مع الفصل و"التحكم عن كثب": أثر الانقسام في وحدة المجتمع وفعالية النظام السياسي
التاريخ: 
25/11/2014
المؤلف: 

توطئة

تصادف هذه السنة، التي توشك على الانتهاء، ذكرى مرور 50 عاماً على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. وقد شهدت الأراضي المحتلة (1967) خلالها تطورات سياسية عاصفة، وربما مصيرية، إذ وصل المسار التفاوضي إلى طريق مسدود، وتعرض قطاع غزة لعدوان وحشي. ويبدو أن الإسرائيليين، وعيونهم على الإقليم المتفجر، يفتشون عن "لعبة أُخرى"، ذلك بأن استراتيجيا "فك الارتباط" مع الفلسطينيين وصلت إلى منتهاها. كذلك، أطلق الفلسطينيون "دينامية سياسية" خجولة، قد تشكل ملامح استراتيجيا جديدة، قوامها الوحدة وتقوية الهجوم السياسي والدبلوماسي.

تراهن إسرائيل على أن "حرب الكل ضد الكل"، التي تجري من حولها، ستفضي حتماً إلى زيادة فرصها في حل المعضلة الفلسطينية بما يتفق وتوجهاتها الاستراتيجية. ويرى البعض أن سياسة "الفصل والتحكم عن كثب" التي مارستها دولة الاحتلال منذ سنة 1988 رداً على اندلاع الانتفاضة الأولى، وعلى مبادرة السلام وإعلان الدولة، أوصلت الفلسطينيين إلى حال من "عدم التوازن" و"انعدام القدرة"، الأمر الذي يعني أن فرصة تكبيدهم خسارة فادحة، أو إيقاع نكبة جديدة بهم، باتت كبيرة جداً.

لقد تمحورت رؤية الإسرائيليين - يمينهم ويسارهم - لمقاربة "حل الدولتين"، التي راجت منذ ذلك الحين، حول فكرة رئيسية هي: انتزاع اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة، "يهودية" في نهاية المطاف، وتحقيق الفصل بينهم والانفصال عنهم. واختار حزب العمل استراتيجيا التعاقد على كيان "أقل من دولة وأكبر من حكم ذاتي"، مراهناً على موت القضية، بلغة شمعون بيرس، عبر انقسام الفلسطينيين إلى ثلاث فئات: مافيا سياسية؛ عمالة في إسرائيل؛ مهاجرين طوعيين.

واختار اليمين الصهيوني، ممثلاً بالليكود، استراتيجيا "فك الارتباط" والإمساك بزمام التحكم عبر خلق الوقائع واستخدام قوة الردع، وراهن شارون على أن الفلسطينيين "سرعان ما يقتل بعضهم بعضاً". والأساس في كلا المقاربتين واحد، ويتمثل في ضرب وحدة الفلسطينيين بصفتهم "جماعة سياسية"، وضرب مشروعهم عبر إعادة الهندسة الجغرافية والديموغرافية والحياتية في مجتمع الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد أراد الإسرائيليون أن يضربوا بحجر واحد الاتجاه التوحيدي الذي مثلته م.ت.ف.، والاتجاه الاندماجي الذي شهده هذا المجتمع في إثر التوحيد القسري للمنطقتين سنة 1967.

شكل قطاع غزة حجر الزاوية في هذه الاستراتيجيا، وذلك عبر فصله بالكامل، والتخلص من معضلته البنيوية، وتحويله إلى مقبرة للمشروع الوطني من خلال الاقتتال الداخلي، وبالتالي جعله نموذجاً للفشل في "اختبار الجدارة" بهدف التغطية على ابتلاع الضفة الغربية أو أجزاء واسعة منها. ومن الواضح أن دولة الاحتلال باستخدامها "الاحتواء الإقصائي" تهدف إلى تدمير "حل الدولتين" وقطع الطريق على حل الدولة الواحدة وإبقاء زمام التحكم في الديموغرافيا الفلسطينية في يدها، سواء تعلق الأمر بفلسطينيي 48 أو الشتات أو الضفة أوقطاع غزة.

ويشكل استمرار السيطرة على الأراضي المحتلة الشرط الأول لنجاح هذه الاستراتيجيا. أمّا الشرط الآخر فهو إذعان الفلسطينيين (الخضوع) بما يسمح لإسرائيل بتجنب تناقضاتها الداخلية الناجمة عن أيديولوجيتها الصهيونية، والتي، في حال عدم التأقلم معها، يمكن أن تهدد استمرار وجود إسرائيل وضمان التأييد الغربي لها.

لكن، هل يخضع الفلسطينيون؟ هل لا تزال إسرائيل قادرة على خداع العالم؟ ألا تفترض الاستراتيجيا الأميركية في المنطقة حلاً ما للمسألة الفلسطينية لا ترغب فيه إسرائيل؟ والسؤال الأهم هو هل في قدرة إسرائيل، في الأمس واليوم وغداً، أن تنجح فيما نجحت فيه من دون مساهمة الفلسطينيين أنفسهم في ذلك؟ هذا ما سنعالجه بالتفصيل من خلال تسليط الضوء على الأداء الفلسطيني في العقود الثلاثة الماضية بعد أن كان نضالهم المرير أسفر عن إنجازين كبيرين هما: م.ت.ف ممثلاً شرعياً ووحيداً، ومجتمع سياسي موحد في الأراضي المحتلة. وهذا بالإضافة إلى معاينة التأثيرات السلبية للصراع بين حركتي "فتح" و"حماس" في هذين الإنجازين، مع الافتراض أن تقويض هذين الإنجازين شكل الشرط الموضوعي لنجاح إسرائيل في غضون ربع قرن من "إخضاع الفلسطينيين".

صراع السيطرة

أسفر صراع الهيمنة على المجتمع الفلسطيني بين الحركتين عن إضعاف قدرة هذا المجتمع على البقاء والصمود والمواجهة. كذلك أدى النزاع بشأن السيطرة السياسية إلى تهميش المنظمة وإبطال فعاليتها، من خلال انقسام السلطة وفقدان طبيعتها الدولانية، لتصبح سلطة شبه دائمة واعتمادية. وكان الغالب على سلوك الفلسطينيين الصراع بشأن"القيادة والتمثيل"، أكثر من التركيز على مواجهة المخطط الإسرائيلي، حتى بدا أنهم "يتكيفون" مع الواقع والوقائع التي أوجدها هذا المخطط. وتجلى "منطق الانقسام" بأبشع صوره في "التعزيز المتبادل" بين الحركتين بما يمكنهما من تبرير "انعدام القدرة" بدلاً من امتلاك الجرأة على النقد.

وأدت الأزمة، المتمثلة في الصراع على السيطرة بين الحركتين، إلى خلق ثنائية القطب في لحظة "التوازن الساكن". ولم يعد في قدرة أي منهما أن تحسم أمر السيطرة لمصلحتها، فوقع الانقسام الذي ولد عملياً نظامين للسيطرة. وبدلاً من أن يفضي التدافع التاريخي، في حقل سياسي محكوم بديناميات الكفاح الوطني، إلى ولادة نظام تعددي يعزز قدرة هذا الحقل على المواجهة، انتهى الأمر بإضعاف الحقل واحتدام الصراع بين فاعليه. 

في غضون 20 عاماً، حققت "حماس" نفوذاً جماهيرياً كبيراً. وما إن ولجت دهاليز النظام السياسي حتى وقعت ضحية "رفض الواقع وإدارته"، وبدلاً من أن تحاول إعادة صوغ برنامج "واقعي" صعّدت خطاب "المؤامرة" وافتعلت جبهة مواجهة على قاعدة إطلاقية. وبمقدار ما أسهبت في شرح المؤامرة قصرت إلى درجة كبيرة في طرح البدائل والحلول الممكنة. وشكلت جبهة المواجهة ضرورة للمحافظة على حضورها الجماهيري، فأطلقت العنان لصراع محموم مع أولئك الذين يقفون في الجهة المقابلة للمتراس.

وفي أعقاب انتخابات سنة 2006 نشأت حاجة ماسة لدى حركة "فتح" إلى تفعيل جبهة مواجهة أيضاً لتبرير فشلها ولاستعادة هيمنتها ونفوذها. وفي الواقع عانت "فتح" من حالة انفصام تعود إلى إهدار البعد التاريخي للهوية لمصلحة بعد جوهراني، فلم تستوعب كيف نجحت "حماس" ولماذا، وعجزت عن فهم الواقع الدينامي، وتغير الموازين فيه، وصعود مطالب جديدة لا تتعلق بالمصالح فحسب، بل أيضاً بتغير الهويات.

"تعاونت" الحركتان، إذاً، على خلق "جبهة مواجهة" مفردة وحادة، وسرعان ما حُقنت بمزيد من قضايا الخلاف. إذ ارتكزت هذه الجبهة على عناصر في الثقافة الشعبوية، ووظفت الفضاء الرمزي السياسي والتاريخي بما يوسع الفجوة ويبرر الصدام، فتحول الصراع إلى عداء، وتم استخدام العنف للتعبير عنه على نحو واسع، وجرى إهمال القضايا والمطالب الأساسية للمجتمع (الأمن والاقتصاد والخدمات). وفي الواقع نجحت الحركتان في حرف الاهتمام عن الأجندة الفعلية للفلسطينيين.

وإذا كان من حق "حماس"، وقد دخلت النظام، أن تسعى بالتدريج لإعادة تشكيل قواعد وأسس عمليات توزيع الخيرات العامة فيه، إلاّ إنها استعجلت الأمر ولم تلتزم المحددات والمقاصد العامة التي يعبر عنها العقد الاجتماعي المبرم، فأضرت بالصيرورة الطبيعية لإعادة بناء الإجماع. كذلك عاندت "فتح" هذه الصيرورة عندما ماطلت وناكفت ولم تستوعب الصدمة الناجمة عن الانتخابات. والأخطر من المعاندة والاستعجال عدم مراعاة الواقع الموضوعي المتمثل في وجود الاحتلال. ويمكن لعملية إعادة بناء الإجماع (التي تعني فرط العقد السابق)، في ظل مرحلة التحرر الوطني، أن تجهض العمليتين معاً (التحرر وبناء الإجماع).

أخيراً، وقع الانقسام نتيجة هذا التدافع المحموم، ويشكك كثيرون في أنه وقع نتيجة اختلاف المنطلقات والاختيارات الأيديولوجية والسياسية. وأياً تكن الأسباب فإن من شأن هذا الانقسام أن يلقي بظلال سود على مجمل ساحات الفعل الاجتماعي والسياسي، ذلك بأنه نجح في تحقيق ما ادعت الحركتان أنهما، بصراعهما على السيطرة، تريدان تجنبه، فالخوف من اختطاف المنظمة حوّلها إلى مجرد أيقونة، كما أن الحرص على الثوابت أوصلنا إلى الإذعان لشروط إدخال مواد البناء إلى قطاع غزة.

لقد صاحب الانقسام ثلاث ظواهر هي: زيادة تأثير الإقليم في الشأن الداخلي بصورة سلبية؛ "موت السياسة" أو عجزها عن الإمساك بزمام المبادرة؛ انزياح "مشروع الوطنية الفلسطينية" في اتجاهين متعاكسين: "فوق وطني" عبر الاندماج في مشروع الإسلام السياسي، و"تحت وطني" يكرس الخصوصيات المناطقية أو اهتراء الجامع بين مختلف مكونات الشعب. لقد استُدخل منطق الانقسام ضمن منظومات السلوك والتفكير، الأمر الذي سهل مظاهر التكيف معه والتواطؤ على إدارته.

تصدع مجتمع الصمود

راح مجتمع الضفة الغربية وقطاع غزة يئن تحت وطأة التدافع العنيف وما رافقه من سلوكيات وممارسات، علاوة على تأثير ديناميات التفكك والتحلل الناجمة عن الفصل الجغرافي والعزل السكاني وسوء الأداء العام. ومن المعروف أن ملامح تشكيلة اجتماعية واقتصادية تبلورت في غضون 20 عاماً، شكل مجتمع الانتفاضة الأولى أفضل تجسيد لها، وهو ما أُطلق عليه "مجتمع الصمود".

حفزت الممارسات الاحتلالية القامعة لتعبيرات الوطنية الفلسطينية إنضاج الوعي التحرري، وخلق هيكليات بديلة، وتفعيل التعبئة الشعبية، وتبني رؤية ثورية للتغيير. كذلك أدى العامل الاقتصادي دوراً توحيدياً أو، على الأقل، لم يولد ديناميات التمزق والتفاوت، ولم تصل الخلافات السياسية والأيديولوجية بين مختلف الاتجاهات حد العداء والقطيعة. كما أدت العائلة دوراً إيجابياً في تعزيز أواصر الوحدة والتماسك والتكافل. وقد رافق هذا الاتجاه الاندماجي ولادة "ذاتية سياسية" عبرت عن إرادة البقاء والصمود والمواجهة، فجاء الرد الإسرائيلي عليها من خلال عدة مقاربات لاستراتيجيا "الاحتواء الإقصائي".

إضافة إلى ذلك، لم يقصر الفلسطينيون أنفسهم في ضرب هذه الذاتية الناشئة. وتكفي الإشارة هنا إلى ظواهر العسكرة المفرطة، واستشراء الفساد، والاستقطاب، والفلتان الأمني، وبناء "مجتمع مضاد" من جانب الاتجاهات الإسلامية، والتفاوت والتهميش والإقصاء، وترهل النظام الحزبي، والبحث عن مصادر بديلة للاستقواء الذاتي والفئوي والجهوي، وغير ذلك.

لقد اختل "التوازن الاجتماعي" بشدة، وتردت مؤشرات نوعية الحياة، وتعمقت حدة التمايزات والاحتقانات، وبرزت تشققات في الهوية. وفي محاولة لاستعادة التوازن، جرى تغليب اتجاه التكيف السلبي مع واقع الانفصال والعزل، وكان من الطبيعي أن تضعف قدرة المجتمع على التوافق، سواء من حيث التحكم وإدارة أسباب التوتر والاحتقان الداخلي، أو الرد على تحديات البيئة الخارجية (الاحتلال، المحاور الإقليمية). ومع ضعف هذه القدرة، وربما بسببها، فشل النظام السياسي في إعادة تعريف ذاته في سياق متغير، حتى عبر الانتخابات. 

عرفت الحالة الفلسطينية مظاهر الاقتتال الذاتي دوماً، وسقط ضحايا في محطات عديدة، لكن دائماً كانت تتضافر ميكانيزمات الصلحة بالمعنى العرفي، وديناميات بناء الإجماع بالمعنى الوطني، لتقطع الطريق على تحول أي نزاع إلى حالة دائمة من العداء أو الاصطفاف على جانبي المتراس. فقد كان انقسام سنة 2007 الأسوأ في تاريخ الفلسطينيين، لا بسبب الضحايا الذين سقطوا نتيجته فحسب، بل أيضاً من حيث تغطيته تجزئة الأرض، ومساهمته في ضرب وحدانية التمثيل وشرعيته، وإيغاله في تقطيع أواصر العلاقات الاجتماعية، فأصاب "مجتمع الصمود" في مقتل.

عقدة غزة

عبر الإسرائيليون دوماً عن رغبتهم في إعادة موضعة غزة خارج دائرة الجغرافيا الوطنية والهوية السياسية الفلسطينية، في اتجاه البحر أو نحو الجوار الإقليمي. ذلك بأنها نجحت في أن تكون مركز الفعل السياسي الفلسطيني بعد بيروت، واعتُبرت بمثابة "خندق المشروع الوطني المتقدم"، وشهدت ولادة معظم الاتجاهات السياسية، ونشأت على أرضها أول حكومة فلسطينية، واندلعت الشرارة الأولى للانتفاضتين وسط مخيماتها المكتظة وأحيائها الفقيرة، وواجهت ثلاث حروب عدوانية في غضون أقل من عقد. لكنها، في المقابل، عرفت أسوأ أنواع العنف الذاتي، إذ تغلب على سكانها مشاعر الانفعال، بينما يشجع صغر مساحتها واكتظاظها السكاني على "التجييش العاطفي" والحشد الجماهيري والتأثير الإيحائي. كما أن جوارها الإقليمي لمصر منحها امتيازات وسبب لها، في الوقت ذاته، كثيراً من التهديدات.

مع الانقسام، وبسببه، اندرجت غزة رغم أنفها في لعبة التجاذب الإقليمي ورهانات القوى المتصارعة. وفي غضون ذلك توزع اهتمام سكانها، بالتدريج، بين توق أصيل إلى الحرية والانعتاق وبين متطلبات الحياة اليومية الضاغطة والملحة. وفي ظل مناخ من الحيرة والترقب، مع ما يبدو أنه فقدان الأمل بحدوث التغيير، تكاثرت التعميمات الفكرية المسطحة بهدف أسطرة "نموذج غزة"، الأمر الذي يعبر عن نضوب الفكر وعن غربة العقل بين واقعية مبتذلة وعدمية مفتعلة، لتغطي على حقيقة هيمنة فصيل واحد على مجمل الفضاء الاجتماعي والسياسي من دون وجه حق.

في كل الأحوال، تشكل "واقع اجتماعي" جديد ومختلف عما سميناه "مجتمع الصمود"، كما أنه - بالتأكيد - بعيد عن أن يكون مجتمع دولة في قيد التكوين. ومع الفصل والإنهاك الذاتي بات فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة أقرب إلى ما كانوا عليه مباشرة بعد حرب حزيران/يونيو؛ أي جماعات انضباطية، معزولة ومنفصلة بعضها عن بعض، مع فارق أن الحيز الذي وجدت هذه الجماعات ذاتها محصورة فيه آنذاك، كان أكثر انغلاقاً أمام الجوار الإقليمي عبر حدود سياسية وجغرافية واضحة. أمّا اليوم، وفي ظل تفكك الإقليم، تسعى إسرائيل عبر سياسة فك الارتباط لدفع الجماعات المشتتة والمعزولة في اتجاه هذا الجوار.

الصراع على المنظمة

على الرغم من المطالبات الكثيرة بضرورة إحياء م.ت.ف. فإنها لا تزال مغيبة، ولا يتم استدعاؤها إلاّ لأغراض وحسابات فئوية. كما أنها ما زالت ضحية التجميد والتهميش بحجة المحافظة عليها، ومحاولات تجاوزها أو السطو عليها بالكامل. فقد باتت المنظمة موضوعاً آخر للخلاف لا إطاراً وطنياً جامعاً يختلف الفلسطينيون تحت مظلته وليس عليه.

ومنذ إعلان القاهرة سنة 2005، تباينت أطروحات إعادة الإحياء بتباين المرجعيات الأيديولوجية والسياسية لأصحابها. وتعكس الأطروحات، تماماً كما هو التاريخ السياسي للمنظمة، تدافع أربعة تيارات رئيسية في الحقل السياسي هي: النزعة القومية الذاوية في أعقاب النكسة؛ النزعة القطرية وسياساتها البراغماتية التجريبية؛ النزعة اليسارية المراوحة بين الصعود والانكفاء؛ النزعة الإسلامية التي تحولت على يد "حماس" إلى أيديولوجيا طاغية وجياشة لا تسعى لاستلام السلطة فحسب، بل ترغب أيضاً في إعادة صوغ قواعد النظام وأسسه ومرجعياته بالكامل.

من الواضح أن أكثرية الأطروحات لا تزال قاصرة عن فهم الواقع الناشئ في أعقاب نجاح سياسة الفصل، وخصوصاً في إدراك أبعاد الشتات الثاني وتبعاته، وهي تعبر من حيث الجوهر عن أجندات فئوية في الغالب. إذ إن "فتح" تميل إلى تفعيل الدور وإدخال بعض التعديلات بما لا يمس مكانة الحركة في قيادة المنظمة، وبما يمكنها من مواجهة استحقاقات صراعها مع حركة "حماس" على السلطة الفلسطينية، بينما تتمسك "حماس" بإعادة البناء لتجاوز المنظمة القديمة، وبما يحقق لها مكانة مرموقة في قيادتها ويسمح لها بإدخال تعديلات جوهرية على المنطلقات والأسس والبرنامج.

لقد حافظت "فتح" على م.ت.ف. واستقلالية القرار الوطني وحالت دون تشكيل بدائل عنها، لكن المنظمة لم تنج من ممارسات الهيمنة والتحكم من جانب الحركة حتى تعرضت إلى أكبر عملية تهميش في تاريخها، غابت في إثرها تماماً وانعدمت فعاليتها بتجميد الصراعات السياسية داخلها وبانتقال ساحة القرار إلى مؤسسات السلطة الفلسطينية. وإذا كان صحيحاً أن "فتح" خشيت على تفردها في قيادة المنظمة في ظل منافسة "حماس" البديلة، فإن "حماس" رفضت أيضاً الاندماج في نظام لا يكون على شاكلتها أو لا يضمن لها تفرداً معكوساً. ولم يكن السبب "علمانية المنظمة" أو "تنازلاتها"، كما بدا واضحاً في حوارات المصالحة، إذ اهتمت الحركة بنسبة التمثيل وحجم التأثير أكثر من أي شيء آخر. لذا، يعتبر البعض أن صيغة "الإطار القيادي الموقت" هي إعادة إنتاج لحظة "التوازن الساكن" في المنظمة، الأمر الذي من شأنه أن يقود إمّا إلى إضعاف فعاليتها وإمّا إلى انقسامها. 

مأزق "حماس"

في هذه الآونة، تبدو الحركة أنها وصلت إلى طريق مسدود. فقد ضعفت قدرتها على المنافسة على جبهة التمثيل، وفشل نموذجها في الجمع بين السلطة والمقاومة، وأخفق سعيها للولوج إلى معادلات الإقليم المتحول، وعجزت عن تأمين مصادر دعم بديلة. ومرد هذا كله، كما يرى البعض، إلى أن الحركة لم تكن تتصرف دوماً انطلاقاً من دوافع فلسطينية محض، حتى باتت رهينة صراع الإرادات والمصالح في الإقليم وتخضع لضغوط المكان والمكانة والمال.

ولعل الخطيئة الأكبر التي ارتكبتها الحركة اعتقادها أن مجرد فوزها في انتخابات محدودة ومقيدة يمنحها بطاقة دخول إلى قلب نظام سياسي عريق، له قواعده وعلاقاته، لتستحوذ على قيادته وتصنع هيمنة بديلة.

والخطيئة الأُخرى فشلها في فهم أبعاد "خطة الفصل أحادي الجانب"، إذ أُريد لغزة، المحاصرة والمثقلة بأعبائها، أن تكون ورقة للضغط على الحالة المصرية المتغيرة وللتحكم في منسوب الخطر والتهديد الناجم عن ذلك. كما أُريد  لها أن تكون مفصولة بالكامل، منهكة وغير جديرة، ليتسنى حسم مصير الضفة الغربية بشكل منفرد، فلا تقوى غزة على الممانعة أو العرقلة.

تبدو "حماس" غير قادرة بعد على تحديد مسارها للخلاص من مأزقها، فهي تعيش حالة "انعدام يقين" في سياق شديد الالتباس والتعقيد. ويعتقد البعض أن الحركة ستغلب اعتبارات التخلص من مأزقها على أي اعتبارات أُخرى، بما في ذلك الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، واعتبارات الخروج من مأزق المشروع الوطني، إذ تتراوح خياراتها بين "شراء الوقت" مع تجنب العزلة والقطيعة والصدام مع أي من القوى الإقليمية، وطبعاً الاحتفاظ بسيطرتها على القطاع أطول فترة ممكنة من دون وصول أوضاعه إلى حد الانفجار، ومن دون أن تتمكن أي قوة من منافستها على هذه السيطرة، وبين محاولة الاندراج في لعبة الإقليم عبر البوابة الفلسطينية، الأمر الذي يجعلها شريكة محتملة للرئيس محمود عباس في أي ترتيبات سياسية مقبلة. ولا يستبعد البعض إمكان لجوء "حماس" إلى الخيار الشمشوني عبر تأجيج الصدام مع إسرائيل، وبالذات في الضفة الغربية، أو عبر تصعيد أزمة غزة.

ولمّا كانت "حماس"، على الرغم من فيض الأيديولوجيا الذي يسم خطابها، حركة براغماتية مهجوسة بفكرة السيطرة إلى درجة أن تجعل من ذلك المحدد الرئيسي لعلاقاتها ومواقفها، فهي لن تسمح بإخراجها من المشهد حتى عبر الانتخابات. فـ "حماس" خرجت من الحكومة، لكنها حقاً لم تخرج من الحكم، أو قل لم تترك السيطرة على غزة، وهي تساوم على ذلك لضمان بقائها في السلطة ودخولها المنظمة باسم الشراكة الكاملة. 

فإذا لم تحصل الحركة على ما تريد، من المتوقع أن تصعّد معركتها بفتح جبهة الضفة الغربية والبحث عن تحالفات جديدة. وثمة من يرى أن "حماس" لن تلجأ إلى خيار المقاومة المفتوحة، إذا ما اضطُر الرئيس إلى حل السلطة، ويرجح هؤلاء أنها ستذهب، ضمن تحالفاتها الجديدة، إلى إعادة تشكيل منظومة "حكم وسيطرة" جديدة في أراضي الضفة وغزة. أمّا في حال أثمرت خطة التحرك السياسي الحالية فستختار "حماس" الاندماج لا المعارضة، ضمن مسارات هذا الحل، أياً تكن درجة توافقه مع التطلعات الوطنية. ويفسر البعض هاجس الحركة في السيطرة والحكم بخدمة المشروع الإسلامي، وبالرغبة في المحافظة على بعض المنافع والمكاسب التي تحققت لها، ودرءاً لمخاطر محتملة أشد وأسوأ.

مأزق عباس

لم يعد خافياً أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، "المصاب بالإرهاق والإحباط"، بات يدرك أن المفاوضات مع حكومة نتنياهو لن تفضي إلى نتيجة، وأن الحل الانتقالي الذي سعى له فشل، وأن انهيار النظام الإقليمي يقوض فرص الحل الدائم والعادل. من هنا، يقول البعض إن عباس يبحث عن مسارات جديدة للفعل السياسي قبل أن يترك المشهد نهائياً.

ويستدرك آخرون بقولهم إن أبو مازن لا يزال محكوماً بعقلية "أوسلو"، ولمّا يجرؤ بعد على الخروج من دائرتها المفرغة، إذ يؤمن بأن المفاوضات هي الخيار الوحيد، وما عدا ذلك عوامل قوة يمكن تجنيدها، من دون أن يحسن استخدام ذلك بالضرورة، ويلوح بحل السلطة وبرمي القفازات في وجه نتنياهو، من دون أن يدرك أن هذا الأمر لم يعد في يده حتى وإن كان عرابها.

وفي خطوته الأخيرة نحو المصالحة أراد الرئيس أن يوطد أركان شرعيته، وأن يزيل من سجله وصمة عار الانقسام، والأهم أن يعيد الاعتبار لفكرة الوحدة بصفتها أداة نضالية في مسعاه الأخير وهو يواجه فشل التفاوض، فجاء الرد الإسرائيلي مزلزلاً بشن عدوان على قطاع غزة أجبره على طلب وقف دائم لإطلاق النار من دون شرط. وبدلاً من الاستقواء بالوحدة وتدعيمها شُغلت حكومته بإعادة الإعمار المقيدة بشروط إسرائيلية.

ينتمي الرئيس عباس إلى الاتجاه العقلاني، غير أن العقلانية وحدها لا تكفي لإدارة صراع من النوع الثقيل. فلا يكفي أن تفهم العالم وتفسره، بل عليك أن تسعى لتغييره، وينطوي السعي بالضرورة على الجرأة والمجازفة والثقة بالجماهير وتعبئتها. وإذا لم يكن خلف الاستراتيجيا التي يتبناها الرئيس استعادة الروح الكفاحية فلن يُكتب لها النجاح.

ويضاف إلى مأزق الرئيس مأزق حركة "فتح" المترهلة التي تعج بخلافات داخلية بين بعض أقطابها قد تصل إلى حد الاشتباك العنيف في قطاع غزة تحديداً؛ فهي لم تستوعب بعد خسارتها وفقد هيمنتها، ولم تقدم بديلاً فعلياً لإخراج النظام السياسي من أزمته الحالية. وعلى الرغم من أنها تشكو من فقر أيديولوجي محزن يتمثل في غياب رؤية شاملة، فإنها لا تزال تعاني جراء فيض المواقف السياسية غير المنضبطة والمعبرة عن تعدد في المصالح أو الناجمة عن ارتباك مؤسسات الحركة في ظل تعقيدات الواقع الذي فقدت قدرتها على قراءته وتفسيره، وبالتالي إدارته، ناهيك عن تغييره.

خاتمة

لا يصعب الاستنتاج أننا إزاء حقل سياسي متوتر ومأزوم في مفاهيمه وعلاقاته وأدواره. ويقول جميل هلال: "أصبح الفلسطينيون بلا حقل سياسي وطني وجامع" بعد أن غابت "الرؤية" وأصيبت الثقافة السياسية بالعقم أو البلى. وبالتالي، يصبح الرهان على تطوير "استراتيجيا وطنية جديدة"، وعلى إصلاح م.ت.ف. أو إحيائها، بالاعتماد على الفاعلين في الحقل أنفسهم، الذين أنتجوا أزمته، مجرد لغو أو رهان في غير محله.

إن الإكثار من الحديث عن إحياء المنظمة وإصلاحها من دون إنجاز ذلك حقاً، بات أشبه بالدائرة المغلقة وبستار تتخفى خلفه قوى النظام لتظهر كأن الخلل ليس في داخلها، بل خارجها، أي في الإطار/الشكل، الأمر الذي يستبعد أي نوع من المساءلة ويدفع عنها أي نقد. وفي ذلك أيضاً محاولة من هذه القوى لقطع الطريق على قوى أُخرى صاعدة، أو جديدة، تريد التغيير.

وليس غريباً والحال كذلك أن تستثمر دولة الاحتلال فرصتين مؤاتيتين للإجهاز والتبديد: فرصة يطرحها الإقليم المتفكك، وأُخرى يقدمها هذا الحقل الذي وصل من الأزمة والتوتر والانشطار إلى حد سلبه كل قدرة!

لا أمل بالخلاص إلاّ بالانقلاب على "منطق الانقسام" واقتصاده السياسي وفقهه التبريري الذي يخلو من أي منطق وطني!

عن المؤلف: 

تيسير محيسن: كاتب وباحث – غزة.