توطئة
تميزت انتفاضة عام 1987، والتي سميت "الانتفاضة الأولى" بمشاركة كل فئات الشعب الفلسطيني في أنشطتها وفعالياتها، واتسمت بقدر كبير من الوحدة والتنظيم والإبداع والابتكار فيما يتعلق بأساليب النضال وأشكاله. أي إنها قدمت تجربة فذة ومتميزة لنضال الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وقد بتنا نتساءل عند كل حدث فلسطيني ساخن ضد الاحتلال، هل تقوم انتفاضة جديدة ؟ هل تقع الانتفاضة الثالثة، باعتبار أن انتفاضة العام 2000 هي الثانية ؟ وأكثر من ذلك أصبح السؤال: لماذا لم تقع الانتفاضة الثالثة حتى الآن؟ سؤالاً مشروعاً وملحّاً، وخاصة مع وصول عملية السلام إلى طريق مسدود بعد أكثر من عقدين من المفاوضات العبثية، على أساس اتفاقات أوسلو عام 1993 وما خلقته إسرائيل من وقائع استيطانية على الأرض جعلت من حل الدولتين أمراً مستحيلاً، بل ضرباً من الوهم والركض وراء السراب. وهذا ما توصل إليه وعبر عنه، وإن بشكل موارب، رئيس السلطة الفلسطينية نفسه في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ( الدورة السبعون).
وفي الأشهر القليلة الماضية التي سبقت هذا الحراك تحدثت مراكز الأبحاث المرتبطة بصنع القرار، والأميركية منها على وجه الخصوص، عن إرهاصات وآفاق انتفاضة ثالثة في فلسطين. فماذا توقعت؟
نشر مجلس العلاقات الخارجية/ نيويورك (تموز/يوليو 2015) ورقة سياسات جاء فيها: "إن خطر العنف في الضفة الغربية يزداد وأن المصالح الأميركية ستتضرر إذا ما حدث ذلك". ودعت الورقة الإدارة الأميركية إلى تبني خطة مدتها 18 شهراً لتقليص التوتر، قوامها تنشيط عملية تفاوض، بغض النظر عما إذا كانت ستؤدي إلى سلام أم لا. ومن المهام التي طرحتها الورقة إعادة بناء السلطة الفلسطينية أمنياً وسياسياً إذا ما تدمرت بفعل الانتفاضة.
وفي مطلع آب/أغسطس من العام الحالي نشرت دورية Foreign Policy تحليلاً تساءلت فيه: "هل نحن قاب قوسين من انتفاضة أخرى؟". وخلص التحليل إلى أن الإسرائيليين والفلسطينيين قادرون على منع " اندلاع العنف".
وفي مطلع أيلول/ سبتمبر 2015 نشر موقع دورية Foreign Affairs التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية مقالة بعنوان: " الانتفاضة المفقودة ... الهدوء الغالب في الضفة الغربية". وتنتقد المقالة موقف الإسرائيليين الذين، حسب الدورية، إما أنهم يحاولون استفزاز الفلسطينيين للقيام بانتفاضة، وإما أنهم لا يستغلون توفر شريك حقيقي للسلام هو محمود عباس.
وسأحاول هنا مناقشة موضوعين أساسيين: الأول؛ أسباب الحراك الشعبي الراهن، طبيعته وخصائصه ؟ والثاني؛ مستقبل هذا الحراك وهل يتطور إلى انتفاضة (نموذج الانتفاضة الأولى، مع الفارق في العوامل الذاتية وفي الشروط الموضوعية). وفي السياق سأجيب على أسئلة/مسائل فرعية ذات صلة.
I - أسباب الحراك الشعبي الراهن، طبيعته وخصائصه
هناك عوامل عديدة تبرر حصول هذا التحرك أو الهبة الشعبية، يمكن تفسيرها من خلال "قانون الصدفة والضرورة". ففي الانتفاضة الأولى على سبيل المثال لم يكن حادث دهس العمال الغزيين من قبل شاحنة إسرائيلية هو سبب اندلاعها، فهذا الحادث لم يكن سوى الصدفة التي أملتها ضرورة الانتفاضة في حينها والمتمثلة في: تراجع الاهتمام العربي والدولي بالقضية الفلسطينية (تركيز الاهتمام على الحرب العراقية - الإيرانية في القمة العربية التي انعقدت في عمان/الأردن قبل أيام من اندلاع الانتفاضة)، خروج منظمة التحرير من لبنان والصراع مع سورية والانشقاق في صفوف المنظمة واندلاع حرب المخيمات في لبنان، تراكم النضالات اليومية ضد الاحتلال وبلوغها الذروة قبيل اندلاع الانتفاضة.
وبتطبيق هذا القانون على "التحرك الشعبي" الراهن، نؤكد أن الاستفزازات الإسرائيلية في المسجد الأقصى لم تكن سوى الصدفة (الدافع) التي أملت ضرورة اندلاع الحراك وامتداده ليشمل مناطق فلسطينية أخرى. وتكمن هذه الضرورة في مجموعة العوامل التالية:
الإهمال الدولي والعربي للقضية الفلسطينية (التركيز على تداعيات الربيع العربي والأزمة السورية بالذات، حرب اليمن، الاتفاق النووي مع إيران)، انسداد الأفق أمام حل الدولتين، الشعور العام بعجز القيادة الفلسطينية ( السلطة الوطنية) عن تحقيق هدف إنهاء الاحتلال، فشل الخطط الدبلوماسية الفلسطينية في إنهاء الاحتلال، المعاناة اليومية للفلسطينيين وتقييد حرية حركتهم جرّاء بناء الجدار وشق الطرق الالتفافية وعزل القرى والمدن وتقسيم الضفة إلى بانتوستونات وجيوب معزولة، الانتهاكات المستمرة لجيش الاحتلال وعصابات المستوطنيين لكرامة الفلسطينيين. هذا بالإضافة إلى حالة الانسداد في وضع بعض القطاعات الخدمية وإفلاس السلطة مالياً وتقلص المساعدات العربية والدولية لها....إلخ).
ويتميز هذا الحراك بعدد من الخصائص أهمها:
- الانطلاق من القدس واستفزازات المستوطنين في المسجد الأقصى.
- الامتداد المحدود إلى مناطق 1948 وقطاع غزة.
- الامتداد الخجول إلى مناطق السلطة: المناطق (أ) حسب تصنيف أوسلو.
- الطابع الفردي غير المنظم وروح الجرأة والإقدام العالية: حالة الرعب في أوساط المستوطنين وحالة الإرباك السياسي على المستوى الحكومي في التعامل مع الأحداث.
- الأدوات النضالية البدائية ( الحجارة والسكاكين والزجاجات الحارقة والدهس): السكين لا تنهي الاحتلال، لكنها تهزم روحه.
- الفئات الاجتماعية المشاركة: الدورالبارز لجيل الشباب الذي ولد قيبل أوسلو وبعده، وحضور المرأة البارز( المرابطات في الأقصى).
II- مستقبل الحراك وآفاق تطوره( المعوقات والتحديات)
قبل أن نعالج مسألة مستقبل هذا الحراك والمعوقات الذاتية والتحديات التي تحول دون تطوره باتجاه انتفاضة ثالثة، على نمط الانتفاضة الأولى، وشروط الارتقاء به إلى هذا المستوى لا بدّ من تحديد ما الذي نعنيه بالانتفاضة الشعبية:
من الواضح أن الحراك الذي تشهده فلسطين اليوم انطلاقاً من القدس لا يزال مقتصراً على بعض النخب وخاصة فئة الشباب، ولم يرتق هذا الحراك بعد إلى مستوى الانتفاضة الشعبية. وفي تقديرنا أن الانتفاضة فعل جماهيري واسع تقوم به الجماهير العريضة من كل الفئات الاجتماعية (شباب ورجال ونساء وشيوخ) ومجمل القوى السياسية تقوده قيادة وطنية موحدة ولجان محلية ممثلة لمجتمعاتها، وفق برنامج مرحلي محدد الأهداف (دحر الاحتلال مثلاً) يعتمد أدوات ووسائل نضالية سلمية مختلفة تؤدي إلى عصيان مدني شامل ضد الاحتلال ومظاهر وجوده (تظاهرات، اعتصامات، مسيرات، مهرجانات، اشتباك مع الحواجز العسكرية ونقاط التماس مع المستوطنين، قطع طرق، مقاطعة بضائع ومنتجات العدو، الامتناع عن دفع الضرائب، كشف المتعاونين مع العدو وعزلهم اجتماعياً، تنظيم لجان حراسة لحماية القرى، تشكيل لجان للتعليم الشعبي، لجان وتعاونيات زراعية... إلخ)، كما شهدناه في نموذج الانتفاضة الأولى "المغدورة"، وليس في نموذج الانتفاضة الثانية (2000)، التي اقتصرت على النخب المسلحة.
في واقع الحال هناك عدد من المعوقات الذاتية التي تواجه الحراك والتحديات التي تحكم آفاق تطوره باتجاه احتجاج شعبي عارم، أهمها: الانقسام الفلسطيني، التغيرات والتحولات في بنية المجتمع الفلسطيني التي تسببت بها اتفاقات أوسلو (الاعتماد شبه الكلي للمجتمع الفلسطيني على المساعدات الخارجية، نشوء فئات/ نخب مستفيدة من إدامة واقع أوسلو على حساب السواد الأعظم من الناس، سيادة قيم الاستهلاك وقيم الفردية على حساب قيم الإنتاج والتضامن والتكافل الاجتماعي والروح الجماعية...إلخ، التنسيق الأمني مع الاحتلال...إلخ.
وفيما يتعلق بالتحديات مقارنة بالانتفاضة الأولى ( 1987)، هناك متغيرات على صعيد ميدان الصراع تتمثل في تشكيل قوات وأطر سياسية للمستوطنين تكاد تجعل منهم نسبياً لاعباً مستقلاً في المشهد مع تضاعف عددهم إلى أكثر من ثلاث مرات منذ توقيع اتفاق أوسلو. وهذا يفرض على الانتفاضة مواجهة جيش الاحتلال وعصابات المستوطنين في آن.
والسؤال الآن: هل ارتقى الحراك الشعبي في فلسطين حتى اللحظة إلى مستوى الانتفاضة، كما وصفناها. الجواب لا، ولكن هذا الحراك في تقديرنا يحمل الكثير من خصائص وملامح الانتفاضة الأولى، الأمر الذي يتطلب تطويره بهذا الاتجاه من خلال توفر عدد من الشروط، أبرزها:
- إعادة ترتيب البيت الفلسطيني عبرالإسراع في إتمام المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام وإعادة بناء الوحدة الوطنية في إطار (م.ت.ف) وإعادة الاعتبار للمضمون التحرري للمنظمة، بوصفها الإطار الجامع لوحدة الشعب الفلسطيني.
- إعادة النظر في دور السلطة الوطنية ووظائفها وتخلي قيادة السلطة عن نهج المراهنة على المفاوضات التي لم تؤد منذ أكثر من عقدين سوى إلى تعزيز الاستيطان وترسيخ الاحتلال.
- تشكيل قيادة وطنية موحدة وقيادات محلية لتنظيم المقاومة المدنية السلمية بكافة أشكالها الموصوفة سابقاً، انطلاقاً من برنامج متفق عليه يجنب الانتفاضة حالة الارتجال والعفوية.
- امتداد فعاليات الانتفاضة من القدس إلى كل مناطق الضفة الغربية بدون تمييز ( كسر نمط تقسيم الضفة الغربية إلى أ ، ب ،ج الذي كرسته اتفاقيات أوسلو) وامتدادها بشكل خاص إلى الأراضي المحتلة العام 1948، لتأكيد وحدة الأرض والشعب والعودة بالصراع إلى جذوره ومربعه الأول.
- تشكيل لجنة وطنية لتوثيق جرائم الحرب التي يرتكبها الجنود الإسرائيليون والمستوطنون، وخاصة حالات الإعدام الميداني، بهدف مقاضاتهم أمام المحاكم الدولية المختصة.
- تفعيل دور الشتات في مساندة الانتفاضة، وفي السياق نفسه تفعيل دور لجان التضامن العربية والدولية مع فلسطين.
- الاستمرار في المقاومة الدبلوماسبة والقانونية، المعززة بواقع نضالي صلب على أرض الواقع، بحيث تصبح شكلاً من أشكال الكفاح في استراتيجية نضالية متكاملة، وليس أداة للابتزاز من أجل تحسين شروط المفاوضات مع إسرائيل.
III- جيل الانتفاضة: تقديم نموذج (profile ) بهاء عليان، 22 عاماً
غنيّ عن القول إن العوامل الذاتية، وأهمها العامل البشري، تحدد إلى حدّ كبير طبيعة هذا الحراك وتشير إلى، بل ترسم آفاق تطوره. وفي هذا الصدد نرى أنه من المفيد تقديم نموذج " بورتريه" لجيل الحراك الشعبي الراهن يتمثل في أحد شبان هذا الحراك، الذي استشهد خلال عملية عسكرية في القدس. وهو بهاء عليان:
- ولد بهاء في حي المكبر بالقدس. وهو منفذ إطلاق النار داخل حافلة إسرائيلية في القدس تسببت باستشهاده وبمقتل وجرح ثلاثة إسرائيليين في 13/أكتوبر 2015.
- في آذار /مارس 2014 قام بهاء بتنظيم سلسلة بشرية ضمت آلاف المقدسيين حملوا كتب مطالعة، في محاولة لكسر الرقم القياسي لأكبر سسلسة بشرية قارئة سجلتها موسوعة "غينيس". وكان حلمه أن يُدخل القدس في الموسوعة. وقد نجح.
- قال لأمه قبيل ذهابه إلى العملية: " زبطيلي القميص رايح ع عرس"
- قبل عشرة أشهر من استشهاده كتب على صفحته في الفيس بوك وصية معبرة ومؤثرة جداً تناقلها الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حتى غدت عنواناً وهوية تعكس ماهية هذا الحراك الشعبي الشبابي وهويته. ومن أهم ما جاء فيها: أوصي الفصائل بعدم تبني استشهادي، فموتي كان للوطن وليس لكم/ لا أريد بوسترات ولا بلايز، كيلا تكون ذكراي مجرد بوستر معلق على الجدران فقط/ أوصيكم بأمي لا ترهقوها بأسئلة الهدف منها استعطاف مشاعر المشاهدين ليس أكثر/ لا تزرعوا الحقد في قلب ابني، بل اتركوه يكتشف وطنه ويموت من أجله، وليس من أجل الانتقام لموتي/ إن أرادوا هدم بيتي فليهدموه، فالجدران لن تكون أغلى من روح خلقها ربي/ لا تحزنوا على استشهادي، إحزنوا على ما يجري لكم من بعدي/ لا تبحثوا عما كتبته قبل استشهادي، إبحثوا عما وراء استشهادي/ لا تجعلوا مني رقماً من الأرقام تعدوه اليوم وتنسوه غداً.
- أجاب والده عندما سئل عن دوافع استشهاده: "العنف الذي يمارسه الاحتلال ضد الناس هو السبب، وكذلك ضعف القيادة الفلسطينية. أنا أحترم قرار ابني، وإذا قررت السلطات الإسرائيلية عدم تسليمه لنا ودفنه في مكان آخر، فهو سيكون مدفوناً في تراب فلسطين. أنا أريد فقط تشييعاً يليق بابني، ولن أسمح بأن يذلوني في هذا الموضوع".
III- خاتمة
نود في الختام أن نطرح سؤالاً جوهرياً يطفو على السطح بقوة هذه الأيام، وهو هل سيؤدي الحراك، إذا ما تطور إلى انتقاضة بالمعنى الذي نتحدث عنه، إلى استراتيجية وطنية جديدة؟ نقول إن هكذا عملية لا تتم بشكل تلقائي ومن دون مصاعب وعقبات وآلام مخاض. لا شك في أن هذا الحراك إذا ما تصاعد وتطور إلى احتجاج شعبي عارم سيوفر مناخات ملائمة تؤدي إلى وقف التنسيق الأمني، والبدء بتفكيك منظومة أوسلو الإدارية والقانونية، شريطة أن تتوفر الإرادة السياسية لدى مختلف الفصائل للقيام بما يطلق عليه علم اجتماع اللغة "تبديل الشيفرة" (Code Switching) أي تغيير اللغة/اللهجة والخطاب السياسيين. ففي أعقاب توقيع اتفاقات أوسلو تغيرت"الشيفرة" الفلسطينية بشكل دراماتيكي ومدمر وطنياً، حيث تقزمت فلسطين لتصبح الضفة الغربية وقطاع غزة، وتنحت (م.ت.ف) لصالح "السلطة" وتحولت "حركة التحرر الوطني " إلى حركة استقلال وطني".[1] وهذا الأمر يستلزم العودة إلى لغة حركة التحرر الوطني وإلى مربع الصراع الأول.
صيدا، 2/11/2015
[1] للمزيد من النقاش حول هذا المفهوم أنظر: أحمد عزم،"تغيير الشيفرة الفلسطينية"، صحيفة الأيام (فلسطين)، 13 تشرين الأول/أكتوبر 2015.