رسالة إلى محمود درويش
التاريخ:
23/03/2016
أخي محمود:
لا أدري كيف أحكي معك في هذا الحفل الذي اجتمع لتكريم ثلاثة أدباء، مانحاً إياهم صفة اسمك الذي صار مرادفاً للشعر بصفته لغة القلب، ولفلسطين بصفتها قلب المآسي التي تنزف في مشرقنا العربي.
أريد أن أقول لك ما تعرفه، وما اكتشفناه ونحن ننحني على موتك. غيابك لم يكن سوى تأكيد لحضور كلماتك فينا. فهذا الشعر الذي كتبتَه، ولا تزال تكتبه في وعينا، صار ماء تغسل كلماته جراحنا في القدس والشام وبيروت.
كلمات مصنوعة من الألم تغسل الألم، وشعر مكتوب على حافة الموت ينبض بحياة حوّلت الموت إلى أحد أسمائها.
الموت يا صاحبي مجرد استعارة أدبية، أو لنقل إنه شكل آخر للحياة، لذا كنا، ونحن ننحني على موتك، نرى صورتنا في ماء الكلمات، ندخل في مرايا الضوء ونتجدد بالكلمات ونجددها، نستعيرها ونكتشف في معانيها كيف تولد المعاني وترسم لنا أفق الألم المسيّج بالحب واحتمالات الحياة.
عندما أقرأ موتك اليوم في سجل هذا الموت العربي الرهيب الذي يحاصرنا، يزداد إعجابي بذكائك، فقد عرفت أن تختار موعد موتك. وسأبوح لك بسر لا شك في أنك تعرفه، وهو أننا شعرنا بالغيرة من دقّتك في تحديد موعد الغياب. شعرنا نحن الأحياء بأننا نغار من الموتى الذين مضوا قبل أن يفترسنا هذا الشعور بالخيبة هناك في فلسطين المتروكة لمصيرها في قبضة الوحش الإسرائيلي، وهنا في المشرق العربي.
غير أن حيلة الموت لم تُعفك من عبء الحياة، فصار شعرك «طوقاً لحمام» دمشق الذي يهدل في قلوبنا، ورفيقاً لروح المقاومة والتحدي التي تصنع من الهبّة الفلسطينية نذيراً وبشيراً بأن فكرة فلسطين أكبر من أن يدجّنها الخوف، أو اليأس، أو الاستسلام للحظة الانحطاط التي تجتاحها.
جائزتك يا صديقي ليست، بالنسبة إليّ، سوى تأكيدٍ لموعدنا الدائم مع فلسطين.
«بيروت من ذهب ومن تعب وأندلس وشام».
هكذا وصفتَ بيروت قبل أن تصنع لها «ذاكرة للنسيان»، وتمضي إلى «حضرة الغياب». وأنا أخاطبك من بيروت وقد صار الذهب تعباً، وتحولت الشام إلى أندلس لخرائب الروح، كي أقول لك ما سبق أن قلتَه لنا، بأننا، ولأننا أبناء سيدة الأرض، نحب الحياة ونستطيع إليها سبيلاً.
أيتها الصديقات والأصدقاء
سمحت لنفسي بأن تكون كلمتي رسالة إلى محمود درويش، ومنه إليّ وإليكم، كي أؤكد الوعد الذي قطعته على نفسي بأن يكون موعدي مع فلسطين هو موعد المواعيد. فمعكم، مع الأسرى الذين يصنعون حريتنا، ومع المناضلات والمناضلين الذين تُهدم بيوتهم لأنهم صرخوا بوجعهم إلى الحرية، تتجدد معاني الحياة.
فلسطين هي اليوم اسم الحرية في العالم؛ نضالها على جميع المستويات هو الرجاء بأن يكون لنا رجاء، ومهمة الأجيال الفلسطينية الجديدة التي تنزع عنها الخمول والاستسلام والفساد، هي أن تعيد تأسيس فكرة فلسطين كي تكون مرادفاً للحرية والعدالة في عالم اليوم الذي يستسلم لغواية التعصب والعنصرية.
من هنا تكمن أهمية الثقافة كوعاء لإنتاج معاني الحرية وتجديدها، وتسليم الراية من جيل إلى جيل.
وفي النهاية، ومع شكري للجنة التحكيم التي شرّفتني بهذه الجائزة، فإنني أتنازل عن القيمة المادية للجائزة لمصلحة مدرسة البيروني الثانوية في الجديدة – المكر، في القرية التي أقام فيها الشاعر بعد عودته مع أفراد عائلته من لجوئهم القسري إلى لبنان، واكتشافهم أن قريتهم البروة جُرفت، وأنهم صاروا حاضرين – غائبين في وطنهم، على أن يخصص المبلغ لمنح جائزة سنوية قيمتها ألف وخمسمئة دولار لطالب متفوق في اللغة العربية وآدابها. وإني أشكر الأستاذ أحمد درويش الذي كان صلة الوصل مع مدير المدرسة الأستاذ قيصر أنطون الذي وافق مشكوراً على اقتراحي هذا.
لطلاب الجديدة وكل قرى الجليل الباقية والمدمرة أهدي تحية حب، على أمل بأن نفتح معاً نافذة الحرية، ونقتحم باب الشمس.
وشكراً.
أيتها الصديقات والأصدقاء
بلغني مساء أمس أن مدير مدرسة البيروني الثانوية في الجديدة أُبلغ من قبل من وزارة المعارف الإسرائيلية رفضها السماح له بقبول هذه الجائزة، وهذا يشير إلى المدى التمييزي والعنصري الذي بلغته دولة الاحتلال في تعاملها مع الفلسطينيات والفلسطينيين الذين صمدوا في وطنهم.
لذا قررت التبرع بالقيمة المادية للجائزة إلى جامعة بيرزيت، هذا الصرح الوطني الكبير الذي هو مركز لإنتاج المعرفة ومدرسة للعمل الوطني المقاوِم.
كلمتي في حفل توزيع جائزة محمود درويش للإبداع الذي أقيم في السادسة من مساء الأحد 20 آذار- مارس 2016، في قاعة الجليل في متحف محمود درويش، في رام الله. وأود أن أشكر الروائي الصديق أكرم مسلم الذي تسلّم الجائزة عني، وقرأ المقطع الأخير من هذا النص، الذي لم يتسنَّ لنا تسجيله على شريط الفيديو الذي بُث في الحفل.