يعيدنا إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام إلى أول العمل السياسي والنضالي، فهذا الإضراب الذي يقوده المناضل مروان البرغوثي، يجري في ظرف سياسي بالغ الصعوبة والتعقيد على المستويين الفلسطيني والعربي.
فعلى المستوى الفلسطيني يبدو الإضراب خارج معادلة الثنائية السلطوية التي تتحكم بالحياة السياسية الفلسطينية منذ عشر سنوات. فالحقل السياسي الفلسطيني الذي تهيمن عليه فتح وحماس، يبدو وبنسب متفاوتة، غير معني بتوفير الحاضنة السياسية والاجتماعية للإضراب. لا نستطيع القول أن هذا الإضراب الذي يواجه فيه الاسرى عسف سلطات الاحتلال هو أيضاً ضد الانقسام والتشرذم وانعدام الرؤيا في المركّب السياسي الفلسطيني المنقسم وشبه المشلول، لكنه اشارة واضحة إلى أن هذا الشلل، لم يعد مقبولاً، وإلى أن القيادة الأسيرة تتصدى لملء فراغ سياسي بات قاتلاً.
وعلى المستوى العربي، فإن نفاق بعض مؤيدي الإضراب لا يختلف كثيراً عن نفاق اللامبالين. فالمشرق العربي مليء بالسجناء السياسيين الذين اختفوا أو قتلوا تحت التعذيب. ورقم السجناء السياسيين في سجون الأنظمة العربية يبعث على الرهبة والخوف. من هنا، فإننا لا نشهد أي ضغط حقيقي على الأنظمة غير المبالية، كي تتبنى في المحافل السياسية والدبلوماسية قضية الأسرى الفلسطينيين.
هذا الواقع الفلسطيني والعربي ليس غائباً عن وعي القيادة الأسيرة التي قررت الاضراب، فهذا القرار يستكمل قرار إطلاق الرصاصة الأولى عام 1965، التي أعلنت ولادة حركة المقاومة الفلسطينية. يومها واجهت الطليعة الثورية الفلسطينية موقفاً عربياً معادياً، رأى فيها خروجاً على الاجماع العربي، كما واجهت عزلة فلسطينية داخلية، حيث كان المناخ الفلسطيني العام ناصرياً، ورافضاً لتجاوز قيادة ناصر لمشروع التحرير الذي لم يكن الزعيم المصري يمتلكه أصلاً.
أعرف أن التاريخ لا يكرر نفسه، وأن الظروف الحالية تختلف جذرياً عن الظروف الماضية، كما أن هذا الاضراب تجب قراءته في سياق تراكم نضالي مستمر، لكنني أعرف أيضاً أن الواقع السياسي يسمح لنا بالاشارة إلى سببين يجعلان من هذه القراءة ممكنة: السبب الأول هو ضرورة ولادة قيادة سياسية جديدة بعد إفلاس القيادة السائدة. ففي عام 1965 كانت القيادة الفلسطينية التي انتجتها جامعة الدول العربية مترهلة وعاجزة. لم يكن من المنطقي انتظار شيء من قيادة مرتهنة القرار، حتى ولو كان صاحب القرار هو مصر الناصرية. نحن اليوم في وضع مشابه. السلطتان الفلسطينيتان في رام الله وغزة عاجزتان وغارقتان في صراع عبثي بينهما، بينما يقوم الاحتلال الإسرائيلي بابتلاع الأرض وتثبيت أركان الاحتلال في الضفة والقدس، كما يتابع حصاره المطلق لغيتو غزة. لا شيء يؤشر إلى أن هناك أي امكانية على الاطلاق للخروح من مأزق انهيار أوسلو على أيدي من صنعه، أو لقيام التيار الإخواني بإحداث تحول جذري في بنيته ورؤيته السياسية تسمح له بقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية.
السبب الثاني والذي لا يقل أهمية عن السبب السابق، هو ضياع القرار الوطني المستقل الذي دفع الفلسطينيون ثمنه غالياً، وذلك بحكم ارتهان السلطة المطلق للمانحين الدوليين من جهة، وتحوّل فلسطين المحتلة إلى ساحة للصراعات الدولية والاقليمية من جهة ثانية. لقد صار القرار الفلسطيني أسير قوى خارجية تتلاعب به وتهمشه وتخضعه لأولويات لا علاقة لها بالمشروع الوطني.
كان الإصرار على القرار الوطني المستقل هو لخدمة فكرة واحدة، هي مقاومة الاحتلال، وجعل هذه المقاومة أولوية مطلقة. انه شعار لا يهدف إلى فصل النضال الفلسطيني عن مداه العربي، بل يقوم بفصل هذا النضال عن الأنظمة العربية التي تاجرت به، ويربطه بأفق الحرية في المنطقة العربية.
القرار المستقل هو قرار الاستمرار في الصمود ومواجهة المحتل، وهذا ما يعرفه الأسرى، في معاناتهم اليومية.
يحمل هذا الإضراب، الذي يدخل اليوم أسبوعه الثاني، اشارة العودة إلى القرار المستقل، لذلك فإن القوى الحية في المجتمع الفلسطيني، في فلسطين والشتات، مدعوة إلى الالتفاف حوله، وقراءته بصفته بداية ممكنة للخروج من حالة الغيبوبة السياسية الشاملة، التي تكاد أن تطيح بمعنى القضية الفلسطينية.
هذان السببان يعطيان هذا الاضراب أهميته الكبرى، لذا سوف تعمل سلطات الاحتلال على كسره ومحاصرته ومنعه من التحول إلى تيار جماهيري كبير.
ما يجري داخل السجون الإسرائيلية هو صورة مصغرة لما يجري في فلسطين كلها. فلسطين كلها في الأسر اليوم، وما الحرية الشكلية التي يتمتع بها من هم خارج السجن سوى وهم. شعب دخل حوالي 750 ألف مواطن من أبنائه وبناته في السجون منذ احتلال الخامس من حزيران/ يونيو، يعرف جيداً أن سجنه الحقيقي هو الاحتلال، ويعرف معنى الحرية الغائبة ليس عن فلسطين المحتلة وحدها، بل عن العالم العربي بأسره.
إضراب الأسرى الفلسطينيين يجب أن يُقرأ أيضاً بصفته اشارة إلى واقع عربي عام، فهذا الإنهيار الذي صنعه الاستبداد، وهذه السجون العربية المليئة بأنين المعتقلين والمخطوفين الذين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب، هي التي تغطي وحشية السجّأن الاسرائيلي، وتسمح له بأن يتمادى في مشروعه لمحو الوجود الفلسطيني وإذلال العالم العربي.
صرخة الأسرى الفلسطينيين هي صرخة كل السجناء العرب الذين يصنعون اليوم حريتهم بالصمود والنضال، ولعل رمزية القرار الوطني الفلسطيني تكمن هنا، أسرى فلسطين يصرخون اليوم باسم كل المضطهدين في هذا العالم العربي الذي يحتله البؤس، ويفقد استقلاله، وتتحول أرضه إلى كرة تتقاذفها الأقدام.