مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل: معاقبة الضحية ومكافأة المجرم
التاريخ: 
11/03/2016
المؤلف: 

ليس من السهل الحديث عن مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل من دون الحديث عن مجمل الإجراءات الإسرائيلية في هذه المدينة منذ سنة 1967، وفي الحقيقة جاءت هذه المذبحة وما تبعها من خطوات تهويدية تتويجاً لهذه الاجراءات. فقد تعرضت الخليل لأول المحاولات الاستيطانية في الضفة الغربية، طبعاً بعد القدس. وسيرد أدناه أهم النشاطات الاستيطانية وأثرها في مدينة الخليل بصورة عامة، وفي البلدة القديمة بصورة خاصة.

أولا: خلفيات عامة

1. من فندق النهر الخالد إلى كريات أربع ومستوطنات حصار الخليل

بدأ الاستيطان الإسرائيلي في الخليل في ربيع سنة 1968، عندما نزلت مجموعة من اليهود في فندق النهر الخالد في المدينة وبالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي، وذلك لتمضية فترة أعياد عيد الفصح. وكان على رأس هذه المجموعة الحاخام اليهودي العنصري موشيه لفينغر، الذي أصبح الأب الفعلي لحركة الاستيطان في الخليل أولاً، ولاحقاً في سائر أنحاء الضفة الغربية. وبعد عيد الفصح المذكور رفضت هذه المجموعة إخلاء الفندق الذي أصبح محجاً لكثير من رجال الدين والسياسة في إسرائيل، دعماً لمشروع لفينغر الاستيطاني في الخليل. وبمرور الوقت، وبسبب صعوبة حماية هذه المجموعة في قلب المدينة، قامت قيادة الجيش الإسرائيلي بمصادرة قطعة أرض كبيرة تقع إلى الشرق من الخليل، بعيدة نسبياً عن النسيج العمراني الفلسطيني في حينه، ووُضع فيها حجر الأساس لمستوطنة كريات أربع، حيث انتقلت مجموعة لفينغر إليها. لقد توسعت مستوطنة كريات أربع بالتدريج ووصل عدد مستوطنيها اليوم إلى أكثر من 7000 مستوطن، يسود بينهم الفكر اليميني المتطرف، ويتصفون بالعنصرية والعدوانية تجاه كل ما هو عربي، ويمكن القول بأن هذه المستوطنة هي دفيئة الاستيطان والعنصرية. ويتحدر السكان في معظمهم من مهاجرين من أصول أميركية، وكثيرون منهم لا يتقنون حتى العبرية، وقد تم ربط هذه المستوطنة بشارع عريض يخترق الأحياء الفلسطينية وصولاً إلى الحرم الإبراهيمي. ولتحقيق ذلك تم هدم كثير من المباني التاريخية على تخوم البلدة القديمة وداخلها. كما تم إنشاء مزيد من المستوطنات على حدود الخليل الشرقية، هي تل هأفوت (تل الآباء) ومستوطنة تل الخرسينا (تل الفخار)، بالإضافة إلى مستوطنة حاجي إلى الجنوب من المدينة. وتحد هذه المستوطنات مجتمعة من توسع مدينة الخليل، كبرى مدن الضفة الغربية بعد القدس.

2. من كريات أربع إلى قلب الخليل

وبعد أن تم تثبيت مستوطنة كريات أربع على تخوم المدينة، وحاصرتها من الشرق، ومنعت تمددها المستقبلي، انتقل مستوطنوها إلى قلب المدينة، وقد تم ذلك سنة 1979، حيث أنشئت مستوطنة بيت هداسا، على الطرف الشمالي لشارع الشهداء الذي يخترق الخليل من الشمال إلى الجنوب ماراً بمركز المدينة، حيث الأسواق ومحطة الباصات المركزية ومقبرة المدينة التاريخية وصولاً إلى البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي. في بداية الأمر، اقتحمت المبنى 10 نساء من مستوطني كريات أربع، بالإضافة إلى 40 طفلاً من أطفال المستوطنين، وبعد أقل من عام سمح لأزواجهن بالانضمام إليهن، ثم أُضيف مزيد من المباني الجديدة. وتحولت هذه المستوطنة إلى معسكر للجيش، فأدت أيضاً إلى ترحيل سكان مجموعة كبيرة من المباني المحيطة، وذلك بدواع أمنية. وبالتالي تحول المبنى الاستيطاني إلى حي كبير من البيوت المهجورة نتيجة ترحيل ساكنيها الفلسطينيين، علاوة على إغلاق الشوارع المحيطة به، بما فيها الأسواق القريبة.

وخلال السنوات الخمس المقبلة (1980-1984) تم إنشاء مزيد من البؤر الاستيطانية في قلب المدينة، أكبرها مستوطنة أبراهام أفينو، التي تقع في قلب البلدة القديمة، وقد أدى إنشاؤها إلى إغلاق مساحات واسعة من البلدة القديمة وتهجير سكانها، كما أدى إلى إغلاق سوق الخضروات المركزي وحرمان أصحابه والتجار من دخوله حتى اليوم.

ومستوطنة بيت رومانو (مدرسة أسامة بن منقذ) التي أقيمت سنة 1983، تقع على الطرف الشمالي للبلدة القديمة عند مدخلها الرئيسي. والمستوطنة هي عبارة عن مبنى واحد كبير، أُضيف إليه عدد من الطبقات بحيث أصبح مشرفاً على كل البلدة القديمة، ومهمشاً صورتها التاريخية، وقد أحيط بمجموعة من الأبراج العسكرية، وأُغلقت الشوارع المحيطة به، الأمر الذي حول كل المنطقة المحيطة به إلى جحيم، وخصوصاً أن هذا المبنى يستخدمه طلاب مدرسة دينية متشددة.

ومستوطنة تل الرميدة، التي تقع على التل، أي الموقع الأثري الذي يضم آثار الخليل الكنعانية والتي استمرت حتى الفترة الإسلامية المبكرة، إذ تمددت المدينة لتلتف حول الحرم الإبراهيمي. قامت سبع عائلات من مستوطني كريات أربع بوضع منازل جاهزة (متنقلة) سنة 1984 على التل الأثري، وذلك في تناقض حتى مع قوانين الآثار الإسرائيلية. وفي سنة 1998، وافقت الحكومة الاسرائيلية على تحويل المنازل الموقتة إلى مبان ثابتة مبنية بالحجر والخرسانة المسلحة، مدمرة بذلك جزءاً مهماً من التل الأثري. وقد تسببت هذه المستوطنة بإغلاق مزيد من الشوارع المحيطة، وتضييق الخناق على المقبرة، وحرمان سكان الخليل وغيرهم من زيارة الموقع الأثري، الذي يكتنز تاريخ الخليل.

3. تهجير سكان البلدة القديمة

أدت جملة الضغوط الإسرائيلية على البلدة القديمة إلى تهجير أغلبية السكان منها، فلم يبقَ من سكانها الذين كان عددهم نحو 20.000 سنة 1967، إلاّ نحو 350 نسمة سنة 1995. لقد حُرمت البلدة القديمة سوق الخضروات، ومحطة الباصات، ومدرسة أسامة، وهُدمت الأجزاء القريبة من الحرم الإبراهيمي بهدف تسهيل مرور المستوطنين إلى الحرم، وهُدمت أجزاء أُخرى لتوفير أماكن لوقوف سياراتهم وحافلاتهم، وتم إغلاق عدد كبير من الأسواق، الأمر الذي أثر في النسيج الاقتصادي التقليدي المعتمد على التجارة والحرف، وترافق ذلك مع إنشاء العديد من نقاط التفتيش المذلة، علاوة على اعتداءات المستوطنين ليلاً نهاراً. وابتدأت الأسواق تنهار، إذ أصبح من الصعب التسوق فيها نتيجة الإجراءات الإسرائيلية. ويمكن القول بأن أكثر من 500 متجر ومنشأة حرفية قد أُغلقت.

وبعد مذبحة الحرم الإبراهيمي (سنأتي إلى ذكرها)، ازداد الضغط على البلدة القديمة، حيث أُغلقت مزيد من البنايات بحجج أمنية، وسُدت كثير من الطرقات، وبات على السكان المرور أحياناً من بيوت الجيران أو من على سطوح المباني للوصول إلى منزلهم، لأن الطريق العام المؤدي إلى منزلهم قد أُغلق. وأخطر الإغلاقات المؤثرة كان إغلاق شارع الشهداء الذي يقسم الخليل إلى قسمين، وهو الشارع الرئيسي الذي يربط البلدة القديمة بالجديدة، ونجم عن ذلك إغلاق نحو 200 دكان، وقتل القلب التجاري للخليل، وهو ما أدى إلى نزوح التجار إلى الأسواق الجديدة، تاركين متاجرهم القديمة خاوية، فتحول شارع الشهداء والممرات المؤدية إليه إلى ملاعب لأطفال المستوطنين. اليوم يمكن القول إن هناك نحو 1800 دكان مغلق، منها 520 دكاناً مغلقاً بموجب الأوامر العسكرية، والبقية أُغلقت بسبب التضييق والحواجز وعدم قدرة أصحابها على الوصول إليها أو بسبب عدم الجدوى الاقتصادية لها

4. بروتوكول الخليل

زادت اتفاقية الخليل الأمور تعقيداً، فقد وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل بروتوكولاً بتاريخ 15/1/1996 لإعادة انتشار القوات الإسرائيلية في الخليل، وذلك كملحق لاتفاق أوسلو. وقُسمت الخليل بموجبه إلى منطقتين، هما: الخليل 1 (ورمز إليها بـH1) وتشكل نحو 80% من مساحة المدينة، وتخضع للسلطة الوطنية الفلسطينية أمنياً ومدنياً؛ الثانية الخليل 2 (ورمز إليها بـH2) وتشكل نحو 20% من مساحة مدينة الخليل، وتخضع أمنياً للسلطة الإسرائيلية، في حين أن السلطة المدنية (الخدمات) تقع في يد السلطة الفلسطينية. ويُذكر أن كل البلدة القديمة، بما فيها الحرم الإبراهيمي هي جزء من الخليل 2.[1] كما تضمن الاتفاق الوجود الدولي للمراقبة فقط، وعرّف هذا الوجود بالموقت (TIPH).[2] لقد مكّنت السيطرة الإسرائيلية الأمنية الكاملة، بموجب الاتفاق، على البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي، من إطلاق يد إسرائيل الاستيطانية والأمنية فيهما.

5. لجنة إعمار الخليل

نتيجة هذه الأوضاع قام الرئيس الراحل ياسر عرفات، وبمبادرة من فعاليات الخليل، بتشكيل لجنة إعمار البلدة القديمة سنة 1996، والتي بدأت أعمالها مباشرة عقب تشكيلها. وتهدف اللجنة إلى ترميم وتأهيل البلدة القديمة وحماية التراث الثقافي فيها، وإلى إعادة إشغالها بالسكان وإحيائها اجتماعياً واقتصادياً. وفي الحقيقة كانت إنجازات اللجنة عظيمة على الرغم من كل المعوقات، ولا سيما عقب الاجتياحات الإسرائيلية التي تمت سنة 2002، فقد تمكنت اللجنة حتى الآن من ترميم أغلبية المباني والأسواق والمؤسسات العامة، كما نجحت في رفع عدد سكان البلدة القديمة من 350 نسمة إلى أكثر من 4000 نسمة، وذلك في ظروف في غاية التعقيد.[3] وضمن الإنجازات الكثيرة للجنة نجاحها أيضاً في ترميم الحرم الإبراهيمي، وذلك في سبيل تثبيت حق الفلسطينين في القيام بذلك كمُلاّك للحرم.

6. الاعتداءات الإسرائيلية التي سبقت المذبحة

يخيل إلى مَنْ يقصد الحرم الإبراهيمي اليوم أنه يدخل معسكراً لجيش الاحتلال، إذ ينتشر عشرات الجنود على بواباته وفي محيطه، وفوق سطوح المباني المحيطة، وكل شيء يوحي بثكنة عسكرية، ولا يدل على مكان مقدس. وتهدف الإجراءات الإسرائيلية إلى تفكيك الارتباط بين الفلسطينيين بصورة عامة، وسكان الخليل بصورة خاصة، بثاني أقدس مقدسات المسلمين في فلسطين، ورابع مقدسات المسلمين في العالم. وبعد الوصول إلى تخوم الحرم تبدأ آلات الكشف عن المعادن والمرور بالبوابات المستديرة، ثم تبدأ عملية إفراغ ما في الجيوب. ويمر زائر الحرم بثلاث مراحل تفتيش كي يتسنى له الوصول إلى المسجد. وإذا كانت زيارة الحرم الإبراهيمي مسموحاً بها أو لا، فعلى الزائر أن يعرف ذلك مسبقاً، فقد يصادف ذلك أحد الأعياد اليهودية، فيكون الدخول طوال اليوم مقصوراً على اليهود فقط.

وصل الحرم الإبراهيمي إلى هذا الوضع نتيجة سلسلة من إجراءات الاحتلال التي بدأت منذ سنة 1967، والتي اعتمدت على التدخل بالتدريج في شؤونه ومحاولات السيطرة عليه عبر خلخلة السيطرة الإسلامية، ثم السماح لليهود بالصلاة، وبعدها بالتدريج أيضاً حجز مناطق من الحرم لصلاة اليهود، وصولاً إلى الوضع الحالي، الذي تم التشريع له عبر لجنة شمغار التالي ذكرها.

الاعتداءات الإسرائيلية على الحرم الإبراهيمي كثيرة ومتعددة الأشكال، منها ما قامت به أذرع الاحتلال مباشرة، ومنها ما قام به المستوطنون، بصفتهم ذراعاً غير رسمية للاحتلال. ومن المهم الإشارة إلى أن الحرم الإبراهيمي يقع ضمن المناطق المحتلة، وتنطبق عليه كل القوانين والأعراف الدولية التي تحمي التراث الثقافي والديني والأملاك في ظل الاحتلال، ويجب النظر إلى كل هذه الاجراءات على أنها انتهاك لحقوق الإنسان وانتهاك للقانون الدولي.

سُجل منذ حزيران/ يونيو1967 أكثر من 1300 اعتداء على حرمة الحرم الإبراهيمي، أكان على استخدامه ومكوناته وعمارته وتراثه وتقاليده، أم على المصلين والزائرين. ويمكن أن نشير إلى بعض النماذج لهذه الاعتداءات على سبيل المثال لا الحصر، لأننا لو أردنا سرد كل هذه الانتهاكات فإننا سنحتاج إلى مجلد كامل:

  • في حزيران/ يونيو 1967 بدأ الإسرائيليون بزيارة الحرم أفراداً وجماعات، وانتهك موشيه دايان حرمة الغار الشريف بإدخال ابنته (راعيل دايان) إليه وتصويره، وبعدها جرت هذه العملية عدة مرات. ويعتبر المسلمون أن الدخول إلى هذا الغار هو انتهاك لحرمة الأنبياء المدفونين فيه.
  • في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 1968، أمر موشيه دايان بنسف الدرج المؤدي إلى المسجد، وبهدم البئر الأثرية الملاصقة لسوره، وبالتالي إغلاق البوابة الشرقية للحرم وتدمير مجموعة من المباني التاريخية التي كانت في محيطه، ومنها مبان تعود إلى الفترة المملوكية.
  • اتخذت الزيارات اليهودية طابعاً رسمياً في كانون الثاني/ يناير 1972، عندما سمحت السلطات الإسرائيلية لليهود رسمياً بأداء الصلوات في الحرم بشكل غير تظاهري، وفي غير أوقات صلاة المسلمين، وتكرر هذا التسلل عدة مرات، وكان يتم أحياناً في حلكة الليل ومن دون ضجيج إعلامي، لكنه أصبح كأن واقعاً جديداً يتشكل بالتدريج، غير أن ملامحه العامة لم تكن قد وصلت إلى مرحلة الوضوح الكامل.
  • وفي 27/8/1972 نظم الحاخام مئير كهانا، مؤسس حركة كاخ العنصرية، صلاة تظاهرية مع أتباعه بالقرب من الحرم الإبراهيمي. وقبل نهاية السنة نفسها قام الحاخام المذكور بالصلاة مع أتباعه داخل الحرم، وذلك خلال أوقات صلاة المسلمين، مفتتحاً بذلك نمطاً جديداً من التدخل، وطبعاً تحت حراسة حراب الاحتلال. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر من السنة نفسها قرر الحاكم العسكري الإسرائيلي زيادة عدد الساعات المخصصة لليهود، بحيث أصبحت هذه الصلوات جزءاً من الواقع، فاقتضى تنظيمها. ويمكن القول بأن التقسيم الزماني للحرم الابراهيمي قد بدأ قبل أفول سنة 1972، ليشكل لاحقاً قاعدة أساسية في تنظيم استعمال المسجد.
  • في سنة 1972 مُنع المسلمون من الصلاة على موتاهم، كما جرت العادة منذ 14 قرناً، داخل الحرم الإبراهيمي، ومنذ ذلك الحين لم تصل أي جنازة إليه ولم يُصلَّ على ميت فيه، وهذا انتهاك لعادة الناس في تكريم موتاهم، وتحديد للمسلمين في كيفية استعمال الحرم، حتى خلال الأوقات التي كرسها الاحتلال لهم.
  • وفي 2 تشرين الأول/ أكتوبر 1976 تسلل أربعة من الشبان اليهود وتسلقوا السور إلى داخل الحرم، ومزقوا كل المصاحف فيه وداسوها بأقدامهم، كما تمكن المستوطنون من تحطيم وسرقة معظم أثاثه، ومن بين المسروقات ساعات وكتب ومصاحف إسلامية ذات قيمة تاريخية ومفاتيح مقامات الأنبياء وسجاد أثري عمره عدة قرون، علماً بأن قوات الاحتلال كانت "تحرس" الموقع.
  • وفي 19 كانون الثاني/ يناير 1979 وافقت الحكومة الإسرائيلية على توصية عيزرا وايزمن، وزير الدفاع آنذاك، بالسماح لليهود بإقامة الصلاة في المكان الذي بقي للمسلمين (الحضرة الإسحقية) حيث المنبر والمحراب، وبذلك تم تحطيم القيود التي وضعها الاحتلال نفسه، وأصبح كل المبنى مباحاً.
  • وفي صباح 25 شباط/ فبراير 1994، هاجم الدكتور باروخ غولدشتاين، وهو مستوطن من كريات أربع يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والأميركية، المصلين في الحرم الإبراهيمي في أثناء تأديتهم صلاة الفجر وهم سُجَّد، مطلقاً النار عليهم من رشاشه (188 رصاصة)، فقتل 29 مصلياً وجرح 135، وذلك داخل الحرم فقط، وجرى الأمر عند الخامسة فجراً، بينما كان المئات من المصلين يسجدون لربهم في الركعة الأولى من صلاة الفجر في اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك 1414هـ. وواصل الجيش الإسرائيلي إطلاق النار خارج المسجد فقتل عشرات آخرين في اليوم نفسه، كما سيرد بالتفصيل أدناه.
  • وفي ضوء ذلك، شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنة تحقيق رسمية، حكمت بتاريخ 29/8/1994 بمعاقبة الضحية، إذ جرى تحويل الحرم الشريف إلى ثكنة عسكرية، وتقسيم الحرم الإبراهيمي إلى قسمين: القسم المسمى "الإسحقية" للمسلمين، وبقية المسجد لليهود، على أن يتم إغلاق الحضرة الإسحقية أمام المسلمين في الأعياد والمناسبات اليهودية. لقد وصلت مساحة ما خصص لليهود 56% من المساحة الإجمالية للحرم الإبراهيمي. وفي تشرين الأول/ أكتوبر من السنة نفسها تم تركيب 14 كاميرا مراقبة داخل المسجد، بحيث لم يعد في الإمكان الصلاة أو القيام بالدروس الدينية من دون مراقبة قوات الجيش، وأصبحت العلاقة بين المصلي المسلم وربه تمر عبر الرقابة الإسرائيلية.
  • وفي 21/2/2010 أعلنت الحكومة الإسرائيلية تسجيل الحرم الإبراهيمي في قائمة التراث الوطني (الإسرائيلي/اليهودي)، وأباحت لنفسها رصد ميزانيات لترميمه وصيانته، وتشجيع اليهود على زيارته، وخصوصاً تلاميذ المدارس وأفراد الجيش الاسرائيلي ضمن رحلات منظمة ومجانية.

ثانياً: مذبحة الحرم الإبراهيمي

كما ورد أعلاه، أصبح الحرم الإبراهيمي وبالتدريج تحت السيطرة الاسرائيلية الكاملة، وتمت استباحة الموقع كله، وتم تقسيم المسجد زمانياً ومكانياً، لكن من دون تحديد دقيق بصورة عامة. وكان للمسلمين الحق في الصلاة والزيارة في كل المسجد، حتى في ظل تقييدات كثيرة، كما أن سدنة الحرم كانوا يستطيعون الوصول إلى كل مكان في أغلبية الأوقات. وبالتأكيد كان الموقع يغلق بالكامل في الأعياد اليهودية، ويحظر على المسلمين دخوله. وكانت كل المؤشرات تدل على تنامي التطرف اليهودي في الخليل، كما كانت كلها تشير أيضاً إلى أن الحرم الإبراهيمي مقبل على تغييرات جذرية.

1. المذبحة الأولى

في أثناء صلاة الفجر صبيحة يوم الجمعة الواقع فيه 15 رمضان المبارك الموافق فيه صباح 25/2/1994، اكتظ المسجد الصغير (الحضرة الإسحقية) بالمصلين (نحو 500 مصلٍّ)، وخلال الركعة الثانية، وهم رُكَّع، دخل المستوطن الطبيب ابن مستوطنة كريات أربع باروخ غولدشتاين بسلاحه الرشاش (M 16) وفتح نيرانه عليهم مطلقاً 188 رصاصة، قاتلاً 29 منهم، وجارحاًَ نحو 150، علماً بأن الرصاصة الواحدة كانت تخترق أكثر من جسد من أجساد المصلين، وذلك لقصر المسافة التي لا تزيد على 15 متراً بين مكان وقوف غولدشتاين ومحراب المسجد. وعندما أفاق المصلون من هول الصدمة قتلوه باستخدام أجهزة إطفاء الحرائق الموجودة في زاوية المسجد.[4]

وباروخ غولدشتاين هو طبيب يهودي من مواليد بروكلين (نيويورك) سنة 1956، وكان في أثناء دراسته وبعدها عضواً في عصبة الدفاع اليهودية (Jewish Defense League[5] وهي مؤسسة يهودية أميركية عنصرية أنشأها المتطرف العنصري الحاخام مئير كهانا[6] في نيويورك سنة 1968. هاجر غولدشتاين إلى إسرائيل بعد انتهاء دراسته وعمله في مستشفى أميركي، وأقام بمستوطنة كريات أربع بعد أن خدم في الجيش الإسرائيلي، حيث عمل طبيباً، كما كان في أثناء وجوده في كريات أربع عضواً في مجموعة كهانا، وكان يرى في الفاشي مئير كهانا المثل الأعلى والمعلم الأكبر.

2. المذبحة الثانية

لم يكن دخول المجرم غولدشتاين بعيداً عن أعين جنود الاحتلال المرابطين على مداخل الحرم وداخله، فقد دخل حاملاً سلاحه من أمامهم، وهو أمر لم يكن ممنوعاً على المستوطنين. وحال سماع الجنود صوت إطلاق النيران داخل الحرم قاموا بإغلاق البوابات ومنع المصلين من نقل الجرحى إلى المستشفيات، وبعد انتشار الخبر بين سكان المدينة، وخصوصاً في الحارات المحيطة بالحرم، تدافعوا للوصول إلى الموقع، واصطدموا بالجنود، وازدادت الاشتباكات في أثناء تشييع جثامين الشهداء، وامتدت إلى البلدات والقرى المحيطة بمدينة الخليل، الأمر الذي رفع عدد الشهداء إلى نحو 60 شهيداً، وهذا يعني أن مجموع من قتلهم جيش الاحتلال عقب المذبحة بلغ 31 فلسطينياً، عدا عشرات الجرحى التي لم تستطع مستشفيات المدينة استيعابهم، وهو ما تطلب نقلهم بصعوبة بسبب الإغلاقات إلى سائر مستشفيات الضفة الغربية.

كذلك انتهت المذبحة الثانية بفرض منع التجول في المدينة لأيام عديدة، وفرضه على البلدة القديمة لستة شهور متتالية، تم رفعه لساعات معدودة لتمكين سكان البلدة القديمة من التزود بالمواد الغذائية، وأدى ذلك إلى ترحيل مزيد من سكانها إلى الأحياء الخارجية لتمكين الأبناء من مواصلة تعليمهم في المدارس، وذلك لاستحالة الحياة في ظل حراب الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المدججين بالأسلحة. وخلال هذه الفترة تم تنفيذ توصيات لجنة شمغار، الآتي ذكرها.

3. لجنة شمغار: قرارات وتوصيات

بسبب الاحتجاجات العارمة التي اندلعت عقب المذبحتين، وبسبب تسليط الأضواء العالمية على ما حدث في الخليل، وخصوصاً أن المذبحة تمت في أثناء المحادثات الفلسطينية - الإسرائيلية للسلام والتي أعقيت "إتفاقية أوسلو" (1993) لجأت إسرائيل إلى تشكيل لجنة تقصى حقائق، مغلقة الباب أمام إمكان تشكيل لجنة تحقيق دولية، على اعتبار أنها ستقوم بالتحقيق بنفسها، فأعلنت تأليف لجنة برئاسة رئيس محكمة العدل العليا الإسرائيلية القاضي مئير شمغار، وعضوية كل من القانوني إليعيزر غولدبرغ والقاضي العربي عبد الرحمن الزعبي والبروفسور مناحم يعاري والجنرال المتقاعد موشيه ليفي. ويلاحَظ أن اللجنة ضمت عربياً وآخر ممثلاً عن جمعيات حقوق الإنسان، وذلك لتجميل وجهها وإضفاء صدقية على قراراتها. فبدأت اللجنة عملها في 23/3/1994، بعد أن قام رئيس اللجنة شمغار بتعيين عدد من رجال الأمن للتحقيق في الأحداث. كما حاولت الحكومة الإسرائيلية جاهدة إثبات أن المذبحة تمت على يد فرد واحد، وهي عمل فردي، واعتقلت بعض أعضاء حركة كاخ العنصرية الذين امتدحوا المذبحة، وحظرت هذه الحركة.

ويمكن تلخيص قرارات لجنة شمغار وتوصياتها بما يلي:

  1. عملت اللجنة جاهدة على إثبات أن غولدشتاين عمل لوحده، ولم يعلم بخطته أحد حتى زوجته، ولم يشاركه لا في التخطيط ولا في التنفيذ أي أحد، كما تمت تبرئة جنود حراسة الحرم الإبراهيمي من أي مسؤولية عما جرى، إذ لم يثبت تواطؤهم معه أو مساعدتهم له أو علمهم بما دبره. وقد أدى فحص آلة الكشف عن المعادن، التي يمر عبرها المصلون، إلى اكتشاف أنها معطلة. وتوصلت اللجنة إلى أن آلية تفتيش المسلمين تعاني جراء عطل فادح، وخصوصاً في ظل تهديد حركة "حماس" بالقيام بعمليات عسكرية في الخليل. وبالتالي كان الخلل مضاعفاً ويتشكل من عدم تفتيش كل المصلين الذين وصلوا صبيحة يوم المذبحة من جهة، وعدم وجود كاميرات مراقبة من جهة أُخرى. وكان من الجدير التعامل أمنياً مع هذا المكان الحساس تماماً مثل المطارات.[7] والنقد الأساسي الذي وُجه إلى قوات الأمن يتمثل في عدم كفاية التنسيق بين الأذرع الأمنية المتعددة: الجيش وحرس الحدود والشرطة.
  2. كان إغلاق بوابات الحرم، ولا سيما البوابة الشرقية من أفراد الجيش ضرورياً لحماية أنفسهم من الجموع الهائجة التي يمكن أن تتدفق عبر البوابة.[8] وهذا الإغلاق لم يستمر طويلاً، فحين أدرك الجنود فداحة الموقف، قاموا بفتح الأبواب لنقل الجرحى، وبالتالي لم يتسبب موقف الجنود بتأخير نقل الجرحى إلى المستشفيات. كذلك تم وبكلمات قاسية رد ادعاءات الأطباء المصريين والفرنسيين، الذين قاموا بفحص الجرحى لاحقاً وقاموا بكتابة تقرير عن ذلك، وقد ورد في تقرير شمغار بشأن ذلك ما نصه:  “The conclusions of the French and Egyptian doctors are not worthy of their authors, since they were based on superficial examinations which appear clearly biased [this issue is elaborated in chapter 2.5, sections 17 & 18].”
  3. بناء على المذبحة توصي اللجنة بعدم السماح بإدخال أسلحة داخل الحرم الابراهيمي، إلاّ لقوات الأمن الإسرائيلية المكلفة حراسة الموقع.
  4. إن وجود بعض القاعات (الإسحقية على سبيل المثال) التي يمكن أن يلتقي فيها اليهود والمسلمين في الوقت نفسه، كان يؤدي إلى احتكاك غير ضروري، علاوة على ادعاد كل طرف أن الطرف الآخر يزعجه في أثناء الصلاة.
  5. توصي اللجنة بتقسيم الحرم الإبراهيمي بشكل صارم بين الطرفين، لمنع أي احتكاك مستقبلي. كذلك توصي بتعيين باب لكل طرف، على أن يتم وضع الأجهزة الضرورية للكشف عن المعادن، وتركيب أجهزة مراقبة إلكترونية لمراقبة كل الحرم. وبناء على تقديرات القائد العسكري للموقع، فإنه يستطيع منع أشخاص معينين من دخول الحرم في وقت محدد.
  6. يمكن تقسيم الحرم إمّا زمانياً وإمّا مكانياً، مع أخذ كل الإجراءات الضرورية لمنع وصول كل طرف إلى موقع الطرف الآخر.
  7. نشر عدد ملائم من قوات الأمن المدربة تدريباً خاصاً للتعامل مع الأماكن المقدسة.

ليس المجال هنا لتحليل تقرير شمغار، لكن القضية الأساسية التي يمكن استنتاجها منه هو معاقبة الضحية، والتوصية بتقسيم الحرم الإبراهيمي، التي قام بتنفيذها الجيش الإسرائيلي بتوجيه من حكومته وبالتراضي مع المستوطنين. والنتيجة الختامية هي تحويل أكثر من نصف المبنى إلى كنيس يهودي بشكل تام، وعلى مدار العام، وفي كل ساعات النهار والليل، في حين بقي للمسلمين أقل من النصف، وفي أوقات الصلوات فقط، على ألاّ يدخلوا الحرم الإبراهيمي خلال الأعياد والمناسبات اليهودية، والتي قد يصل عددها إلى أكثر من ثلاثين يوماً في السنة. وفي تلك الأيام يصبح الحرم الإبراهيمي في مجمله كنيساً يهودياً. وفي الحقيقة حصل المسلمون على الحضرة الإسحقية (حيث المنبر والمحراب) وإطلالة على الحضرة الإبراهيمية وكذلك الجاولية. أمّا الحضرة اليعقوبية والحضرة اليوسفية والساحة السماوية والمكتبة وملحقات أُخرى، فقد ضُمت إلى السيطرة اليهودية.

http://www.alhaya.ps/files/image/hebron-ibrahimi-mousqe.jpg

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]  انظر نص بروتوكول الخليل على الرابط:   http://www.wafainfo.ps/atemplate.aspx?id=4900، كما يمكن مراجعة نص البروتوكول في "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 30 (ربيع 1997)، ص 167 وما بعدها.

[2]   انظر نص بروتوكول الوجود الدولي الموقت على الرابط:

http://www.tiph.org/?module=Articles&action=Article.publicOpen&id=1678    

[3]  عن لجنة إعمار الخليل ونشاطاتها وإنجازها، يمكن العودة إلى صفحتها الإلكترونية على الرابط:

    http://hebronrc.ps/index.php/ar/about-hrc-a

[4]  هناك العديد من الأفلام الوثائقية عن المذبحة، يمكن مشاهدتها على اليوتيوب، على سبيل المثال فيلم القناة الإسرائيلية العاشرة على الرابط: http://archive.adl.org/extremism/jdl_chron.html، وكذلك فيلم قناة الجزيرة

    https://www.youtube.com/watch?v=Z6Gez5I959k

[5]   بشأن عقيدة هذه العصبة وأهدافها انظر الرابط:  http://archive.adl.org/extremism/jdl_chron.html (تم الولوج إليه بتاريخ 27/2/2016) علماً بأن لها فروعاً في كل من كندا وألمانيا والمملكة المتحدة.

[6]   قُتل الفاشي مئير كهانا سنة 1990 على يد السيد نصير في نيويورك.

[7]  لا يوجد ذكر عن تفتيش اليهود، وفي الحقيقة لم يتم تفتيش اليهود قبل دخولهم إلى الحرم الشريف، وبالتالي كيف لآلة لا تستعمل إلاّ على المسلمين أن تكشف سلاح غولدشتاين، إذا لم يفتش أصلاً. وكيف يمكن تهريب سلاح بحجم م 16 من دون أن يراه الجنود؟ كما أن كل الموضوع ليس مهماً ليتم فحصه بدقة، لأن التعليمات لدى قوات الأمن الإسرائيلية تقضي بالسماح للجنود ولمستوطني كريات أربع وباقي مستوطني الخليل وأي يهودي آخر دخول الحرم الإبراهيمي بأسلحتهم. لذلك تركز بحث اللجنة على إمكان أن يدخل فلسطيني بسلاحه داخل الحرم، كأن الذي نفذ الهجوم هو فلسطيني.

[8]    كيف عرف الجنود حقيقة ما جرى داخل الحرم.

عن المؤلف: 

نظمي الجعبة: أستاذ التاريخ في جامعة بير زيت.