Get Out of the "Kuwait Trap"!
Special Feature: 
Keywords: 
أزمة الخليج
الاجتياح العراقي للكويت
الانتفاضة 1987
Full text: 

 حتى اللحظة الأخيرة واظبتُ على اعتقادي أن حرب الخليج لن تقع. وشاء سوء طالعي أن يُنْشَرَ مقالي، في استبعاد وقوع الحرب، في صحف داخل بلادي وفي خارجها بعد أن وقعت الحرب فعلاً مساء اليوم السابع عشر من الشعر الأول في العقد الأخير من القرن العشرين.

وأرى إلى هذا التقويم – بما يرمز إليه من آمال في شأن "عالم الغد" – إنه أحد الأسباب الجوهرية التي دفعتني إلى خطأ التقدير ذلك. لقد انشغلتُ، وأمثالي، انشغالاً مشروعاً برد حملات "الأصوليين السياسيين" على عالم ما بعد الحرب الباردة – العالم الذي انتهى فيه قيام المعسكرين العالميين المتصارعين – حتى ضاع علينا واجب التنبه لما كدّسه أعداء حرية الإنسان في ترساناتهم من "خُردة" الحرب الباردة طوال الأعوام الطويلة على الحرب الباردة.

يقيناً أنني، وأمثالي، أدركنا منذ اليوم الأول لـ"أزمة الخليج" أنه "ما هكذا، يا سعد، تورد الإبل" في عالم ما بعد الحرب الباردة – لا من حيث هشاشة النظام العالمي الجديد، الذي لا يزال جنيناً في شهره الأول، ولا من حيث الوضع في العالم العربي الذي أوقفته ثورة "البيريسترويكا" الديمقراطية العالمية على "كف عفريت" مثلما لم يقف منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى. لقد أدركنا أن حجة "توزيع الثروة العربية على فقراء العرب" ليست "خِمار أسود" أُسدل على وجه بشع لإخفاء تحوله – من زمان – إلى جمجمة على هيكل عظمي. إن معركة "فقراء العرب" معركة قديمة جداً، وما خُلع سيِّد وقام مكانه سيد آخر، في أرض العرب، إلا وكان "فقراء العرب" علماَ برّاقاً من أعلام هذا التغيير: "فألغى المكوس وأطلق مَنْ في الحبوس" – مثلما جاء في "الف ليلة وليلة". ثم؟ ثم فرض مكوساً جديدة وزج في الحبوس نزلاء جدداً! وكُلٌّ، من اليمين ومن اليسار، وحلوله معه سوى الديمقراطية وحرية التعبير. إن خطأ الذين عادوا إلى هذه الحجة، في هذه الأزمة، هو وهمهم أن القول: "لا جديد تحت الشمس" ما زال صحيحاً، بينما جاء جديد على هذا العالم هذه المرة من شأنه أن يقلب العديد من الموازين رأساً على عقب، وأن يجعل سلّم الديمقراطية المدخل المأمون الوحيد لأي شعب من الشعوب إلى هذا العالم الجديد.

أدركنا أن عالمنا الواسع لم يعد قادراً على تحمل أية حرب من الحروب. فكيف بعالمنا العربي؟ هل يستطيع أن يتحمل أية "حرب بسماركية"؟! إن الخطأ الذي وقع بعض العرب فيه نابع، في اعتقادي، من وهمهم القدرة على إبقاء العالم العربي "مصوناً" دون الزلزال الذي يهز العالم كله الآن، إنْ بالوسائل التقليدية والأسلحة التقليدية أو بالوسائل غير التقليدية والأسلحة غير التقليدية. وقد لا يختلف هؤلاء الساسة والعرب عن زملائهم الساسة الأميركيين والأوروبيين الذين يوهمون أنفسهم، هم أيضاً، بأن ما حدث في أوروبا الشرقية لن يؤثر في أقطارهم وشعوبهم وأنظمتهم القائمة.

فيكون الخطأ، الذي وقعتُ وأمثالي فيه، نابعاً من عدم تنبهنا الكافي لهذا التماثل بين النقيضين ولأن النقيض هو من جنس نقيضه. وتتكشف هذه الحقيقة وتداعياتها الآن تكشفاً يثير الدهشة في بعض الأوساط ويثير الحيرة والقلق في أوساط أخرى. وتتبارى دول الغرب، كما نرى ونقرأ، على تحميل بعضها البعض المسؤولية عن إعداد المقاومة العراقية والآلة العسكرية العراقية. لم ننتبه، انتباهاً كافياً، لدرس "حرب الخليج" السابقة، الإيرانية – العراقية، وأن الغرب تبارى فيما بينه على مختلف الإجراءات الكفيلة بإطالة أمد هذه "الحرب التعيسة" السابقة من دون أن يكون له من هدف من وراء ذلك سوى استنزاف قوى البلدين المتحاربين وشعبيهما ومواردهما المادية والبشرية. أو، كما أعلن الجنرال الإسرائيلي رفائيل إيتان في ذلك الوقت: "بطيخ يكسّر بعضه"!

لم يعد سراً، الآن، قيام الأميركيين أنفسهم بجر القيادة العراقية إلى الشرك الكويتي. ونلاحظ – من موقعنا هنا – وجود رغبة محمومة لدى أوساط إسرائيلية وأميركيا حاكمة في زج الشعب العربي الفلسطيني أيضاً في هذا الشرك. وربما غيره أيضاً – الأردن، مثلاً. وذلك على اعتبار "قتل عصفورين بحجر واحد". وربما عصافير. وأجدني، وأمثالي، مشغولين في هذه الأيام – بكل ما أوتينا من صدق ومسؤولية – بالسعي لسل قضيتنا الفلسطينية من هذا الشرك المنصوب كما تُسل الشعرة من العجين.

يقيناً أننا بحاجة ماسة إلى شحذ أذهاننا لاستشفاف انعكاسات حرب الخليج  "الثانية" – الحالية – بعيدة المدى على المنطقة العربية وعلى الصراع العربي – الإسرائيلي. فليس من اللائق أن نترك هذا الأمر المصيري للأجانب من مستشرقين ومستعربين وحدهم. غير أن الأولى بنا، وكي لا نخطىء مرة ثانية، أن نعين انعكاساتها الحالية التي حدثت فعلاً و"قُضي الأمر" بشأنها حتى الآن.

              لقد قامت التلفزة الإسرائيلية باستنطاق عابري سبيل من أبناء شعبنا الفلسطيني في المناطق المحتلة، في الأسبوع الأول من هذه "الحرب التعيسة" كما سماها، بحق، الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. "ما سبب هذا الركود الظاهر على الانتفاضة"؟ - سؤال وجهه المذيع إلى شاب من غزة. فأجابه الشاب على نيته: "أما وقد وقعت الحرب فإن ينتظرون نتيجتها."

أية نتيجة ينتظرها الناس زيادة على النتائج التي ظهرت حتى الآن؟ ماذا دهى القوميين والوحدويين العرب فاستخفوا بمصير جامعة الدول العربية وبالوحدة العربية وبالتضامن العربي، وأنزلوا بهذه القانيم من شتائم ونعوت كانوا اتهموا الشيوعيين – باطلاً – بأنهم هم الذين أنزلوها بها؟! هل ينتظر هؤلاء الناس أن يقتل العرب العرب، وأن يذبح المسلمون المسلمين، وأن تحيا العروبة وينتصر الإسلام؟!

وأما عن انعكاسات هذه الحرب، الظاهرة حتى الآن، على الصراع العربي – الإسرائيلي، فحدث ولا حرج! الحرج موجود بيننا. إنما الحديث، الذي لم يعد فيه أي حرج، فهو حديث الإسرائيليين أنفسهم. ويكفيكم، في هذا الباب، فقرة وردت في مقال للمعلق السياسي الإسرائيلي المعروف، ران كسليف، نشره في صحيفة "هآرتس" بتاريخ 27/1/1991، وجاء فيها ما ترجمته الحرفية ما يلي:

"لقد نجح صدام حسين، في نهاية الأمر، في أن يفعل بالانتفاضة ما عجز عن فعله رابين وىرنس. وحقق، فعلاً، ما طالب به المستوطنون واليمين المتطرف: اليد القاسية حتى من دون حاجة إلى الاعتقالات الجماعية وعمليات الإبعاد. ولم تظهر الحاجة إلى مزيد من التلميحات حتى يدرك الجميع ما سيحدث لو أُلقيت زجاجات حارقة في نابلس في الوقت الذي تسقط الصواريخ على تل أبيب."

ويتباهون في إسرائيل بأن حرب الخليج "الثانية" هي "أول حرب انتصرت إسرائيل فيها من دون أن تطلق أية رصاصة؟! وأنهم استدروا "عطف العالم"، مادياً وسياسياً، أكثر مما كان لهم من هذا العطف في إثر "شرك حرب حزيران/يونيو" الذي أوقعوا فيه جمال عبد الناصر سنة 1967. وقامت المجموعة الأوروبية الآن بإلغاء الحظر الاقتصادي والعلمي الذي كانت فرضته على إسرائيل بسبب رفضها يد السلام الفلسطينية الممدودة إليها. وانقلبت فرنسا على الفلسطينيين.

وتجري الآن محاولة محمومة، إسرائيلية – أميركية، لمحو كل المنجزات التي حققها النضال الفلسطيني المجبلو بأغلى التضحيات، وعلى رأسها الانتفاضة – نهجاً شعبياً ديمقراطياً متميزاً وهدفاً سلمياً ديمقراطياً أصيلاً – ومبادرة السلام الفلسطينية، التي أطلقها ياسر عرفات. بالانتفاضة استعاد الشعب الفلسطيني، أول مرة منذ سنة 1936، حقه في تقرير مصيره بنفسه. وبمبادرة السلام الفلسطينية، استعاد هذا الشعب حقه في أن يكون "القرار الفلسطيني" قراراً فلسطينياً.

ولم تأت الانتفاضة الفلسطينية إلا بعد أن أدرك هذا الشعب، عبر أقسى تجربة، أنه لا يستطيع الاعتماد على "الفرج العربي". فما نزل "الفرج العربي" إلا على حكام إسرائيل لإخراجهم من ورطاتهم، المرة تلو المرة.

سيطول الكلام، بطائل أو من غير طائل، إنْ توسعنا الآن في استنباط غِيَر "الكارثة الكبرى" الفلسطينية في سنة 1948 وما بعدها حتى يومنا هذا. ولا أخفي عنكم ما أصابني وسواي من قلق "تاريخي" حين استمعنا إلى رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، النائب الليكودي إلياهو بن إليسار، وهو يتشفى منا ويقول: "مرة أخرى اختار الفلسطينيون الجانب الخاسر، ولذلك خسروا قضيتهم مرة أخرى." نحن لم نولد من الحائط، ولم نهبط على أحد من المريخ أو من زحل. فما نحن سوى أفراد من هذا الشعب الفلسطيني وذاكرة من ذاكرته. ولذلك، من حقنا أن نرى في تشفي إلياهو من إليسار مجرد تعبير عن مخطط لا غير قد يتحقق إذا نجح المخططون الإسرائيليون والأميركيون في إيقاعنا في "الشرك الكويتي" لا سمح الله. لكنهم لن ينجحوا لأن ذاكرة هذا الشعب حية بنا وبتجربته غير المنقطعة.

أما انعكاسات هذه الحرب، بعيدة المدى، فمنها ما أصبح معلوماً ومنها ما يجري الإعداد له على "أرض المعركة"، ومنها ما لم يعد العديد من دول أوروبا قادراً على تحمله – مثل الاتحاد السوفياتي وفرنسا – وهو إصرار العسكرية الأميركية على تدمير العراق، اقتصاداً وشعباً وقوات مسلحة، قبل الشروع في تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي بإخراج القوات العراقية من الكويت.

يقيناً أن شرقنا الأوسط لن يعود إلى ما كان عليه في السابق. وكان هذا التغيير هو الأمر الطبيعي لولا ان جاءت "أزمة الخليج" لتؤدي إلى إجهاضه. ويدير الأميركيون حربهم ضد العراق بشكل يريدون منه أن يؤدي إلى عودة شرقنا الأوسط إلى ما كان عليه في السابق، من حيث استمرار استنزافهم لثروات المنطقة العربية، وقيام "توازن قوي" بين دول الشرق الأوسط يضمن لهم هذا الاستمرار بأقل ما يمكن من تكاليف بشرية.

واجرؤ على توقع فشل هذا المخطط الأميركي معتمداً، في الأساس، على حقيقتين اثنتين: 1- حقيقة رفض شعوب أميركا وأوروبا تكاليف هذه الحرب؛ 2- أصالة الشعب العراقي التي ستقنع قيادته، لا محالة، بالخروج من "الشرك الكويتي" كما خرجت من "الشرك الإيراني" من دون حاجة إلى ثمانية أعوام أخرى لا يعلم أحد مبلغ الخراب الذي سيصيب المنطقة كلها فيما لو استمر هذا الحال ثمانية أسابيع لا ثمانية أعوام.

وستكون قومة شعوب أميركا وأوروبا على حكامها ضد تورطهم في هذه "الحرب التعيسة"، وكي يوقفوا هذه الحرب، مشعلاً مضيئاً أما الشعوب العربية ومثلاً يُحتذى للطلب من القيادة العراقية، في المقام الأول، إخراج شعب العراق والمنطقة كلها من "شرك الكويت".

وأشد ما يبعث على القلق هو المحاولات الاستفزازية الجارية لتحميل الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وزر هذه "الحرب التعيسة". فهو لا يقف في هذه الحرب إلا على رأس قائمة ضحاياها الطويلة – جنباً إلى جنب مع شعب العراق الطيب.

وأنه لمن الضروري استشفاف انعكاسات هذه الحرب، القريبة المدى والبعيدة المدى. لكنْ أهم من ذلك وقبل ذلك، هو أن تتضافر جهود كل الوطنيين الفلسطينيين الصادقين وكل الناس الديمقراطيين محبي السلام في العالم للعمل يداً واحدة من أجل تخفيف ضائقة هذه الحرب وويلاتها – الحالية والمستقبلية – عن ضحيتيها الرئيسيتين: الشعب العراقي والشعب الفلسطيني.

ونتمنى أن يكف أي مسؤول عربي، إنْ في هذا الجانب أو في ذاك الجانب، عن التعامل مع شعبنا الفلسطيني تعامل الرهائن أو اعتباره "كبش الفداء". فإنهم لن يسيئوا إلا إلى أنفسهم إنْ اعتقدوا أن غوغائية الأصوليين الدنيويين والدينيين تمثل ضمير هذا الشعب أو تستطيع أن تقدمه إليهم، أيضاً هذه المرة، لقمة سائغة. فهذا الشعب شعب مؤمن حقاً، والمؤمن حقاً لا يُلدغ من جحر مرتين. 

Author biography: 

إميل حبيبي: كاتب سياسي وروائي فلسطيني.