Can Israel Continue to Rule the Occupied Territories?
Keywords: 
الاراضي الفلسطينية المحتلة
اسرائيل
الانتفاضة 1987
Full text: 

إن الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت في كانون الأول/ ديسمبر 1987 ركزت انتباه المجتمع العالمي، خلال شهورها القليلة الأولى، على واقع حياة ما يقرب من 1,87 مليون فلسطيني يعيشون منذ عشرين عاماً في ظل الحكم الإسرائيلي. على أن هذا الانتباه قد تحول عنها بسبب الجهود الحالية للدبلوماسية الجولية في الشرق الأوسط، وخصوصاً جهود الولايات المتحدة الأميركية التي تحاول وضع صيغة للمفاوضات تقبل الحكومة الإسرائيلية الحالية بها. غير أن تلك المحاولات تبدو حتى الآن عقيمة، كما يبدو أنها تهدف إلى تحويل الانتباه عن القضايا الرئيسية وكسب الوقت. وعليه، فقد يكون من المواقف أن نعيد توجيه الاهتمام إلى بعض الوقائع التي تجري على الأرض. وأود أن أطرح، في هذا المقال القصير، ما أعتبره سؤالاً رئيسياً وهو: هل يمكن لإسرائيل الاستمرار في حكم الأراضي المحتلة؟

سأذهب في هذا المقال إلى أن زعزعة السيطرة الإسرائيلية على سكان الأراضي التي احتلت سنة 1967، بدأت مع قيام الانتفاضة، ولا تزال مستمرة، وسوف تستمر، وأنه إذا ظلت الأمور تسير في هذا الاتجاه فإنها ستؤدي إلى وضع تعجز إسرائيل فيه عن السيطرة. وحالياً، لا يأخذ العناد الإسرائيلي بعين الاعتبار إمكاناً له ما يبرره، وهو إمكان الوصول إلى هذه المرحلة. لكن، إذا حدث هذا فإن خيارات إسرائيل سوف تتقلص إلى حد يتعيّن فيه عليها أن تفضل القيام بالانسحاب بنفسها، على أن تفعل ذلك بإقناعها به أو إكراهها عليه.

ومع أننا لا نذهب هنا إلى أنه قد جرى الوصول إلى هذه المرحلة، فإنني الآن أكثر قناعة من أي وقت مضى بأن الأمور تسير في ذلك الاتجاه. وسوف أتناول بعض المؤشرات التي تدل على ذلك. والواقع أن المجال هنا لا يتسع لكل ما يمكن قوله. فنحن أمام نظام سيطرة بُني خلال عقدين من السنين وأخذ ينهار. ومن العسير شرح ذلك بأي تفصيل إلا في مقال أوسع. غير أنني سأحاول تقديم ما يكفي من الأمثلة والبراهين لتمكين القراء من التوصل إلى الاستنتاجات بأنفسهم.

إن جيشاً حسن التجهيز، كالجيش الإسرائيلي، يملك خيارات عسكرية حتى ضد السكان المدنيين. ففي الأول من نيسان/ أبريل 1988، وحين كان يتسحاق موردخاي قائداً للمنطقة الجنوبية، قال: "على سكان قطاع غزة أن يتذكروا أن جيش الدفاع الإسرائيلي لم يستخدم إلى الآن حتى عُشر قدراته القتالية والادارية في المنطقة." لكن، وفي الوقت ذاته، يدرك الجيش ما قاله شموئيل أراد قائد المشاة والمظلات، وهو "أنه لا يوجد حل أكيد للقلاقل الحالية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك لأن الشعب الإسرائيلي لا يسمح بذلك." وسواء أكان، أم لم يكن، هذا هو السبب الرئيسي الذي يمنع الجيش الإسرائيلي من اتخاذ "الإجراءات القاسية" التي كان رابين – في أوائل الانتفاضة – قد زعم أنها كفيلة بوضع حد للعنف خلال ثلاثة أيام (كما جاء في: Jerusalem Post, May 4, 1988)، فإنه لا يُتوقَّع أن تستطيع إسرائيل تحمل ما يفرضه الاستمرار إلى ما لا نهاية في الوضع الراهن، من أعباء مالية واعتبارات دولية. لكن إلى أي حد يصعب حكم الأراضي المحتلة الآن؟

بدأ الاحتلال سنة 1967 في إثر انتصار بدت معه إسرائيل أنها قوة عظمى في المنطقة. ومنذ اليوم الأول من الاحتلال، كان الوضع النفسي مهيأ لقبول الذين اعتُبروا الأقوى. لكن هذا الضعف النفسي لم يمنع الفلسطينيين من استخدام المقاطعة والإضرابات لإحباط الاحتلال، وجعل مهمة حكم السكان أمراً في غاية الصعوبة. وفي حين أن الفعاليات كانت تدعو إلى عدم التعاون مع الحاكم العسكري الجديد، فإن السياسة الإسرائيلية كانت موجهة إلى استمرار الحياة الطبيعية بفتح المخازن والمدارس والمصانع والمستشفيات، وغيرها من المؤسسات العامة (بالقوة). ولتحقيق هذا الغرض، خولت المادة 91 من الأمر العسكرية رقم 378 أيَّ قائد عسكري صلاحية إصدار أمر إلى صاحب أو مدير أي محل عام، بما في ذلك الدكاكين، بإبقائه مفتوحاً إذا اعتقد أنه أُقفل للمشاركة في الإضراب.

لكن اعتبار المشاركة في إضراب تجاري عام جرماً، لم يمنع السكان بالكلية من الإضراب. وعلى الرغم من أن الإضرابات لا تستمر عادة مدداً طويلة، فإن الأمر العسكري أتاح اختيار أي مشارك فيها، بصورة اعتباطية، وجعله عبرة لغيره.

وقد بقي ذلك الحظر سارياً، ولا يزال قانوناً للبلد. لكن في الأشهر الثمانية عشر الأخيرة عمّ الإضراب التجاري الجزئي الأراضي المحتلة كلها. ويتحول هذا الإضراب إلى إضراب كلي في الأيام التي تحددها القيادة الموحدة للانتفاضة. كذلك، فإن ساعات العمل تتغير وفقاً للتصريحات التي تحملها بلاغات تلك القيادة. على أن هذه الهزيمة لـ"القانون" الإسرائيلي لم تتم من دون معركة؛ وقد كسب الفلسطينيون هذه المعركة. ولم يصرح رابين بما صرح به في أول آذار/ مارس 1988 إلا بعد استخدام عدة أساليب إرهابية. قال: "كان من الخطأ أن نحاول إجبار المخازن على البقاء مفتوحة الأبواب... ولها الآن أن تغلقها إذا أرادت" (Jerusalem Post, March 2, 1988). وبعد ذلك (في 5 تموز/يوليو 1988، أي بعد سبعة أشهر من بداية الانتفاضة)، صرح رابين قائلاً: لقد تخلينا عن سياسة إقفال المخازن (Jerusalem Post, July 6, 1988). وكان هذا أول تحد للسلطة الإسرائيلية ظفر الفلسطينيون به بعد الانتفاضة، وأول زعزعة للسيطرة الإسرائيلية على حياة الفلسطينيين.

إن الأمر العسكري ذاته، الذي يخول القائد العسكري صلاحية إصدار أمر بفتح أي مخزن يعتقد أنه أقفل أبوابه مشاركة منه في إضراب تجاري، هو ذاته الذي يأمر مدير أي محل عام بالإقفال والبقاء مقفلاً خلال الفترة التي يحددها له. وتشمل المحلات العامة التي يشير الأمر إليها المدارس. لكن لم تكد السلطات العسكرية تخسر معركة المحلات حتى اختارت هدفاً آخر، فقررت أنه ما دام الفلسطينيون مستمرين في ثورتهم، فعليهم أن يعانوا التضييق عليهم. وعبّرعن هذا قائد إسرائيلي بقوله: "على سكان غزة أن يعلموا بأننا نحن – لا المنشورات – الذين نقرر متى تُعطَّل الحياة وكيف" (Jerusalem Post, May 6, 1989). وفي 3 شباط/فبراير 1988، أمر رابين بإغلاق جميع المدارس في الضفة الغربية إلى إشعار آخر.

وكان التبرير العلني الذي نشرته السلطات العسكرية الإسرائيلية لهذا الإجراء المتطرف، يستند إلى تلك الحجج الأمنية المألوفة التي طالما استخدمت في الماضي لتفسير حتى أشد أعمال الحظر الإسرائيلية سُخفاً. أما في الاجتماعات الخاصة التي كان يدعو إليها رئيس الإدارة المدنية في الضفة الغربية، فكان يقال بكل وضوح أن المدارس ستبقى مغلقة إلى أن تنتهي الانتفاضة، وأن هذا هو الثمن الذي يتوجب على السكان دفعه. وقال شايكه إيرز، رئيس الإدارة المدنية، لجماعة من أهل رام الله: "فكروا فيما سيقوله لكم أولادكم في المستقبل. كيف يمكنكم أن تبرروا حرمانهم من التعليم؟" ولا بد من أن نضيف أن هذا لم يكن هزلاً بل تهديداً بأنه ما دامت الانتفاضة مستمرة فسوف يعاقب أبناء الفلسطينيين بحرمانهم من التعليم. وأخيراً، وتحت وطأة الضغط، اضطرت إسرائيل إلى إلغاء الأمر، ولم تستأنف المدارس نشاطها قبل انتهاء الانتفاضة (وهو شرط السلطات الإسرائيلية) فحسب، بل اتبعت بالنسبة إلى ساعات عملها البرنامج الذي حددته القيادة الموحدة للانتفاضة. وعليه، فإن فتح المدارس والانتفاضة مستمرة، كان الهزيمة الثانية الكبيرة لإسرائيل.

وكانت ردة فعل السلطات الإسرائيلية على ثورة الضرائب التي أعلنتها القيادة الموحدة في شباط/فبراير 1989، أن بدأت توقف بعض الخدمات الرئيسية. وزعمت أن ما قامت به ضروري بسبب فقد الدخل. ومن المستحيل التأكد من صحة هذا الزعم لأنه منذ بداية الاحتلال بدأ الاشتباه في أن إسرائيل تجبي من الأراضي المحتلة أكثر مما تنفقه عليها. وفشلت جميع المحاولات لحمل سلطات الاحتلال على التقيد بالقوانين المحلية ونشر ميزانيتها (وفي 24 تسرين الثاني/ نوفمبر 1987، قام كاتب هذه السطور، بوصفه مدير مؤسسة "الحق"، بالكتابة إلى قائد المنطقة مطالباً بنسخة عن الميزانية وذلك استناداً إلى أن القانون الأردني يفرض على قائد المنطقة نشر الميزانية. غير أن الطلب لم يقبل). لكن، بغض النظر عن مدى الاعتبارات المالية الخالصة، فإن المحتل أوضح في أكثر من مناسبة أن الفلسطينيين لا يتمتعون، بوصفهم جماعة قومية، بحقوق ثابتة. وفي ضوء هذا، توقف دفع تعويضات الضمان الاجتماعي لمستحقيها من الفلسطينيين، وسُحبت امتيازات معينة من الفلسطينيين المشتركين في التأمين الطبي الحكومي، بما في ذلك الإحالة على المستشفيات الإسرائيلية. أما بالنسبة إلى خدمات الشرطة، فإنه يتعين على الفلسطينيين في المناطق التي تسيطر إسرائيل عليها "أن يحترقوا بنارهم. فسوف تندلع بينهم أعمال عنف لن نقوى على السيطرة عليها"، كما صرح بذلك نائب قائد الشرطة في منطقة يهودا في 13 آذار/مارس 1988 (Jerusalem Post, March 14, 1988).

لم يكن ما فعله رابين في الانتفاضة أول مرة يحاول فيها تطبيق سياسة الجزرة والعصا. لكن لا بد من أنه أدرك، هذه المرة، أن الجزرة كانت سقيمة بوجه خاص وغير مغذية. ثم أن تقاعس السلطات الإسرائيلية عن إنفاق دخل الضرائب على خدمات للسكان الذين أُخذ منهم ذلك الدخل، وفشلها بوجه عام – أو بالأحرى عدم رغبتها في أن تقوم بدور الحكومة المسؤولة في الأراضي المحتلة، أديا على مر السنين إلى اضطلاع هيئات محلية غير حكومية بالواجبات التي تقوم الحكومة بها عادة. وهكذا وقعت أعباء الإنعاش الاجتماعي، والتعليم، والصحة، والخدمات القانونية، على عاتق المنظمات الفلسطينية الخاصة التي تعاظم دورها في الانتفاضة. وعليه، فإن ما كان لدى رابين من جزر يقدمه لم يكن كثيراً. فلم يبق، إذاً، غير العصا التي لم تلبث أن صُنعت من مادة جديدة مركبة وصلبة بدلاً من الخشب الذي يسهل كسره، وذلك أن رابين أعلن في كانون الثاني/يناير 1988 سياسة "القوة والبأس والضربات". ووجه همّه الآن إلى النجاح في زرع الخوف في قلوب الفلسطينيين، طمعاً في إعادة حاجز الخوف.

كانت هذه السياسة، ولا تزال جوهر سياسة رابين لمعالجة الانتفاضة. وخلال الأشهر الاثنين والعشرين الماضية، جرى استخدام واحدة أو أكثر من الممارسات التالية لتحقيق ذلك الهدف، وهي: تكسير العظام بشكل تعسفي، وإطلاق النار بهدف القتل، والتوقيف من غير محاكمة، والتعذيب، والإبعاد، ونسف البيوت. لكن هذا كله فشل في تحقيق الهدف النفسي، وهو إعادة بناء حاجز الخوف. وعلى الرغم من الممارسات البالغة الوحشية التي تستخدم الآن، فإن الجيش الإسرائيلي عاجز عن تحقيق هدف إعادة السيطرة التي كان يتمتع بها قبل بدء الانتفاضة. لماذا يا ترى؟

أعتقد أن بين أسباب الفشل ما يلي:

1- مدى تأثير العقوبة الجماعية

إن الحكم الذي أصدرته محكمة العدل العليا الإسرائيلية في قضية بُرقا (محكمة العدل العليا، 698/85)، واعتبرت فيه أن هدم البيوت له ما يبرره، يقول:

"... إن هدف القانون [الذي يجيز هدم البيوت] هو إحداث تأثير رادع (محكمة العدل العليا، 126/83 – 37 (2) – 169، 173؛ محكمة العدل العليا، 434/70). ومن الطبيعي أن يصيب هذا التأثير لا الإرهابي نفسه بل مَنْ حوله، وبصورة أكيدة مَن يعيش معه من أفراد أسرته [وهنا إشارة إلى أحكام سابقة]. وعليه أن يعلم أن أعماله الإجرامية لن تضره هو وحده، بل قد تسبب أشد الألم لأسرته. ومن وجهة النظر هذه، لا تختلف العقوبة المشار إليها أعلاه، وهي هدم البيوت، عن العقوبة بسجن رب الأسرة أو سجن أب سيبقى أبناؤه الصغار بلا معيل. فهنا، أيضاً، يتأثر أفراد الأسرة. والحقيقة أنه سبق أن أقرت المحاكم مراراً في أحكامها أن على المستأنف أن يأخذ هذا بعين الاعتبار قبل أن يقترف جريمته، وأن يعلم أن أفراد أسرته سوف يضطرون إلى تحمل نتائج أعماله. هذا هو القانون بشأن عقوبة هدم البيت...". ورفضت المحكمة  قبول الادعاء أن هدم البيت عقوبة جماعية. وقال القاضي م. بن – درور: "إن لا أساس لدعوى المستأنفين بأن هدم البيت شكل من أشكال العقوبة الجماعية. إذ يرى المستأنفون أنه يجب معاقبة الإرهابيين والمجرمين أنفسهم، لكن هدم البيت يعاقِب أيضاً أفراد أسرهم الذين يُتركون بلا مأوى. ومن شأن هذا التأويل، إذا قبلناه، أن يجرد القانون المذكور أعلاه وما يشتمل عليه من أوامر من محتواه، وذلك بقصر العقاب على الإرهابي الذي يعيش وحده." وأضاف القاضي: "بالنسبة إلى القضية التي ننظر فيها، من الواضح أن الإرهابيين جاؤوا من بيوت معينة، وأن هذه البيوت من دون سواها هي التي توشك أن تهدم. وفي أية حال، فإن 'العقاب' لم يفرض على البيوت التي لا شأن لأصحابها فيما حدث، ومن الصعب علينا أن نفهم أصول الادعاء أننا هنا أمام قضية عقاب جماعي." هذا ما قالته المحكمة الإسرائيلية العليا سنة 1985.

وفي أيلول/سبتمبر 1989، لم يشعر وزير العدل الإسرائيلي بأية حاجة إلى إنكار ممارسة إسرائيل للعقوبة الجماعية. وصرح أنه ينبغي لإسرائيل أن تتخذ إجراءات استثنائية رادعة، تشمل العقوبة الجماعية في معالجتها للانتفاضة، لأن هذه "حرب ينبغي لإسرائيل كسبها (Jerusalem Post, September 26, 1989). وفي الوقت ذاته، تطرق الوزير دان مريدور إلى خلقية هذا السلوك، فقال إن قضية إسرائيل خلقية، ويجب ألا تحجم إسرائيل عن القيام بمهمتها (Ibid.).

إن مراجعة ممارسات إسرائيل، في السنتين الماضيتين، تبين بوضوح أن الجيش لم يُحجم. لكن على الرغم من إعلان وزير العدل أن العقوبة الجماعية صحيحة قانونياً وخلقياً، فإنها لم تثبت أنها قادرة على تحقيق الأهداف التي وجدت من أجلها. إذ لم تساعد إسرائيل في استعادة سيطرتها الكاملة.

وأحدثُ مثال للتوسع في استخدام الجيش للعقوبة الجماعية، ما حدث لبيت ساحور؛ فهناك ظهرت الأمور على حقيقتها. إذ صرح رابين أن على الجيش أن يلقن المدينة درساً يردع الآخرين عن الحذو حذوها في رفض دفع الضرائب. هذا، في حين أن المدينة مصممة على التمسك بموقفها المبدئي.

وقبل الانتفاضة، كانت العقوبة الجماعية تستخدم كثيراً ضد سكان المخيمات والقرى. ودائماً بهدف "تلقينهم درساً"، واستناداً على الدوام إلى أن اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب هي لغة القوة. واعتماداً على هذا المنطق، فليس هناك ضرر في أن يروا من هو صاحب القوة كلما خرج واحد من أهل المخيم أو القرية عن الحد. وقد تزايد استخدام العقوبة الجماعية تزايداً هائلاً، وأصبح أوسع نطاقاً مما كان عليه قبل الانتفاضة.

في ليلة 4 أيلول/سبتمبر 1989، أيقظ الجيش جميع الأُسر التي تقطن في مُجمعين للشقق على جانبي الشارع الرئيسي في رام الله قرب مركز البريد، وأمر الرجال من جميع الأعمال بالخروج من بيوتهم. وكانت الساعة عندئذ نحو التاسعة مساء. وطوال الساعات الثلاث التالية، تعرض هؤلاء الرجال لمختلف أشكال العقوبات والإهانات. وكانوا بحكم مواقع بيوتهم من أصحاب المهن والوظائف المدنية، وبينهم أحد أعضاء مجلس النواب الأردني. وخلال تلك الساعات الثلاث، وعلى مرأى من النساء اللواتي لم يسمح لهن بمغادرة البيوت، جرى صف بعض الرجال وسمعت النسوة قرقعة بنادق الجند، فشرعن في الصراخ والبكاء، بينما كان الجنود يضحكون ويقومون بألاعيب أخرى، ويبحثون عن أعمال مهيمنة يجبرون الرجال على القيام بها. وبعد منتصف الليل بقليل، أُطلقوا جميعاً. ولم يجر استجواب أي منهم. كما أن أياً منهم لم يعرف الغرض مما فعله الجنود.

لقد أدت أعمال الجيش الإسرائيلي التعسفية إلى الجمع بين مختلف قطاعات المجتمع الفلسطيني بصورة أقوى من أي وقت مضى. ولا بد من أن دان شومرون، رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، كان يدرك هذا عندما "رفض (في نيسان/أبريل 1988) سياسة القبضة القوية في المناطق المحتلة، قائلاً أن أعداداً كبيرة من المدنيين ستعاني من جراء ذلك. وأضاف قائلاً أن هذا سوف يعزز المقاومة الموحدة بين السكان، الأمر الذي سيتطلب إجراءات أقصى حتى من ذلك. وقال أيضاً: 'تذكروا أن لا مفر لنا من العيش مع هؤلاء الناس'" (Jerusalem Post, April 10, 1988). لكن يبدو أن شومرون لم يستند، في سياسته العملية، إلى هذا التحليل الصحيح. ذلك بأن أي فلسطيني، مسيحياً كان أومسلماً، غنياً أو فقيراً، ساكناً في مخيم أو في دارة كلفت مليون دولار، لا ينجو من العقاب الاعتباطي من الجنود الإسرائيليين الذين يستطيعون أن يقترفوا أية وحشية، وهم على يقين شبه تام من أنهم لن يحاسبوا. وما دام العقاب مؤكداً، سواء ثبت تورط المعاقَب في مقاومة الاحتلال أو لم يثبت تورطه، فإنه بذاته يصبح حافزاً للمظلوم على التعبير عن غضبه. وعليه، فإن العقوبة الجماعية أبعد ما تكون عن الردع، لأنها تثير أولئك الذين كانوا قبل العقوبة الجائرة قد اختاروا السلامة، وتُحولهم إلى معارضين؟

2- عامل الوفاة

في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1988، وفي إثر وفاة عشرات الفلسطينيين برصاص البلاستك، قال يتسحاق موردخاي، قائد المنطقة الجنوبية: "لقد وجد جيش الدفاع الإسرائيلي أن رصاص البلاستك فعال جداً. أنه يبعث في جنودنا الشعور بالأمن والثقة، ويُشعر المشاغبين بأننا حتى عن بعد مائة متر يمكننا تحييد الشخص المطلوب" (Jerusalem Post, November 30, 1988).

ولم يقلق تزايد الإصابات من جراء استخدام رصاص البلاستك بال رابين؛ إذ ذكرت Jerusalem Post، في 28 أيلول/سبتمبر 1988، "ان التزايد الحاد في عدد الإصابات بين المشاركين في التظاهرات العنيفة لم يثر قلقه، وأنه صرح أن 'هذا بعينه هو هدفنا'." وسبق أن قال رابين "إنه يجب أن تقع إصابات بين المشاغبين وأن يصابوا بجروح عند مواجهة الجنود، كما يجب أن يعلموا بأن الاشتباكات لا تنتهي بالقبض عليهم فقط" (Jerusalem Post, October 9, 1988).

ومع هذا، فإن استخدام رصاص البلاستك، كغيره من الإجراءات السابقة، لم ينجح كإجراء رادع. واستمرت التظاهرات. ثم أن الاستخدام التعسفي للذخيرة الحية، الذي سبب قتل عشرات آخرين من المدنيين الأبرياء، بمن فيهم من قتل داخل بيته، وأطفال لم تتعد أعمارهم ثلاثة أعوام ونصف العام، أدى إلى حدوث تغير نوعي مهم يناقض النتائج التي تطلعت السلطات العسكرية الإسرائيلية إليها. فبدلاً من أن تؤدي حوادث الوفاة إلى الردع، قللت من خوف الفلسطينيين من الموت، وزادت – في الظاهر – في التصميم العام على مواصلة المقاومة حتى النصر، مهما يبلغ الثمن.

وليس من المبالغة القول أن من الصعب العثور على فلسطيني بالغ في الأراضي المحتلة لم يمت له قريب أو صديق أو أحد معارفه منذ بداية الانتفاضة. وعندما كانت تندلع أعمال الثورة فيما مضى كان الجيش يوقف أعداداً كبيرة من الناس الذين يعذب بعضهم ثم يطلقهم، ويسجن آخرين منهم لمدد متفاوتة. كما كان يجري إبعاد زعماء المجتمع، وهدم بيوت بعضهم. غير أن عدد الذين دفعوا حياتهم ثمناً للمقاومة كان دائماً صغيراً نسبياً. على أن موت القريب أو الصديق أو أحد المعارف يحدث تغيراً نوعياً؛ إذ تفقد عندئذ مسألة التحلّي بمستوى أعلى من التسامح إزاء مضايقات الظالم أهميتها، ويصبح اللجوء إلى خيار إنهاء الكفاح معادلاً للخيانة. فالقريب أو الصديق أو أحد المعارف قدم حياته، ولا يمكن للأحياء أن يقدموا شيئاً يوازي تلك التضحية.

وحتى أولئك الذين قد يدعون إلى سياسة "اغفر وانْسِ" يجدون أنفسهم أمام ردة فعل طبيعية يتساءلون معها: ما البديل العملي المتوفر لنا، والذي يسمح لنا بممارسة أدنى قدر من حقوقنا؟ والجواب، كما هو واضح، أن لا بديل هناك.

 3- نزوع إسرائيل إلى القتل

ليست هذه أول مرة تتصف السياسة الإسرائيلية فيها بالإسراف في القتل، إلى حد قتل أمة بأسرها؛ ففي غزو لبنان شواهد كثيرة. وسواء نظرنا إلى إطلاق النار على المشتبه فيهم بعد تسليمهم أنفسهم، أو إلى الدورات حول البلدة بسيارة جيب وعلى مقدمها فلسطيني جريح تدلى رأسه ونزف دمه حتى الموت، أو إلى اقتحام البيوت والعبث بما فيها بلا سبب ظاهر – سواء نظرنا إلى هذا أو ذاك، نجد أن تصميم الجيش الإسرائيلي على كسب ما يصفه قادته بآخر "حروب" إسرائيل بلغ حداً كشف معه، مرة أخرى، عن تعطشه إلى القتل الذي أسرف فيه. على أنه تبين أن هذا أيضاً أتى بردة فعل عكسية.

لقد رفضت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية النظر في السياسات التي أدت إلى الانتفاضة، ظناً منها أنها تستطيع كسب الحرب الجديدة بالطريقة نفسها التي كسبت غيرها في الماضي، وذلك باستخدام تكنولوجيا أكثر تطوراً. وعليه، فلكي تتغلب على الحجارة اخترعت آلة تقذف مئات الحجارة معاً. وطبعاً، فإنها لم تأخذ بعين الاعتبار أن آلة مثل هذه قد تتعثر، وقد لا يسهل التنقل بها في الأزقة الصغيرة داخل مخيمات اللاجئين. وعليه، فإن قاذفة الحجارة لم تأت بالنصر للإسرائيليين الذين عمدوا إلى أساليب أخرى؛ فوضعوا جنودهم على سطوح البنايات العالية في الشوارع الرئيسية المزدحمة بالناس، وأمروهم بإطلاق رصاصهم المغلف بالمطاط على المتسوقين كلما اشتبهوا في وجود "قلاقل". لكن، في أكثر الحالات، كان الحركيون الفلسطينيون ينجحون في الفرار  بينما يصاب المستوقون من الجنسين ومن كل الأعمار. وكثيراً ما كان يلقى القبض على هؤلاء في أعقاب أي حادث. وكانت النتيجة أن آلاف المتفرجين، الذين لم يكن ليخطر ببالهم أن يصبحوا حركيين (أي من المشاركين في الاحتجاج)، قد أخذوا يشاركون بصورة أشد نتيجة تجاربهم المرة.

إن المجهول يخيف دائماً أكثر من المعلوم. ففي 29 آذار/مارس 1988، كشف رابين عن أنه "ألقي القبض على أكثر من ألف فلسطيني في الأسبوع الماضي" (Jerusalem Post, March 30, 1988). وخلال السنتين الماضيتين، كانت السياسة التي اتبعتها السطات العسكرية الإسرائيلية في إلقاء القبض على الناس وإساءة معاملتهم، واسعة النطاق وتعسفية، إلى حد أنه تم القبض في أوقات مختلفة على تسعين ألف فلسطيني. وإذا افترضنا أن كلاً من هؤلاء وصف ما حدث له لسبعة أشخاص على الأقل، فإننا نستطيع القول إنه لم يبق بين الكبار في الأراضي المحتلة من لم يسمع بإلقاء القبض على الناس وأساليب إرهابهم. وكان يمكن، طبعاً، أن يؤدي هذا إلى إرهاب الناس على نطاق واسع. لكن أكثرية الشواهد تشير إلى شيء آخر؛ فإذا كان الشخص عرضة لإلقاء القبض عليه، سواء عمل شيئاً أو لم يعمل شيئاً، فإنه يجد مبرراً للقيام بعمل يستحق فعلاً أن يحجز بسببه. ويبدو أن الإسرائيليين استخدموا خلال الاثنين والعشرين شهراً، لإرهاب الناس، أساليب كثيرة إلى حد أنهم كانوا يضطرون معه، وفي كل مرة، إلى تصعيد استخدامهم للقوة. فقبل الانتفاضة كان الناس إذا سمعوا سيارة جيب إسرائيلية تعلن منع التجول لا يلبثون في دقائق معدودة أن يستجيبوا للنداء، وأن يذهبوا إلى بيوتهم. لكن ما حدث في أول تشرين الثاني/نوفمبر 1989 كان مختلفاً. إذ جابت عدة سيارات جيب إسرائيلية الشوارع معلنة منع التجول، وأن على كل شخص أن يذهب إلى بيته. لكن بعد ساعات كان المارة لا يزالزن يسيرون في الشوارع.

وفي أعقاب حادث قرية بيت دعا أبراهام شارير، الذي كان عندئذ وزيراً للعدل، الحكومة إلى "هدم قرية بيتا ورد جميع المشاغبين من المناطق." وقد يبدو قوله هذا أنه ردة فعل مبالغ فيها ومتسرعة (وخصوصاً بالنظر إلى الوقائع التي أثبتتها لجان التحقيق). لكن لا بد من أن المستوطنين ودعاة ضم جميع الأراضي المحتلة إلى إسرائيل، كانوا دائماً يأملون بوقوع دير ياسي  أخرى؛ إذ ألم تكن تلك المذبحة عاملاً مهماً في خلق الخوف الذي حمل الكثيرين من الفلسطينيين على اعتزام الهرب، أو المجازفة بالذبح كما حدث لسكان دير ياسين على يد اليهود؟ ومن المؤكد أن كثيرين من المستوطنين اعتقدوا أن بضع مجازر مثل دير ياسين تكفي لإخلاء البلد. فهل قُدر لبيتا أن تكون دير ياسين الجديدة؟

لا، إنها لم تكن كذلك. فحتى المذبحة على غرار دير ياسين تثير اليوم ردة فعل مختلفة. ولم يفت الفلسطينيين أن يتعلموا من التاريخ. قال لي لاجىء من رام الله: "في سنة 1948، خسرنا جميع بيوتنا وأعمالنا. فبدأنا من الصفر، وبنينا أنفسنا مرة أخرى. ونحن الآن نملك بيوتاً ولدينا أعمال، ولن نذهب إلى أي مكان لنبدأ من جديد. نحن هنا لنبقى مهما تكن الأوضاع." وأعتقد أن هذا هو الشعور العام. وما أقل الذين لا يقولون أننا لن نعيد اقتراف الخطأ ذاته. ولهذا، فإن أشد التهديدات تطرفاً، والأمثلة المتوفرة لإسراف الإسرائيليين في القتل، وغارات المستوطنين، وتهديدات وزير العدل – هذه كلها لم تحمل أحداً من أهل بيتا على مغادرتها من تلقاء نفسه.

إن إمكان  اقتراف الفظائع على نطاق واسع يبقى قائماً، لكنه على ما يعتقد لا يلوح قريباً إلى الحد الذي يحمل أياً من السكان على المغادرة، حتى مع الافتراض أن خيار المغادرة مفتوح.

إن وزير الدفاع الذي أعلن سياسة الخوف ليس بأول من يعلم أنها غير مجدية؛ فبعد أن أعلنها رابين بعام، اعترف بأن "هدف جيش الدفاع الإسرائيلي لا يعدو إخماد الانتفاضة كما تخمد الشرطة الجريمة" (Jerusalem Post, February 1, 1989). وما كان هناك ما يضير وزير الدفاع لو أنه أضاف أن لا سبيل إلى إخماد الانتفاضة، وأنه يجب ألا يتوقع أحد ذلك.

إن سياسات رابين لم تفشل فشلاً ذريعاً في إخماد الانتفاضة فحسب، بل إنها أدت إلى المزيد من الثورة والعصيان.

وأحد المقاييس التي يمكن استخدامها في قياس الثورة والعصيان، هو امتثال السكان للأوامر العسكرية التي أصدرها الجيش الإسرائيلي.

منذ بداية الاحتلال، صدر 1280 أمراً عسكرياً. وباستثناء المعارك الطويلة المهمة ضد أوامر معينة (مثل المعركة ضد الضريبة على القيمة المضافة التي لم تنته بنجاح، والمعركة ضد الأمر 854 بشأن التعليم التي انتهت بنجاح)، أصبحت سائر القوانين جزءاً مقبولاً من قانون البلد، وأخذت المحاكم المحلية تصدر الأحكام وفقاً لها. لكن هذا كله تغير منذ بدء الانتفاضة. وسوف أضرب بعض الأمثلة:

1- كان من جراء التعديل الذي أُدخل على الأمر العسكري رقم 378، أن فرضت عقوبة تشمل الغرامة والسجن على صاحب أي جدار يطل على مكان عام ويوجد عليه أي نوع من الرسومات أو الكتابة. ولئلا يبقى أحد جاهلاً بـ"القانون" الجديد، قامت طوافات تابعة للجيش الإسرائيلي بإسقاط منشورات تشمل نصّ الأمر وتفسيره على المراكز السكانية. لكن الجدران بقيت تحمل الصور والكلمات، وكأن الأمر لم يصدر. فأخذ الجيش يذهب إلى البيوت بعد منتصف الليل ويأمر الذكور بالخروج منها، فإذا لم يجد ذكوراً أمر الإناث بالخروج في ثياب النوم، ثم أجبر الجميع على طمس الكتاب والأشكال بالدهان. لكن الكتابة كانت تعود إلى الجدران قبل نهاية اليوم التالي، ولا يقوم أحد من السكان بطمسها. فأخذ الجيش يلقي القبض على سكان البيوت التي تظهر الكتابة على جدرانها ويغرّمهم. ومع ذلك بقيت الكتابة. ومؤخراً – بعد أن أصبح الأمر قانوناً بعام ونصف العام – ذكر القسم العربي في التلفزة الإسرائيلية، في نشرته الإخبارية، القانون كما لو انه صدر عندئذ؛ وذلك في محاولة يائسة أخرى لحمل الناس على الخضوع له. لكن، غذا طُفتِ اليوم – أي بعد صدور الأمر بتسعة عشر شهراً – في المخيمات والقرى أو المدن في الأراضي المحتلة، يندر أن تجد جداراً بريئاً (أي بلا كتابة).

2- إن السيد الياس فريج، رئيس بلدية بيت لحم، ليس شخصاً متطرفاً ولا يعرف عنه أنه صاحب مواقف جريئة وطائشة. لكن حدث مؤخراً، ولدى عودته من زيارة قام بها للعالم العربي، أن صرح لوسائل الإعلام أنه اجتمع إلى ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية.

وكان هذا تحدياً واضحاً لقانون لا يمكن لأحد أن يتجاهله، معتبراً أنه قانون لا رغبة لإسرائيل في تطبيقه. فمن المعروف جيداً أنه سبق أن أمضى آلاف من الفلسطينيين فترة في السجن بتهمة الاجتماع إلى أعضاء في منظمة التحرير. ولا يزال هذا القانون نافذاً حتى في إسرائيل ذاتها. والآن يمضي آبي ناثان عقوبة بالسجن لمدة ستة أشهر بسبب تحديه الصريح له.

ومن الأمثلة للتحدي الصريح له، وعلى نطاق أوسع، قضية بيت ساحور حيث صرح جميع السكان أنهم يعتبرون الحكم العسكري غير شرعي، ويرفضون دفع أية ضرائب له.

3- على صعيد القانون المدني، أخذت السلطات العسكرية منذ بداية الانتفاضة تدخل تغييرات على القانون الأردني، وأخذت القيادة الموحدة للانتفاضة تصدر تشريعاتها الخاصة. واختار السكان اتباع تشريع القيادة الموحدة للانتفاضة. وعلى سبيل المثال، ما حدث مؤخراً عندما أقر الحكم العسكري تعديلاً لقانون المستأجر يلغي الحماية التي كان يتمتع بها. فأعلنت القيادة الموحدة أن التعديل باطل. ولم يتقيد أحد بالتبديل، ولم تقم المحاكم المحلية التي تعين السلطات العسكرية قضاتها بتطبيق التعديل في أية قضية.

وهناك أمثلة أخرى لنجاح تشريع القيادة الموحدة، مثل تغيير بدل الإيجار، وسعر صرف الدينار عندما بدأت تتدنى قيمته في الأسواق، ومثل بداية الصيف ونهايته.

ولا نريد بهذا أن ننكر السلطات السلبية الواسعة المخولة للجيش. ففي إمكانه أن يستخدم البندقية لإجبار الفلسطينيين على القيام بأي عمل. وهناك حالات موثقة أُجبر الفلسطينيون فيها على أكل العشب، والنباح كالكلاب، والنهيق كالحمير، والزحف على أيديهم وأرجلهم كالحيوانات، وترديد أغنيات في مدح لواء غولان في الجيش الإسرائيلي. ولا يزال في إمكان الجيش أن يقرر في أمور التصاريح كما فعل في 17 كانون الأول/ ديسمبر 1988، عملاًَ بالأمر العسكري 1262 الذي يوجب الحصول على أي من التصاريح الضرورية للسفر، وتسجيل المخازن والشركات، والاستيراد والتصدير، ووصل هاتف أو نقله، والحصول على رخصة سياقة، وتجديد رخصة السيارة... إلخ. وكل هذا يشترط وضع طابع  على طلب الرخصة يجري الحصول عليه من عشر دوائر. ويتوجب على مالك السيارة الذي يريد تجديد رخصتها أن يقوم مغتاظاً بتنفيذ أوامر الجيش، لكن من غير الخضوع لها.

لم يصل الفلسطينيون بعد إلى الحد الذي يتعذر فيه على إسرائيل حكم الفلسطينيين الذين يعيشون الآن في ظل الاحتلال. لكن حاجز الخوف قد كسر، وترسخت روح التحدي، ولم تنجح حتى الآن محاولات الجيش الوحشية لعكس هذا الاتجاه.

Author biography: 

رجا شحادة: محام - المدير المشار ك لمؤسسة الحق/ القانون من أجل الإنسان في الضفة الغربية.