منظمة التحرير الفلسطينية وشرعية التمثيل الوطني
التاريخ: 
21/11/2014

في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1974، قال الرئيس الراحل ياسر عرفات في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: "لقد اكتسبت منظمة التحرير الفلسطينية شرعيتها من طليعتها في التضحية ومن قيادتها للنضال بكافة أشكاله، واكتسبتها من الجماهير الفلسطينية التي أولتها قيادة العمل واستجابت لتوجيهها.... واكتسبتها من تمثيل كل فصيل ونقابة وتجمع وكفاءة فلسطينية في مجلسها الوطني ومؤسساتها الجماهيرية"، مضيفاً "وقد تدعمت هذه الشرعية بمؤازرة الأمة العربية كلها لها.... كما أن شرعيتها تعمقت من خلال دعم الأخوة في حركات التحرر ودول العالم الصديقة المناصرة التي وقفت إلى جانب المنظمة تدعمها وتشد أزرها في نضالها من أجل حقوق الشعب الفلسطيني.... إن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي بهذه الصفة تنقل إليكم تلك الرغبات والأماني وتحملكم مسؤولية تاريخية كبيرة تجاه قضيتنا العادلة."

لم يعد خافياً على أحد الوضع الذي تعانيه منظمة التحرير الفلسطينية التي فقدت مؤسساتها وجودها الفعلي ودورها المؤثر (سابقاً). غير أن الفترة الراهنة شهدت – نتيجة الضغوط الإسرائيلية والغربية - مزيداً من هزال دور المنظمة لمصلحة السلطة الوطنية الفلسطينية التي تغولت كثيراً، فأصبحت تتجاوز جميع مفاصل "المنظمة"، بما في ذلك لجنتها التنفيذية، كون "السلطة" تستحوذ على كل دعم عربي ودولي، الأمر الذي جعل المؤسسات تخضع لها (عملياً: للحكومة) بشكل مباشر مقروناً بحالة من الاحتكار للمنظمة. وللأسف، فإنه ومنذ تأسيس "السلطة" اتضح دورها المرسوم لها بالتحديد، وهو: إدامة حالة المفاوضات التي حقق خلالها الاحتلال ما نراه واقعاً على الأرض اليوم، بحيث أصبحت فلسطين التي قد تسمح إسرائيل بـ "تحريرها" لا تتجاوز 11% من فلسطين التاريخية.

تحت وطأة الضغوط الإسرائيلية/ الغربية وتحديداً الأميركية، مارست كل من قيادة المنظمة والسلطة – ولسنوات - سياسة إحلال السلطة بدلاً من المنظمة التي جُمدت دوائرها ومؤسساتها، حتى إن ميزانيتها عبر الصندوق القومي الفلسطيني باتت بنداً في ميزانية حكومة رام الله، وتابعة لها كما هو شأن الرواتب الأُخرى في "السلطة"، مؤثرة في قراراتها ونتائج اجتماعاتها، في ظل "مباركة" عملية من الفصائل المنضوية، حتى إنْ أعلنت رفضها القرارات. لكنها، وبسبب الخوف من قطع الميزانيات المخصصة لها، تحضر الاجتماعات وتمنح – غالباً بشكل غير مباشر - الغطاء للقرارات التنازلية، ولو عارضتها صوتياً.

الكل يعرف أن "السلطة" شُكّلت بقرار من المجلس المركزي الفلسطيني، وبقيت العلاقة بـ"المنظمة" ملتبسة باستثناء القرارات العامة. وكثير من دوائر "المنظمة" توقف، وفي مقدمها الدائرة السياسية وعلاقتها باللجنة التنفيذية (التي تمثل القيادة الأعلى اليومية للشعب الفلسطيني)، وبالسفارات والمكاتب التمثيلية، ودائرة شؤون اللاجئين، وعلاقتها بتجمعات اللاجئين وبمؤتمراتهم في الخارج، وهيئة العمل الوطني، إضافة إلى وجود دوائر أُخرى على الورق فقط. وهناك أعضاء في "التنفيذية" – ونحن لا نتحدث عن الجميع - لا دور لهم سوى الاجتماع، وآخرون لا يشعرون بأنهم شركاء حقيقيون في القرار السياسي وفي تطبيقه العملي، سواء في دوائر المنظمة ومؤسساتها، أو في مؤسسات "السلطة".

<b]وفي ظل التهويد اليومي المتسارع للقدس المحتلة، واستعمار/ "استيطان" الأرض الفلسطينية، مع استمرار تذبذب العلاقات بين أكبر حركتين وطنيتين هما حركتا "فتح" و"حماس"، لا مبالغة كبيرة في القول إن الحركة الوطنية الفلسطينية قد توقفت عن الوجود الفاعل في السنوات الأخيرة.

في اتفاق القاهرة سنة 2005، اتفق على البدء بملف إصلاح "المنظمة" بجميع مكوناتها وهياكلها وبرامجها السياسية. غير أنه لم يتم تطبيق ذلك ولم يحدث أي تقدم في اتجاه فتح هذا الملف فعلياً. وقتها، تحدث كثيرون عن مفهوم "إصلاح المنظمة" باعتباره مفهوماً فضفاضاً كبيراً وواسعاً، وخصوصاً أن الإصلاح لم يحدد "بناء على ماذا سيتم"؟! على نتائج الانتخابات أم الصلاحيات التي ستمنح للمنظمة، وهل ستتعارض صلاحيتها مع صلاحيات السلطة الوطنية، سواء في موضوع تمثيل فلسطين أو مسؤولية الإشراف على السفارات الفلسطينية. وفي هذا السياق، فإن ما نشهده منذ اتفاق القاهرة هو التجاهل والتلكؤ كأن هناك مَنْ لا يرغب في إنجاز هذه المهمة النبيلة. فمؤسسات المنظمة غير موجودة، وإن وجدت فهي غير مؤهلة، وهي بوضعها الراهن لا تشكل مرجعية لأحد. ولنكن صرحاء: اللجنة التنفيذية للمنظمة والمجلس الوطني الفلسطيني وكذلك المجلس المركزي الفلسطيني هي مؤسسات انتهى تحت ضغوط الأمر الواقع – قانونياً ومؤسساتياً - عهدها، وانتهت صلاحيتها، مع التشديد على أن إعادة تكوينها يضمن لها شرعية الوجود، وشرعية التفاف الفلسطينيين حولها، وشرعية أن تكون مرجعية صالحة لمن يتولى عملية التفاوض.

من المعروف أن اتفاق أوسلو يعتبر بداية الانقسام الأخير داخل "المنظمة"، وخصوصاً أنه لم يحظ بإجماع فلسطيني. ومنذئذ، تجمدت مؤسسات المنظمة ولم تتطور، بل تكلست أو تخشبت. فعلياً، فقدت مؤسسات منظمة التحرير وجودها الحقيقي ودورها المؤثر لمصلحة "السلطة"، ففي الوقت الذي أصبحت الأخيرة تهيمن على جميع المفاصل، بما في ذلك رئاسة المنظمة ولجنتها التنفيذية، باتت المؤسسات التي ما زالت قائمة تنتظر اعتماداتها المالية وميزانياتها ومصاريفها الجارية من "السلطة" المستحوذة، كما قلنا سابقاً، على الدعم العربي والدولي، الأمر الذي جعل المؤسسات تخضع لها مباشرة، حتى بات البعض يحذر من أن تفكك "السلطة"، ضمن الوضع الحالي، يعني تفكك المشروع الوطني الفلسطيني والبدء من الصفر مرة أُخرى!!! وعلى الرغم من بدء "المفاوضات" منذ 21 عاماً عجافاً هي عمر اتفاق أوسلو، فإن "الحكم الذاتي" لا يزال هو القائم مقروناً بخلق أمر واقع بائس على كل الصعد نتيجة ما تقترفه حكومات الاحتلال الإسرائيلي وجيشه من أعمال تقتيل، ومصادرة أراض، وبناء جدار الفصل العنصري، وزيادة أو توسيع المستعمرات/ "المستوطنات"، مع عدم الاعتراف أصلاً بوجود شريك فلسطيني للسلام!!

إذن، الأزمة تعيدنا إلى تفاهمات أوسلو. وهي تكمن في هذا الاتفاق الذي أنتج وضعاً فلسطينياً في غاية التعقيد مكّن الاحتلال الإسرائيلي من أن يكون صاحب شأن ونفوذ كبيرين في تقرير الوضع الفلسطيني برمته. وعلى صعيد مختلف، أنتجت التفاهمات، على مر الحكومات المتعاقبة، شريحة من المتنفذين الذين أصبحوا يشكلون نواة صلبة لبورجوازية بيروقراطية حقيقية قادرة على التأثير في القرار الرسمي، ناهيك عن الخلل الاستراتيجي الخطر في اختيار ممثلي الشعب الفلسطيني، والذي يتمثل في تقييد و/أو نقل صلاحيات منظمة التحرير ورئيس اللجنة التنفيذية إلى السلطة الوطنية الفلسطينية ووزير خارجيتها، وذلك بموجب قانون السلك الدبلوماسي الفلسطيني رقم (13) لسنة 2005، بمعنى ثمة تراجع ملحوظ في مكانة الأداء التمثيلي لمنظمة التحرير على المستوى الدولي.

لكل ما سبق، تتزايد في أوساط صنع القرار الفلسطيني ونخبته السياسية ضبابية الأجواء الداخلية، ولا سيما لدى المتخوفين من أن المفاوضات لن تحقق الحد الأدنى المطلوب فلسطينياً، وأن إسرائيل ومن ورائها أي إدارة أميركية (ديمقراطية أو جمهورية) لن تنجحا في تبديد هذه المخاوف، وستصران فقط على قيام الفلسطينيين بتقديم التنازل تلو الآخر. وإنه لمن المؤلم أن يراد للمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية التحول إلى ستار سياسي يغطي على تطبيق أوسع مشروع استعماري/ "استيطاني" على الأرض الفلسطينية التي احتلت سنة 1967. ومن المفجع أن القيادة الفلسطينية تحاول جهدها مقاومة الواقع كي تملك إمكان توسيع استراتيجيتها لتشمل التفاوض ونضالات أُخرى، دبلوماسية وغير دبلوماسية، تملأ ذاكرتنا بهيبتها وباحترامها التاريخيين لدى جماهير الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والمسلمة. وفي هذا السياق، فإن الشراكة السياسية تبقى أرقى أوجه العلاقات السياسية بين الفصائل والأحزاب المتعددة، أكان في البرامج، أم في العمليات السياسية. غير أن هذه الشراكة يجب أن تُبنى على أسس سليمة تضمن للجميع المشاركة في صوغ النظام السياسي الجديد وبنائه، وأن يكون هناك تطبيق فعلي على الأرض، وداخل المؤسسات والهيئات المتعددة، لمفهوم الشراكة. ومثل هذا المفهوم يجب أن ينطبق على منظمة التحرير الفلسطينية كشرنقة حاضنة لكل الفصائل الفلسطينية وممثلة لجميع شرائح الشعب الفلسطيني. ومعروف – على نحو بديهي - أن المدماك الأساس في إحياء المنظمة هو مبدأ الشراكة الشاملة لجميع الفصائل الفلسطينية، بما فيها "حماس" والجهاد الإسلامي اللتان يحق لهما (أكثر من غيرهما) التمثل في اللجنة وقبلها في المجلس. عندها تكون الشراكة السياسية، ومسؤولية تطويرها وتقويتها، مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الجميع. فالقاعدة السابقة (التعيين)، أو كوتا متفق عليها بين الفصائل أثبتت فشلها النسبي، وبات مطلوباً أن يتم – كلما توفرت الإمكانات لذلك - اختيار أعضاء المجلس بالانتخاب، ومن خلال اعتماد قاعدة تمثيل القوى الاجتماعية بدلاً من كوتا الفصائل، وبحيث يتم إحداث نقلة نوعية في إعادة بناء "المنظمة". عندها سيحق للجميع أن يطرح سؤالاً مهماً على نفسه قبل طرحه على الآخرين وهو: كيف يمكن المحافظة على المشروع الوطني الفلسطيني بثوابته من دون التنازل عن أي من هذه الثوابت، ومنها حق الشعب الفلسطيني في إقامة الدولة الفلسطينية في حدها الأدنى. عندئذ يتم صوغ قواعد عمل داخل كل المؤسسات، تحولها إلى مؤسسات وطنية تعبّر عن الجميع، وتخدم الجميع، وتحمي الجميع، ولا تكون مغلقة في وجه أحد، ولا يتم استعمالها من طرف ضد طرف آخر. فلقد تشكلت مكانة "المنظمة" من قوتها التمثيلية، ومن تضحيات وجهود لا تحصى، حتى أصبحت الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. الآن، لنعترف، فقدت المنظمة بصفتها الإطار التمثيلي كثيراً من قوتها، لا – أصلاً - بفعل تخلي الفلسطينيين عنها، إذ حافظ الفلسطينيون على الالتفاف حول هذا الإطار التمثيلي، بل بفعل ضعف الفصائل الفلسطينية المشكلة له. ولقد زاد في هذا الضعف البنية البيروقراطية للإطارات العليا التي نمت في إطار الفصائل والمنظمة فأرهقت المؤسسات بدلاً من أن تكون أداة تفعيلها. لذلك، فإن كل حديث يجري اليوم عن إحياء دور "المنظمة" خارج اتفاق القاهرة يبدو محكوماً بالفشل، في ظل انتقال الأزمة من تنازع بشأن شرعية الحكم إلى تنازع بشأن شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني، متناسين أن فوز طرف بشرعية التمثيل على الصعيد الخارجي أمر غير ممكن من دون الإجماع الداخلي، ومتجاهلين أن مثل هذا الانقسام سيقود القضية الفلسطينية عملياً إلى "عالم" تحقيق المخططات الصهيونية الهادفة إلى الفصل بين كينونة الشعب الفلسطيني ووحدة تمثيله السياسي، وبذلك لن يعترف العالم به كشعب له حق تقرير المصير.

المطلوب اليوم، إذاً، إعادة صوغ ميثاق جديد (تم الاتفاق عليه أصلاً، أو على خطوطه العريضة على الأقل) يأخذ في الاعتبار كل المستجدات على الساحة الفلسطينية، مع الاعتراف بالظروف الموضوعية والذاتية الصعبة للواقع الفلسطيني الراهن التي تعيق عملية إعادة البناء. وهنا أضيف أنه لا بد من تفعيل الحوار، بمشاركة كل فصائل المنظمة والقوى الإسلامية خارجها. ذلك بأن "المنظمة"، رسمياً ومعنوياً، هي مظلة الشعب رغماً من كونها تعاني خللاً بنيوياً داخلياً مفاده: هل هي تمثل الشعب، أم مجرد تيارات سياسية (عفا الزمن على بعضها؟!!!) مع أنها في دورها المفترض تمثل الشعب بكل تياراته ولا تمثل تياراً سياسياً بذاته ومن دون حل مشكلة الانقسام الجاري، فإن دور "المنظمة" سيبقى على ما هو عليه، الأمر الذي يؤشر إلى ضرورة احتضان المنظمة للإسلام السياسي (حركتا "حماس" والجهاد الإسلامي) مع ضرورة إعادة تشكيل المجلس الوطني على أساس قانون انتخاب يقوم على التمثيل النسبي.

في المقابل، من الواجب تفعيل أطر منظمة التحرير ومؤسساتها، وخصوصاً ما يتعلق منها بانتخاب قيادة جديدة للجنتها التنفيذية، التي تحوي بينها مَنْ مات، وآخرون أحياء لكنهم "أموات"، يمثلون فصائل لم يعد لها وجود فعلي وأُخرى ما عاد تمثيلها يحمل أي معنى، في ظل قوة لا يستهان بها (في مطلق الأحوال) لكل من "حماس" والجهاد الإسلامي. المهم، سرعة التوصل إلى توافق وإجماع وطني على قاعدة الثوابت الوطنية والتمهيد لانتخابات حرة ونزيهة، عبر إجراء عملية ترتيب حقيقية للبيت الفلسطيني على أسس سليمة وشفافة. ومهم أيضاً تأكيد أن الدورة المقبلة للمجلس الوطني (القديم) لن تكون بديلاً من المجلس الذي يضم جميع القوى (سواء من داخل المنظمة أو خارجها)، والذي جرى الحديث عنه في اتفاق القاهرة سنة 2005. ذلك بأنه مثلما علينا رفض فكرة وممارسة استخدام "المجلس القديم" لقتل مشروع "المجلس الجديد" الجامع لكل القوى الفلسطينية، يجب علينا أيضاً رفض إنكار أحقية عقد هذه الدورة، ناهيك عن اعتبارها "مؤامرة" ضد قوى فلسطينية معينة لها حق ثابت في أن تكون ممثلة، إلى الأبد، في المرجعية التشريعية للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. وعندها فقط نكون قادرين على ترسيخ الوحدة الوطنية، وترسيخ الحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف لشعبنا بما فيها حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

إن على المجلس الوطني - بصفته الهيئة التمثيلية التشريعية العليا للشعب الفلسطيني بأسره داخل فلسطين وخارجها- واجب مناقشة الإشكاليات والتحديات، بما في ذلك تحقيق التمثيل الشامل للجميع، وحل إشكالية ممثلي حركة "حماس" وغيرها في المجلس التشريعي المعطل منذ سيطرة الحركة على قطاع غزة في حزيران/ يونيو 2006، فضلاً عن تمثيل الجوالي في العالم التي باتت تقوى وتنشط بعيداً عن "المنظمة" ولا يستفاد – رسمياً - من دورها المؤثر في الشتات. لذلك، بات الهدف الأسمى، بل الضروري حالياً، هو إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير بانتخاب مجلس وطني موحد في الداخل والخارج وفق التمثيل النسبي الكامل، وذلك تطبيقاً لـ"وثيقة الوفاق الوطني"، و"إعلان القاهرة" الذي توافقت عليه الفصائل والقوى الفلسطينية، والقاضي بإعادة بناء المنظمة (على أسس انتخابية كلما كان ذلك ممكناً)، طبعاً، مع ضرورة إتاحة الفرصة لانضمام "حماس" والجهاد إليها. فالمجلس الوطني، بصورة خاصة، بات – على نحو حاسم – في حاجة إلى أجيال شابة تمثل كل ألوان الطيف السياسي تتمسك بالبرنامج المرحلي، مع توفير ضمانات لحضور الاجتماعات من جانب الأعضاء كافة، وضرورة تجديد تمثيل المنظمات الشعبية والاتحادات، وعلى رأسها منظمات العمل الأهلي والجماهيري في الخارج. غير أن من الضروري، قبل ذلك ومن أجله، المبادرة إلى التوصل بسرعة (وخصوصاً إنْ استمر انسداد الأفق السياسي وهو الأمر المرجح) إلى توافق وإجماع وطني على قاعدة الثوابت الوطنية والتمهيد لانتخابات حرة ونزيهة، سعياً وراء إجراء عملية ترتيب حقيقية للبيت الفلسطيني على أسس سليمة وشفافة. وفي هذا السياق، فإن إعادة تشكيل عضوية "اللجنة التنفيذية" ستكون كذلك بداية جديدة تعيد ضخ الدم في الشرايين بعد أن كاد يجف. ويمكن لهذه "اللجنة"، بل يجب أن تنطلق على درب إحياء منظمة التحرير الكاملة المكتملة بالقوى الجديدة، وخصوصاً الإسلامية منها وتفعيل مؤسساتها لتقوم بقيادة شعبنا الفلسطيني. ومن دون ذلك لن يكون هناك الصحوة المنشودة بعد سبات طويل غيّب "المنظمة" عن مسرح الفعل السياسي بعد أن تحولت "اللجنة"، في نظر العديد من المراقبين، إلى مجرد هيكل يُستدعى أحياناً، عند الحاجة، لخدمة أغراض بعينها.

ولا يخلو اجتماع أو بيان للفصائل الفلسطينية من إشارة إلى ضرورة إصلاح أو إعادة بناء منظمة التحرير، وهو ما يؤكد انعدام صفتها التمثيلية، على الأقل بشكلها الحالي، الذي يوافق الجميع بلا استثناء على أنه غير مقبول، ومع تعدد الاتفاقات والتفاهمات والحوارات، واللجان الكثيرة التي عُهد إليها ببناء أو إصلاح المنظمة، إلاّ إنها أخفقت جميعها في ذلك، بسبب سيطرة وهيمنة قيادة بعض فصائل "المنظمة" على قراراتها، واستخدامه المنظمة باعتبارها فزّاعة في وجه مَنْ يعارض سياساته، مع ممارسات فعلية (ولو تحت ضغوط مفهومة وإنْ غير متفهمة) للوصول إلى عملية إحلال كامل للسلطة في مقابل إنهاء دور المنظمة.

الأهم أن مَنْ يمنح الشرعية هو الشعب، ومن يسحبها هو الشعب. والمنظمة، أو غيرها، ليست كياناً مقدساً فوق الشعب وفوق حقوقه وثوابته، وكما قبلها الشعب بعد أن فُرضت عليه، يستطيع أن يرفضها ما دام أنها منظمة يراد لها إسرائيلياً وغربياً "التفريط والتمرير"؛ والكيانات وجدت لتخدم قضية الشعب لا أن تتنازل عن حقوقه وثوابته.

لا يمكن الادعاء اليوم وفي ظل المتغيرات عن وجود تمثيل حقيقي للشعب الفلسطيني؛ فتمثيله الحقيقي لا يكون إلاّ عبر صناديق الاقتراع، عبر انتخابات حرة نزيهة تشمل أبناء الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجودهم بلا استثناء: في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، في مخيمات اللجوء، وفي الشتات، وبآليات تلائم هذا التنوع والتوزع. من دون انتخابات، لا يحق لأحد ادعاء تمثيل الشعب الفلسطيني، أو اتخاذ القرارات نيابة عنه.

لقد بات ملحاً الآن إعادة هيكلة منظمة التحرير وفق أسس جديدة تأخذ في الحسبان المستجدات التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية. وغني عن الذكر أن للمنظمة رصيدها الكبير عربياً ودولياً، وكذلك إرثها النضالي الغني الذي لا يتوفر لكثير من المنظمات الثورية الأُخرى. والمطلوب اليوم ليس إنشاء منظمة جديدة، لأن ذلك قد يكون ضاراً بالنضال الفلسطيني برمته، بل إعادة هيكلة المنظمة الحالية، أساساً بإدخال الحركتين الإسلاميتين المستجدتين فيها ("حماس" والجهاد الإسلامي) اللتين لم تكونا قد برزتا بعد على ساحة العمل النضالي الفلسطيني في الفترة التي أنشئت فيها المنظمة، وذلك وفق أسس تعكس قوتهما ووزنهما الفعلي على خريطة العمل السياسي والنضالي الفلسطيني. كما أن من الضروري إعادة صوغ ميثاق جديد (بدلاً من الميثاق الذي تم تعديله) يأخذ في الاعتبار كل المستجدات على الساحة الفلسطينية. إن إعادة البناء في ظل التعقيدات الحالية عملية شاقة لا تتحقق بالأماني والرغبات، بل تتطلب رؤى وجهداً وعملاً دؤوباً ونية صادقة من الجميع. أمّا آليات تنفيذ هذه الرؤية فتعتمد على تأسيس مجلس وطني جديد يتمتع بالصدقية التمثيلية، وصوغ ميثاق وطني فلسطيني جديد، ووضع مرجعية وطنية تنظيمية للسياسات الفلسطينية تتولى وضع برنامج سياسي يقوم على أساس التعامل مع العالم على قاعدة الحفاظ على الحقوق الوطنية ولا يفرط فيها. لكن قبل أي شيء، المطلوب – على نحو عاجل - إعادة تعريف موقع "السلطة" ودورها ووظيفتها بحيث يعاد الاعتبار إلى مؤسسات المنظمة، بعد أن اختطفت السلطة موقع الصدارة والأولوية في النظام السياسي الفلسطيني من جهة، ومن جهة ثانية، فسح المجال أمام "حماس" والجهاد للالتحاق بركب المنظمة ومؤسساتها وأطرها.

لقد بات مطلوباً من المجلس الوطني (القديم) الحالي، والمركزي (القديم) الحالي، والتنفيذية القديمة/ الحالية أن تصب جهودها كلها في خدمة مجلس وطني جديد وفقاً للاتفاقات ووثائق التفاهم، وخصوصاً في حوارات القاهرة. كما لا بد من إعادة قراءة جديدة لحقيقة ممارسات القوى التي تدعي أنها تمتلك حصرياً حق تمثيل الشعب الفلسطيني، سواء أكان ذلك في إطار منظمة التحرير، أم من خلال ما يسمى العمل الديمقراطي الذي أنتج تمثيلاً جديداً للشعب الفلسطيني والمتمثل في السلطة الوطنية التي قامت على أساس اتفاق أوسلو. وفي السياق، تنبع القناعة بضرورة إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير والفصل بين رئاسة السلطة والمنظمة وبين مؤسساتهما أيضاً، وتحديد صلاحيات دوائر المنظمة وتفعيلها، بما يتماشى مع منهجية الفصل بين السلطات، والتأكيد على دور الأجيال الشابة في إعادة البناء، بعد أن انتهت، عملياً، (أو تكاد) علاقة "المنظمة" بالأحزاب والقوى الشعبية العربية والدولية، وهو الأمر الذي يتطلب وقفة جادة لتجديد، بل تطوير، تلك العلاقة. فلا نضال فلسطينياً من دون حاضنة عربية، بل أممية.