عمدت إسرائيل إلى تصعيد استهدافاتها بشكل أكثر شخصنة تجاه أبرز قادة حركة مقاطعة إسرائيل "بي دي اس" عمر البرغوثي[1]، وذلك عبر سياسة تشويه السمعة، الأمر الذي أكده ردّ حركة المقاطعة على الاستجواب اليومي للبرغوثي منذ يوم الأحد 19 آذار/مارس ومنعه من السفر على خلفية اتهامه بـ"تهرب ضريبي" ونشر إسرائيلي علني لقيمة أمواله المزعومة[2].
تدور هذه المعركة أيضاً في حيّز السمعة والأخلاق، وهو المكان الذي تجد فيه إسرائيل نفسها ضعيفة للغاية فيما تجد حركة مقاطعة إسرائيل نفسها في غاية القوة وتستثمر هذا الجانب الأخلاقي في معركتها المتصاعدة مع إسرائيل عالمياً من أجل عزل الأخيرة أخلاقياً إلى جانب عزلها اقتصادياً وسياسياً.
وربما تكمن خطورة هذه السياسة في وقت تتزايد فيه وسائل الإعلام والبروباغاندا التي تبنى على مشاعر مزعومة وضعف في الحقائق. لكن الذي يضاعف من خطورة هذه السياسة هو أن إسرائيل لها باع أيضاً في استهداف خصومها الفلسطينيين عبر القوانين الإسرائيلية داخل الخط الأخضر. في هذا الإطار، انتظرت إسرائيل مناضلين فلسطينيين في أراضي العام 1948 كي يثبت عليهم خرق لقانون إسرائيلي، مثلاً عبر كشف تمويل يخالف القوانين الإسرائيلية، فتستهدفهم إسرائيل قانونياً بدلاً من استهدافهم بشكل سياسي مباشر. ويسهل من هذه المهمة الإسرائيلية وجود العديد من القوانين الإسرائيلية التمييزية بحق الفلسطينيين ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية.
تصاعد الإجراءات الإسرائيلية ضد حركة المقاطعة
طالت السياسات الإسرائيلية سابقاً ناشطين في حركة المقاطعة مثل استهداف ناشطين في حملة "أوقفوا الجدار" (وهي حملة مؤسِّسة في حركة المقاطعة) في العام 2009، وذلك على خلفية اتهامات بتحويل أموال من مصادر تعدّها إسرائيل عدوة (جرى إغلاق القضية حينها)، أو بسبب التأثير في رأي حكومات غربية لتبني إجراءات مقاطعة. ولكن القمع الإسرائيلي لجأ إلى الاعتقال الإداري بحق ناشطين في أراضي العام 1967 وفي ظل عدم وجود قوانين إسرائيلية ضد المقاطعة حينها[3].
كان هناك تجاهل، نسبي، لحركة المقاطعة "بي دي اس" إلى أن بدأت مبادرات المقاطعة تتزايد حول العالم ويظهر تأثيرها جلياً. لم تتجاهل إسرائيل المقاطعة كمبدأ أو فعل منذ البداية، فقد انسحبت من مؤتمر الأمم المتحدة في دوربان في جنوب أفريقيا في العام 2001، والذي درات فيه جدالات بشأن فرض عقوبات على إسرائيل، ثم تبنت المنظمات المدنية في دوربان حينها بياناً يدعو إلى المماهاة بين الحالة الفلسطينية والجنوب أفريقية. كما أنها خشيت من مبادرات المقاطعة الفلسطينية في الفترة الأولى من الانتفاضة الثانية. لكن المبادرات الفلسطينية هدأت مع تطورات الانتفاضة. كما لم يكن هناك حركة عالمية منظمة للمقاطعة وفرض العقوبات آنذاك، والتي تشكلت في العام 2005 من خلال تحالف واسع للأجسام الفلسطينية المدنية والنقابية والسياسية.
كانت هناك بعض المراكز الصهيونية التي تنشط ضد ناشطي المقاطعة مثل عصبة مناهضة التشهير (Anti-Defamation League) التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها. كانت العصبة هذه تزعم مثلاً وجود صلات "إرهابية" مع منظمات مدنية فلسطينية. لكن هذه المحاولات فشلت في الحدّ من تزايد المقاطعة أو نظرة حكومات غربية تجاه منظمات مدنية فلسطينية. أو أن هذه المحاولات الصهيونية المتفرقة هنا وهناك حدّت موضعياً وبشكل مؤقت من حملات مقاطعة مثلما حدث مثلاً في بلجيكا خلال الانتفاضة الثانية حيث توقفت حملة مقاطعة ناشئة بسبب ضغوط مراكز صهيونية.
ولكن المقاطعة بالإجمال بقيت تتسارع وتزايد تأثيرها بشكل عام وإن بين مدّ وجزر. على سبيل المثال، كان للمقاطعة تأثير على الصادرات الزراعية الإسرائيلية إلى أوروبا وتصفية أكبر شركة تصدير إسرائيلية زراعية (Agrexco) في العام 2011[4]، وذلك بعدما كانت لسنوات هدفاً مباشراً لناشطي المقاطعة في أوروبا وبتنسيق من قبل حركة مقاطعة إسرائيل "بي دي اس". في ذلك الوقت بدأت السياسة الإسرائيلية بالتنبه أكثر لحركة مقاطعة إسرائيل، وأقر الكنيست الإسرائيلي قانوناً في ذلك العام ضد المقاطعة (صادقت عليه المحكمة العليا العام 2015). وبدأت إسرائيل بتخصيص أموال من أجل سياسات البروباغاندا وتبييض صورة إسرائيل حول العالم ودعم فنانين مثلاً لتمثيل إسرائيل عالمياً. غير أن تزايد مقاطعة فنانين من العالم لإسرائيل والمبادرات الأكاديمية في الولايات المتحدة نفسها لمقاطعة إسرائيل يظهر أن سياسات البروباغاندا التي قادتها وزارة الخارجية الإسرائيلية لم تكن على قدر الطموح.
انتقلت "حرب" إسرائيل من وزارة الخارجية وتحذيرات وزارة المالية إلى مرحلة جديدة بتسليمها إلى وزارة الشؤون الاستراتيجية في العام 2013، وعدّ حركة المقاطعة خطراً استراتيجياً على إسرائيل بحسب مسؤولين أمنيين إسرائيليين بارزين. كما تزايد سن قوانين إسرائيلية ضد المقاطعة وكان آخرها في العام 2017 بمنع دخول ناشطين عالميين يؤيدون مقاطعة إسرائيل.
في توسع التكتيكات الإسرائيلية
بعدما تكرس الخطر الاستراتيجي لحركة المقاطعة بنظر إسرائيل، بدأت تتنوع السياسات لمحاربة الحركة. يجري استهداف ناشطين قد تربطهم صلات سياسية بتيارات فلسطينية تتبنى الكفاح المسلح أو تعدّ قريبة منها، كما أعلن رسمياً. في الواقع، هناك مثال رفع مركز العودة الفلسطيني (مقره لندن) قضية ضد مسؤول إسرائيلي قبل عامين بسبب تشويه سمعة المركز في الأمم المتحدة على اعتبار أن المركز برتبط بحركة "حماس" وذلك في دول الاتحاد الأوروبي التي عدّت حماس حركة إرهابية[5].
في العام السابق، كان واضحاً أن إسرائيل بدأت بشكل جدي استهداف ناشطين في حركة المقاطعة عبر التحقيق معهم مثلاً على المعابر، ومنع أنصار الحركة من الدخول عبر المطارات. ومن الواضح أن السياسة الإسرائيلية تستهدف تواصل هؤلاء الناشطين والناشطات مع داعمي حركة المقاطعة حول العالم، حيث ثمة زخم واضح للحركة في الأوساط الأكاديمية والطلابية والثقافية والفنية والشبابية وغيرهم في مناطق مختلفة من العالم مما جعل إسرائيل تعدّها خطراً استراتيجياً. وتسارع سعي إسرائيل مع حلفائها الأميركيين والبريطانيين والكنديين والأستراليين، من ضمن غيرهم، في السعي لسن قوانين ضد المقاطعة في هذه الدول. ويشعر ناشطو المقاطعة في الولايات المتحدة مثلاً بوهج هذه المساعي. وأطلقت حركة المقاطعة "بي دي اس" حملة مضادة تؤكد الحق بالمقاطعة نالت تأييداً من منظمات حقوق إنسان عالمية كما من دول أوروبية وغيرها.
في العام السابق، ظهرت تصريحات إسرائيلية رسمية توضح مدى استعداد إسرائيل للاستشراس في هذه الحرب. فقد أعلن يسرائيل كاتس وزير الاستخبارات والنقل والطاقة النووية النية لعمليات "تصفية مدنية" موجهة بحق قادة حركة المقاطعة، وذلك في مؤتمر نظمته صحيفة "يديعوت أحرونوت" في آذار/مارس العام الماضي. كما أعلن وزير الداخلية الإسرائيلية عن نيته سحب الإقامة من عمر البرغوثي.
وقد ترافقت الخطوة الأخيرة تجاه البرغوثي مع الإعلان عن بدء تكوين قاعدة معلومات عن إسرائيليين يدعمون حركة المقاطعة "بي دي اس". واللافت أن مثل هذا الاستهداف السياسي المباشر، كالذي يستهدف ناشطين إسرائيليين، قد أدانته حتى وزارة الخارجية الأميركية رغم أنها تعارض مقاطعة إسرائيل بشدة[6].
وقامت إسرائيل باستهداف عمر البرغوثي نفسه سياسياً عبر منع سفره العام الماضي. لكن تبريرها جاء سياسياً، وسرعان ما تراجعت بعد الضغوط المدنية العالمية التي زادت من رصيد الحركة الأخلاقي وبعد قرار من محكمة إسرائيلية[7]. فعلى سبيل المثال، قامت منظمات حقوق إنسان عالمية بإدانة الخطوة الإسرائيلية. فمثل هذا الاستهداف السياسي المباشر يعطي زخماً لأنصار حركة المقاطعة عالمياً ويوسع جمهورها. وكان البرغوثي قد علّق آنذاك بأنه كان حريصاً طوال حيازته على إقامة دائمة منذ أكثر من عشرين عاماً (متزوج الفلسطينية صفاء من أراضي العام 1948) على عدم إعطاء إسرائيل أي ذريعة قانونية لاستهدافه بما فيها عدم وجود مخالفات سير.[8]
اتهامات دائرة الضريبة الإسرائيلية للبرغوثي بعدم التصريح عن أموال في رام الله أو الولايات المتحدة، كما زعمت، يمكن استخدامه بشكل قانوني في محاولة ابتزاز للبرغوثي، أو منع سفره إن نجحت في ذلك. وردّت حركة المقاطعة بأن ذلك يأتي قبيل سفر البرغوثي إلى الولايات المتحدة لنيل جائزة حقوق إنسان إلى جانب رالف نادر، وبأن هذه الإجراءات لن تخيف البرغوثي أو تجعله يصمت. غير أن هذه التهمة لا تنال من سمعة البرغوثي، بل قد تقود إلى العكس من ناحية ردّ الفعل على سياسة قمعية إسرائيلية كما أن تجنب الضرائب الإسرائيلية – في حال صحت التهمة الإسرائيلية- يعدّ ضرباً من العصيان المدني، وهو أمر مارسه سابقاً الفلسطينيون في أراضي العام 1967.
غير أن الجديد هنا هو احتمال استهداف السمعة الشخصية لناشطي المقاطعة، كما اقترح بيان حركة المقاطعة حيث قامت وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية بإنشاء "وحدة تشويه"، معطوفاً على سياسات وتصريحات إسرائيلية باستهداف "أفراد" أو "تصفية مدنية" للقادة. وقد انكشف أمر مسؤول في السفارة الإسرائيلية في لندن باتباعه سياسة تشويه سمعة مناصري المقاطعة وفلسطين البريطانيين. فقد سربت الدولة الإسرائيلية لوسائل الإعلام بعد 24 ساعة من بدء التحقيق مع البرغوثي خبر امتلاك البرغوثي مبلغاً كبيراً. إنه الشق الثاني في المحاولة الإسرائيلية والذي يتمثل في النيل من سمعة ناشط بارز في حركة المقاطعة ومؤسس لها. فتبدو سياسة تشويه السمعة هدفاً جديداً ضمن تكتيكات التصفية المدنية. وقد شاركت وسائل الإعلام الإسرائيلية سريعاً في نقل الخبر من دون الاكتراث برأي البرغوثي أو حركة المقاطعة (مثلاً لم تعبأ جريدة "هارتس" برأي لحركة المقاطعة أو بنشر بيان حركة المقاطعة لاحقاً). وجاء ردّ الحركة بدعوة الإعلام الفلسطيني والعربي بعدم الوثوق بأخبار وسائل الإعلام الإسرائيلية.
لا يبدو أن هذه التكتيكات الإسرائيلية، حتى الآن، ستتسبب في أي خلخلة فعلية في حركة المقاطعة فيما يتعدى رضوض موضعية في أسوأ الاحتمالات. لكنها تنبئ بتصميم إسرائيل على استخدام كافة الوسائل اللاأخلاقية في حربها ضد حركة المقاطعة التي أول ما تستهدف الجانب اللاأخلاقي في السياسات والممارسات الإسرائيلية.
هوامش
[1] “Israel Arrests BDS Founder Omar Barghouti for Tax Evasion”, Haarez, 21 March 2017.
[2] أنظر رد حركة المقاطعة: اللجنة الوطنية للمقاطعة: إستدعاء عمر البرغوثي ومحاولة قمعه لن تثني حركة المقاطعة (BDS) عن مواصلة نشاطها، موقع الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية، 22 آذار 2017، على الرابط: http://www.pacbi.org/atemplate.php?id=626
[3] “Grassroots activist and human rights defender Jamal Juma’ arrested”, The Electronic Intifada, 21 December 2009.
[4] “September 26, 2011: Israeli government exporter Carmel-Agrexco forced into liquidation”, Corporate Watch, 2011.
[5] “Palestinian Return Centre sues Israel for defamation”, The Electronic Intifada, 20 July 2015.
[6] “U.S. Lauds Freedom of Expression in Response to Israeli Plan to Track pro-BDS Citizens”, Haaretz, 22 March 2017.
[7] عبد الرحمن أبو نحل، " الحرب الإسرائيلية ضد حركة المقاطع (BDS)"، مسارات، 18 تشرين الأول 2016.
[8] “Interview With BDS Co-Founder Omar Barghouti: Banned by Israel From Traveling, Threatened With Worse”, The intercept, 13 May 2016.