن منافع فئوية ضيقة وحسابات شخصية وفوضى إدارية، بما يمثل امتداداً لنزعة "الخلاص الفردي" التي سادت في إبان القصف المروّع. وإذا كانوا قد خرجوا من حالة القلق الوجودي، الانفعالي، غير أنهم ما زالوا أسرى ثنائيات حاكمة لتفكيرهم ومحددة لسلوكهم: يرغبون في الانعتاق والحصول على ثمن تضحياتهم، لكنهم يخشون انفلات إسرائيل من عقالها لتمارس مزيداً من الجرائم (جدل الحرية والتضحيات)؛ يشعرون بطعم الانتصار لكنهم يرون بأمهات أعينهم مشاهد الدمار (جدل البطولة والانسحاق)؛ يعيشون جدل الوحدة والانقسام مرة أُخرى، إذ تعود جبهة العداء ليصطفوا على جانبيها (نحن/هم) في حالة التباس بشأن الهوية والانتماء الوطنيين.

اليوم الذي يلي اليوم التالي  

في المرحلة الثالثة من العدوان، أي فترة التهدئة وإطلاق النار المتقطع والتفاوض، عادت  آلاف الأُسر إلى مناطقها، شرق صلاح الدين، فلم تجد سوى الركام (نحو 150 ألفاً باتوا بلا مأوى). كذلك دُمرت البنية التحتية بالكامل: شوارع وطرقات؛ مرافق عامة ومساجد؛ شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، إلى جانب آلاف البيوت والمنازل. وفي أثناء تجوالك المحفوف بالمخاطر في هذه المناطق، تدرك مدى ما لحق البيئة من تلوث بسبب مخلفات القذائف والذخائر، وتعفِّن الجثث، وتكدس الركام الأسمنتي المسلح، وانتشار الروائح الكريهة. وحين تجلس إلى جوار أحدهم فوق ركام منزله وتسأله عن خسائره، يشرق بدمعه ليزودك، على الرغم من ذلك، ما تريد من معلومات. ويعيش العائدون إلى بيوتهم أو مناطقهم إحساساً كئيباً بالفقد (دمار البيت، تشتت الأقرباء والجيرة، تحطم نمط الحياة المألوف....)، وتطاردهم الذكريات المروّعة وينتابهم خوف من المستقبل. وكشفت المسوحات الأولية أن الآلاف من معيلي الأُسر فقدوا مصدر دخلهم وأسباب رزقهم، من المزارعين وأصحاب المحال التجارية، ومربي الثروة الحيوانية والصيادين، وعمال المنشآت الصناعية الصغيرة، فضلاً عن عمال الخدمات.

لقد بات من الواضح أن قطاع غزة لم يعد صالحاً للحياة الآمنة والكريمة، ما لم تتحقق الشروط التالية: الاستقرار الأمني وتمكين حكومة "التوافق الوطني" من الاضطلاع بوظائفها فوراً؛ رفع الحصار وفتح المعابر والسماح بدخول المواد اللازمة، بما في ذلك المساعدات الإنسانية ومواد البناء؛ تخصيص موارد هائلة والاتفاق على آليات مرنة وشفافة ومتفق عليها لإعادة إعمار غزة. ونقطة الانطلاق في ذلك هي تأمين سكن النازحين، وترميم البنية التحتية الأساسية، وتوفير مصدر رزق بديل. وهذا كله يعتمد، طبعاً، على سيناريوهات اليوم التالي، المحدَّدة بمواقف الأطراف ذات الصلة.

تمكنت إسرائيل، عبر عدوانها، من أن تخلخل أركان "معضلة غزة". أولاً، اقتلعت نصف مليون إنسان وشردتهم، وجعلت من حياتهم جحيماً لسنوات طويلة وخلقت لهم ذاكرة جديدة، وهو ما يمس مباشرة البعد الديموغرافي للمعضلة. ثانياً، في النتيجة النهائية، وعلى أرض الواقع، ما حدث في غزة يكرس انفصالها عن الضفة الغربية (إسرائيل لم توافق على أي مطلب يربط بين المنطقتين)، بما يحول دون إمكان تطبيق حل الدولتين، وهو ما نعتبره البعد السياسي للمعضلة. وأخيراً، ستعزز النتائج والتداعيات بعيدة المدى كثيراً من فرص "الحل الإقليمي"، بصورة أو بأُخرى، وهو ما نطلق عليه البعد الاستراتيجي للمعضلة.

ومع هذا كله، شكلت غزة "نموذجاً" قد لا يرقى إلى مستوى الأسطورة، لكنه بالتأكيد نموذج يستحق الدراسة والنقد والتعلم. وإذا ما أراد البعض، لأغراض فئوية، أن يقصر هذا النموذج على شيء بعينه ويجعل منه "قوة مثال"، فسيتحول عندئذ إلى مجرد أيقونة للوهم.  

عن المؤلف: 

تيسير محيسن: كاتب سياسي/غزة.